ربطتني والفنانة الاستاذة سعاد حسني -رحمة الله عليها- صداقة لمدة ست عشرة سنة، ولم أرها في حياتي سوي مرة واحدة!! أما عن يوم لقائنا الوحيد فكان في مطلع الستينيات البكير بالاسكندرية، وقت بلوغي السادسة من عمري؟! خف لزيارتنا الاستاذ الكبير عبدالرحمن الخميسي (أحد زملاء أبي في جريدة الشعب التي اصدرتها ثورة يوليو) مصطحباً تلك الفتاة الصغيرة التي كانت مثلت - لتوها منذ عامين - أول أفلامها: (حسن ونعيمة) بعد أن اكتشفها الأستاذ الخميسي، وقدمها للشاشة الفضية، لتتجلي موهبتها الفطرية، وتسكن قلوب الجماهير من اللقطة الاولي. ويومها لعبت سعاد كرة القدم - مثل الصبيان - مع أخي عماد - رحمة الله عليه - علي البلاج، وملأت الفضاء حولنا بحيوية هائلة، وكانت مثار تساؤل الجيران في الكبائن المجاورة. ومن حينها صارت سعاد حسني تعني شيئاً خطيراً بالنسبة لي، لأنها كانت أول نجمة سينمائية أراها بعيني، لا بل صار أحد جوانب افتخاري علي زملاء الفصل، ومكايدتي لهم في المدرسة، أنني التقيت تلك النجمة شخصياً، وكلما كبرت كان اسم سعاد يكبر، حتي باتت سندريللا الشاشة، ومن وجهة نظري، أفضل ممثلة في تاريخ السينما المصرية. وكان الكلام عن سعاد يقب في مناطق كثيرة من حواراتي الصحيفة، وبالذات الفنية، وأحياناً كنت أحشره حشراً، لأنني أحببت الحديث عنها. وأذكرو وصف د. يوسف إدريس لها في أحد تلك الأحاديث: »هي - يا عمرو - تيار كهربائي دافق من العفوية والتلقائية لا يصد ولا يرد. أما الأستاذ أحمد بهاء الدين، فقال لي عنها في حوار ضمنته كتابي: (حوارات الحب والفن والحرية): »أهم خصال الفنان -كما عرفتها في سعاد حسني- هي الموهبة التلقائية العفوية، وفي بدايات ظهورها كنت أول من كتب عنها في يوميات (الأخبار)، وقلت عنها بعد أن شاهدت لها فيلماً يدعي (السفيرة عزيزة) إن لديها فرصة لتصبح الممثلة الأولي في مصر. ومرت الأيام ودارت الأيام. وذات ليلة من ربيع 6891 هاتفت الأستاذ صلاح جاهين لأثرثر معه -كعادتي- عن كل ما صادفت في براحات حركتي (الجريدة ومقاهي المثقفين وكواليس المسارح وبلاتوهات السينما) فأخبرني أنه يعد أغنية جديدة لعيد الأم ستشدو بها سعاد حسني، وقال أنه سيطلبني عند التسجيل ليسمعني جزءاً منها، ولأتحدث الي سعاد. وبالفعل وجدتني في مكالمة مشتركة مع الاستاذ صلاح، وسعاد التي كانت تتدرب علي غنوة:(يا أمه يا أما يا أماتي.. إحتراماتي.. سلاماتي.. قبلاتي)، وتحدثت الي سعاد مهنئاً، ومفيضاً في الكلام عن العمل، بطريقة المثقفين المفرطة في تحليل كل شيء، فيما هي - علي رغم ذكائها - بسيطة جداً، ولكن يبدو أنها أحبت ما قلت لها، فطلبت رقم هاتفي، وأعطتني رقمها، ومن يومها صرنا أصدقاء تليفونيين. ورحل صلاح، ولكن مهاتفتي للسندريللا استمرت لنتحدث في كل شئ، ربما في نفس ما كنت أحدث به الأستاذ صلاح. وفي عام 5991 سافرت إلي عملي الجديد مديراً لمكتب الأهرام في لندن، وبعدها بفترة وجيزة جاءت سعاد الي العاصمة البريطانية لتعالج نفسها من العصب الخامس، وآلام الفك، والاسنان، ومحاولات إنقاص الوزن للتخفيف عن عمودها الفقري، وعلي الرغم من حملها مرارة كبيرة حول الطريقة التي عاملتها بها الحكومة المصرية آنذاك، فإنها كانت شديدة الإحترام، لم تعمد إلي التشهير بأحد، أو الشكوي، أو إلي نزوع فضائحي يسقط هيبة من قصروا في رعايتها، والعناية بها وفقا لقدرها الإبداعي الكبير. وكانت سعاد تري كثيرين وتلتقي زحاماً من الأطباء والصحفيين وأبناء الجالية المصرية، والعربية، إلا أنا.. حيث اقتصرت علي مكالمة تليفونية يومية طويلة، وأصرت ألا أراها. وفهمت أنها لم ترد معي - بالذات - أن تغير صورتها التي عرفتها بها مشاهداً لكل شريط سينمائي مثلته، وبلغ من شدة حرصها علي