يكبرُني زميل الدراسة أ.د مصطفى سويف بحوالي شهرين فتاريخ ميلاده 17 أغسطس 1924 و تاريخ ميلادي 14 أكتوبر1924 , و كان لقاؤنا الأول بقسم الفلسفة بكلية آداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) في خريف عام 1941 و كنت قد التحقت بهذا القسم تحقيقاً لرغبتي , فقد ضغط عليّ والدي و معارفه للالتحاق بتوجيهية (كما كان يطلق عليها) القسم العلمي أملاً في الالتحاق بكلية الطب , لكن لحسن الحظ لم يكن مجموع درجاتي يؤهلني الا للالتحاق بكلية العلوم , فكانت فرصتي لأحقق رغبتي للالتحاق بقسم الفلسفة الذي كنت أعتبره في تلك السن المبكرة مدخلي إلى المعرفة الشاملة . و هناك التقيت بالزميل مصطفى سويف, ومجموعة ازدهرت فيما بعد مثل محمود أمين العالم و أمين عز الدين و بهيج نصار و أسعد خليل , ثم بدر الدين الديب و انيس منصور اللذين التحقا بالقسم في السنة التالية , ثم عبد الغفار مكاوي (الصديق و الدكتور فيما بعد) و الشابة المزدحمة بالحيوية أميرة مطر (الأستاذة و الدكتورة فيما بعد و زميلتي في عضوية مكتبة الإسكندرية) و ذلك بعدها بأربع سنوات . و ما لبثت أن تحولت زمالتنا الناشئة إلى صداقة كان من مظاهرها تزاورنا المتبادل : الصديق مصطفى سويف في عابدين و يوسف الشاروني في حي مصر القديمة , لكن يبدو أن القدر لم ير الاكتفاء بهذه العلاقة التي توطدت بسبب ميولنا الأدبية المشتركة آنذاك , فقد كنت أكتب القصة القصيرة و ما أطلق عليه «النثر الغنائي» , وأخي مصطفى بدأت تناوشه طلائع رواية على ما أتذكر , بل حدث ما جعل صلتنا أكثر حميمية , فقد سمعنا أن هناك من يلقي محاضرات في المادية الجدلية و دفعنا حب الاستطلاع الشبابي و نهمنا إلى طَرْق كل أبواب المعرفة إلى حضور هذه المحاضرات التي لم تكن مادتها مما ندرسه , لكن كان لجهاز الأمن رأي آخر , فما لبث أن قُبض علينا مع زميل ثالث هو الراحل محمد جعفر زميلنا بقسم الفلسفة (الذي أصبح فيما بعد مفتشا للفلسفة في وزارة التربية و التعليم وابنته الدكتورة رباب الأستاذة بمعهد السرطان زوجة أ.د حسين خالد العميد السابق بمعهد السرطان بالقاهرة) و اعتُقلنا تسعة أشهر بتهمة قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة , وكان ذلك في بدء الإجازة الصيفية بعد نجاحنا في السنة الأولى , و حتى بداية العام الميلادي 1943 حين أفرج عنا القضاء دون أي محاكمة باعتبارها تهمة باطلة المقصود منها إرهابنا . و قد سجلت هذه الواقعة في قصة قصيرة لي عنوانها «رمضان في قره ميدان» فقد كان اعتقالنا في هذا السجن الذي كان بجوار القلعة و أزيل الآن باعتبارنا مجرد متهمين غير محكوم علينا بحيث كنا نتلقي وجباتنا الثلاث من متعهد تتفق معه أسرنا لإحضارها , و عندما أقبل شهر رمضان رأيت و - أنا المسيحي - أن أشارك الزملاء صيامهم مما أوحى لي بهذه القصة . وعندما أُفرج عنا وعدنا إلى الكلية قدمني د.