ألا أراها، أنها حين جاءت إلي مكتبة »الأهرام« في إدجوار رود سألت العاملين تليفونياً قبل حضورها - لتبتاع الجرائد المصرية - عما إذا كنت انصرفت أم لا. وحين سجلت رباعيات صلاح جاهين بصوتها في ستوديوهات MBC، وعرفت أنني سأنزل إلي القاهرة في إجازتي السنوية، طلبت مني توصيل الاشرطة للإذاعية الشهيرة الأستاذة نادية صالح، وهنا تهللت صائحاً: »أخيراً ح أشوفك يا سعاد«، فقاطعتني بلهفة: »لا.. أرجوك.. ارسل سائقك إلي عنواني، وسأضع له الأشرطة أمام الباب. تحت الدواسة وحين تصلك ارجوك أبلغني للاطمئنان«، وفعلت ما طلبت مني، ثم تواصلت علاقتنا التليفونية مرة أخري حين عودتي، وحكيت لها عن أمر أثار حيرتي وقتها، وهو اتصال زميلي الاستاذ محمود موسي المحرر الفني بالأهرام ليخبرني أن الاستاذ أحمد زكي والمنتج الاستاذ حسين القللا يريدان شراء روايتي (الأشرار) لتصبح فيلماً من بطولة زكي. وما أثار حيرتي أنني كنت انقطعت عن أحمد زكي لمدة طويلة جداً بعد أن تعرفت عليه في رحاب الاستاذ صلاح جاهين، وقت أن كان يحفر الصخر بحثاً عن النجومية، وكثيراً ما قلد لنا الرئيس السادات بطريقة مذهلة، صقلها وأكدها بعد ذلك بعقدين في فيلم (أيام السادات). ولم أرسل إلي أحمد روايتي (الأشرار) أبداً، ولا أظن أن مشاغله كانت تسمح بقراءة رواية إلا إذا رشحها له أحد. ولما حكيت لسعاد لم تطفيء نار استغرابي أو فضولي، ونزلت الي الوطن في إجازة أخري، وصحبني محمود موسي إلي أحمد زكي في فندق هيلتون رمسيس الذي كان يقيم به، وسجلت معه حواراً طويلاً عن فن التشخيص، ضمنته كتابي (علي ضفاف الثقافة)، ودعاني الممثل الكبير يومذاك إلي إفطار رمضاني في الفندق، ولم أتوقف طوال الجلسة عن سؤاله: (من الذي رشح لك »الاشرار«)؟ ولكنه كان يصمت ويبتسم في مكر. وبعد فترة، قدرت أنني أنجزت مهمتي في لندن، وتعلمت ما خططت لتعلمه، فطلبت عودتي الي القاهرة، ولكنني أُرغمت علي تولي مهمة أخري كمدير لمكاتب »الأهرام« في الولاياتالمتحدة، ومن دون فترة فاصلة، يعني من لندن إلي واشنطن مباشرة. وفي آخر أيامي البريطانية، رن جرس الهاتف، وسمعت صوتي سعاد علي (الانسر ماشين): »عمرو.. افتح بسرعة. أنا عرفت إنك مسافر بكرة.. وعايزة أسلم عليك«، وهرعت إلي الهاتف أحدثها، وكانت طيبة جداً في مكالمتها، وودعتني بكلمات مؤثرة ختمتها: (إنت بقي يا سيدي عايز تعرف مين رشح »الاشرار« لأحمد زكي.. أنا.. وعايزة أقولك لو الظروف كانت مختلفة إني كنت أحب قوي أمثل بطلة الرواية دي). وسافرت إلي أمريكا - التي لم أحبها أبداً - باستثناء ما يخص العمل الذي تعودت تأديته في أي ظروف. نهايته.. تواصلت حلقات مهاتفاتي مع سعاد حسني من واشنطن، وحكيت لها عن كل شيء، وعن الفارق بين برود واي (شارع المسارح في نيويورك)، والوست إند (منطقة المسرح والفن في لندن). وكانت تطورات علاجها تشغل قسماً ثابتاً من تلك المكالمات، وذات يوم أتذكره لأنه كان في ذكري حرب يونيو (5 يونيو 1002) وحكيت لها عن الأفلام الوثائقية الكثيرة حول المناسبة التي احتلت شاشة التليفزيون الأمريكي، وطلبت مني أن أسأل أحد المراكز الطبية الأمريكية عن التكاليف التقريبية لعلاج العصب الخامس، وعدة عمليات تجميلية أخري، وقلت لها أن ذلك يختلف - بالقطع من حالة إلي أخري، فقاطعتني: (تقريبا.. تقريباً يا أخي) فوعدتها بالرد وسألت صديقي الدكتور أحمد علي أخصائي جراحة الكلي في أمريكا (من دون إفصاح عن شخصية المريضة) فقال أنه سيسأل المركز الذي يعمل به، وسيرد بمقايسة Estimate مكتوبة، وأرسلها لي الدكتور أحمد علي - فعلاً - يوم 21 يونيو 1002.. يوم وفاة سعاد حسني. ولهذه الحكاية بالذات لم أصدق أن سعاد حسني انتحرت من شرفتها في ستيوارت تاور بالعاصمة البريطانية!