لويس عوض مدرس اللغة الإنجليزية إلى الطلبة في مدرج 87 في إحدى محاضراته التي كانت تجمع بين طلبة قسميْ الفلسفة و اللغة العربية باعتباري بطلاً خارجاً من المعتقل , و تمت علاقات بيننا وبين طالبات الكلية إنتهى بعضها بالفشل و تحقق بعضها الذى كان من بينه زواج مصطفى سويف (الدكتور فيما بعد) بالزميلة فاطمة موسى (الدكتورة فيما بعد) من خريجات قسم اللغة الإنجليزية و من الطرائف التي أتذكرها أنه كانت في «دفعتنا» طالبتان فقط لا علاقة لهما بزملائهما على الإطلاق , على عكس علاقاتنا بزميلات الأقسام الأخرى لا سيما قسما الإنجليزية و العربية (و أنا كتبت قصتي «العشاق الخمسة» التي كانت عنوانا لأولى مجموعاتي القصصية عام 1954 عن أبطالها الخمسة الذين أحبوا زميلة لهم حبا رومانسيا كانت تكثيفا لثلاث زميلات و تنتهي القصة بمفاجأة البطلة بدعوة زملائها لحضور حفل زفافها على أحد أساتذتهم . و مما أتذكره أنني في إحدى زياراتي لزميل الدراسة مصطفى سويف في بيته بعابدين إلتقيت برجل يخرج من بيته عند دخولي , فلما خرج ذكر لي أنه والد إحدى زميلتينا بالقسم التي اشترط عليها والدها ألا تتجاذب الحديث مع أي زميل إذا أرادت الاستمرار في الدراسة , فلما اضطرت إلي التغيب لمرضها اضّطر والدها بدوره إلى الذهاب إلى بيت زميلها مصطفى سويف – ولا أعرف كيف عرف عنوانه - ليستعير المحاضرات التي تغيبت عنها ثم يردها له . وكانت يجمعنا أيضا في سنوات الدراسة بكلية الآداب جمعية الجرامافون التي أنشأها د. لويس عوض , كنا نجتمع في إحدى غرف قسم اللغة الإنجليزية , و يعد لنا د. لويس عوض بعض الأسطوانات المسجلة عليها الموسيقى الغربية الكلاسيكية لموسيقيين ألمان و روس و إنجليز و فرنسيين مما كان أحد مكوناتنا الثقافية , و كان يشاركنا في الاستماع بعض طلبة كلية الحقوق المجاورة أذكر منهم محمد عودة , و الضابط الشاعر فيما بعد حسن فتح الباب و عقب تخرجنا قررنا مصطفى سويف و محمد جعفر و أنا الانضمام إلى أصدقاء لهم تخصصات مختلفة لتكوين مجموعة تجتمع أسبوعيا لمناقشة أدبية أو علمية , و قد انضم إلينا طالبا الطب : فؤاد محيي الدين الذي أصبح رئيساً لوزراء مصر فيما بعد , و حسن عواض الذي أصبح عميداً لمعهد السرطان , و طالب الهندسة إسماعيل السيوفي ابن أحد كبار العاملين بالقصر الملكي و الذي أصبح وكيلاً للوزارة بقطاع الكهرباء بالاسكندرية فيما بعد , كما انضمت إلينا أكثر من زميلة منهن فاطمة موسى (الدكتوره فيما بعد و زوجة زميلنا مصطفى سويف) وأنجيل بطرس سمعان (الدكتورة فيما بعد و الأستاذة بقسم اللغة الإنجليزية وزوجها أ. جرجس الرشيدي الذي أصبح وكيلاً بوزارة التعليم فيما بعد) كنا نجتمع بصفة دورية لمناقشة كتاب أو رواية فيستفيد الأدباء من العلماء , و العلماء من الأدباء و عندما أصدر د. طه حسين مجلة الكاتب المصري عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية قادنا طموحنا : مصطفى سويف و محمود أمين العالم و أنا إلى مقابلة رئيس تحريرها د. طه حسين , فاتصلنا بسكرتيره فريد شحاته , و عندما أبلغ د. طه برغبتنا رحب بنا , فذهبنا للقائه بفيلا رامتان التي كان قد بناها حديثا بطريق الهرم , و أمضينا معه حوالي ساعة و نصف الساعة في مكتبه المزدحم بالكتب , و في حديث ودي بين جيلين استفسر منا عما نقرأ و عما نكتب و عن دور مجلة الكاتب المصري , لكنه لم يدْعُنا إلى المشاركة للنشر في مجلته و هو ما كنا نطمح إليه . و قد عملت بعد ذلك مع د. طه حسين في بدء حياتي العملية حين كان يرأس لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب و العلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة فيما بعد) سكرتيرا لهذه اللجنة و كان يعاملني كأني أحد أعضائها . و قد توترت العلاقة بين زميلنا مصطفى سويف و أستاذه د. يوسف مراد و هو يعد رسالة الدكتوراه بسبب طلائع إصابة أستاذه بالزهايمر (و هو مرض لم يكن معروفا بعد في مصر في ذلك الوقت) , و أذكر أنني زرته في بيته في تلك المرحلة فوجدته ثائراً دائم الهجوم على د. نظمي لوقا لأنه بدا له أنه يهاجمه , وقد شكا لي الصديق مصطفى سويف من تصرفات أستاذه حتى أنه كان يفكر في تأجيل مناقشة رسالته , فذكرت له تصرفه معي و أنا من أحب تلاميذه و من كتَّاب مجلة علم النفس التي كان يصدرها كما كان مصطفى سويف من كتابها – ذلك أنني كنت وقتئذ منتدبا للعمل بالسودان فلم أحضر المحاضرات التمهيدية للإعداد لدرجة الماجستير التي كنت قد اخترت موضوعها «الحلم و الإبداع الأدبي» , فمرّ أثناء الامتحان الذي يُعقد قبل إعداد الماجستير بجانبي و قال لي : أنت لم تحضر محاضرات السنة التحضيرية للماجستير , فأبلغته أنني كنت متغيبا عن مصر , وعند الاطلاع على نتيجة الامتحان وجدتني راسبا في علم النفس و ناجحا بامتياز في المادتين الأخريين اللتين لم أتخصص فيهما , فاتصلت به معاتبا فوعدني بالنجاح في المرة القادمة , ولا أذكر الآن إذا كنت قد دخلت الملحق أم سد نفسي هذا التصرف , و صرفني الإبداع الادبي لتُناقش كتاباتي في أكتر من رسالة جامعية في مصر و في الخارج . و ختاما أذكر واقعة طريفة , فقد كان الشاب وقتئذ شاكر عبد الحميد يعد رسالته في علم النفس مع أستاذه الدكتور مصطفى سويف عن الإبداع الأدبي في القصة وكنت أحد الذين لجأ إليهم في الجانب التجريبي طالب الماجستير شاكر عبد الحميد من رسالته عن كتَّاب القصة , يعد لنا أسئلة محددة علينا أن نجيب عليها لمحاولة الوصول إلى أسرار الإبداع الأدبي عموما والقصصي بوجه خاص , و قد أحاط بالظروف و الدوافع , لكن لا أظن أن أحدا وصل إلى سر الأسرار , فعلى سبيل المثال نحن ثلاثة إخوة في أسرة واحدة , أنا أكتب القصة و النقد , و أخي يعقوب يكتب قصة الأطفال , و ثالثنا الراحل صبحي الشاروني أستاذ النقد التشكيلي . المهم أنني عثرت بالصدفة في مكتبتي على رسالة الماجستير في الإبداع الأدبي للطالب شاكر عبد الحميد و عليها ملاحظات أ.د مصطفى سويف بخط يده , فقابلته في مكتبه حين تولى وزارة الثقافة مؤخرا وسلمته النسخة الأثرية . كانت مرحلة حضانة خصبة لكلينا , بعدها انطلق كلُُّ منا , أ.د. مصطفى سويف للإبداع العلمي , و أنا للإبداع الأدبي . تهنئتي بأعوامك التسعين المزدحمة بإبداعاتك العلمية و البشرية الذين يحتشدون اليوم للاحتفال بمشوارك الإيجابي الخلاق .