"الري" تكشف كيفية مواجهة التصرفات غير المنضبطة للسد الإثيوبي    وزيرة التخطيط تبحث مع نائب رئيس البنك الآسيوى للاستثمار تطوير العلاقات    محافظ كفر الشيخ يستمع لطلبات أهالى سيدى سالم.. ويؤكد: المواطن شريك في التنمية    وزير الحرب الأمريكى: تشكيل قوة مشتركة جديدة لسحق عصابات المخدرات فى الكاريبى    زيلينسكى: ما حققه ترامب فى الشرق الأوسط يثبت قدرته على وقف الحرب الروسية    منتخب إنجلترا يعلن إصابة كوانساه قبل مواجهة لاتفيا بتصفيات المونديال    محمود صبرى يحرز برونزية المجموع فى بطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبية    بن شرقي يحصد جائزة أفضل هدف في الجولة العاشرة من الدوري المصري    القسم الثالث .. إعادة مباراة دمياط وبورتو السويس    تأجيل دعوى إلزام "المطابع الأميرية" بنشر تعديلات قانون الإجراءات الجنائية ل17 يناير    بتهمة خطف طفل وهتك عرضه,, السجن المؤبد لعامل بقنا    قيل بيعها في السوق السوداء.. ضبط مواد بترولية داخل محل بقالة في قنا    ختام مهرجان "جيلنا" باسم الفنان لطفي لبيب.. تتويج "قاهرة" لأحمد علاء إسماعيل بجائزة أفضل فيلم قصير    اليوم، عرض أولى حلقات مسلسل اللايت كوميدي "لينك"    مدبولى يتفقد مشروع مستشفى طوخ المركزى.. ويؤكد: جاهز للافتتاح نوفمبر المقبل    معهد فلسطين لأبحاث الأمن: اتفاق شرم الشيخ يعكس انتصار الدبلوماسية العربية    غدًا.. محاكمة 60 معلمًا بمدرسة صلاح الدين الإعدادية في قليوب بتهم فساد    القنوات الناقلة لمباراة الإمارات وعُمان مباشر اليوم في ملحق آسيا لتصفيات كأس العالم    سكالوني يكشف سبب غياب ميسي عن ودية فنزويلا وموقفه من المباراة المقبلة    تقديم 64 مرشحًا بأسيوط بأوراق ترشحهم في انتخابات النواب    «الري»: التعاون مع الصين فى 10 مجالات لإدارة المياه (تفاصيل)    موسكو: بوتين يرى أن تعزيز العلاقات مع كوريا الشمالية أمر بالغ الأهمية    الجو هيقلب.. بيان عاجل من الأرصاد الجوية يحذر من طقس الأيام المقبلة    الداخلية تكشف تفاصيل ضبط سائق يسير عكس الاتجاه بالتجمع الخامس ويعرض حياة المواطنين للخطر    إحالة أوراق المتهمة بقتل زوجها وأطفاله الستة في المنيا إلى المفتي    الداخلية تكشف حقيقة سرقة شقة بالدقي    منظمة العمل العربية تطالب سلطات الاحتلال بتعويض عمال وشعب فلسطين عن الأضرار التي سببتها اعتداءاتها الوحشية    «المشاط» تبحث مع المفوضية الأوروبية جهود تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون CBAM    تفاصيل لقاء السيسي بالمدير العام لليونسكو (صور)    أحمد مجدي: مهرجان الفيوم السينمائي يتطلع ليصبح منصة عالمية للسينما والتنمية المستدامة    إيهاب فهمي: "اتنين قهوة" يُعرض في ديسمبر | خاص    اكتشاف قلعة عسكرية جديدة من عصر الدولة الحديثة بسيناء    في 3 أيام.. إيرادات فيلم هيبتا 2 تقترب من 11 مليون جنيه    المدير التنفيذي للهلال الأحمر ل«الشروق»: خطة إنذار مبكر ورفع جاهزية الفروع استعدادا لفصل الشتاء    رئيس جامعة السويس: إدراج الجامعات المصرية في تصنيف التايمز العالمي يعكس تطور التعليم    منها تنظيم السكر وتقليل التوتر.. 7 فوائد صحية لبذور اليقطين    إنفلونزا المعدة.. تعرف على الأعراض وطرق الوقاية من العدوى    «المشاط» تبحث مع المفوض الأوروبى للبيئة جهود تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون    رئيس الوزراء يتفقد مصنع "تي آند سي" للملابس الجاهزة بالقليوبية.. ويوجه بدعم التوسع في الإنتاج والتصدير    عاجل- الدفاع المدني في غزة: 9500 مواطن ما زالوا في عداد المفقودين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 11-10-2025 في محافظة الأقصر    في اليوم العالمي للفتاة.. التعليم العالي: نحو 2 مليون طالبة في الجامعات والمعاهد العليا    الرباعة سارة سمير بعد التتويج بثلاث فضيات ببطولة العالم: دايمًا فخورة إني بمثل مصر    العرفاوي: لا ندافع فقط في غزل المحلة.. ونلعب كل مباراة من أجل الفوز    حان وقت تغيير ساعتك.. كيف تواجه تحديات التوقيت الشتوي؟    «التضامن» تبحث مع مدير مشروع تكافؤ الفرص «EOSD» بالوكالة الألمانية دعم مشروعات الحماية الاجتماعية    انتخابات النواب: رقمنة كاملة لبيانات المرشحين وبث مباشر لمتابعة تلقى الأوراق    الأزهر للفتوى: حرق قش الأرز حرام لما فيه من إفساد في الأرض وإضرار بالنفس والبيئة    الرعاية الصحية: تعزيز منظومة الأمان الدوائي ركيزة أساسية للارتقاء بالجودة    وكيل وزارة الزراعة بالقليوبية يتفقد عددا من أماكن تجميع قش الأرز    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لمشروع التطوير العمراني لعواصم المحافظات    منها «القتل والخطف وحيازة مخدرات».. بدء جلسة محاكمة 15 متهما في قضايا جنائية بالمنيا    أكسيوس عن مسؤول أميركي: نتنياهو لن يحضر القمة التي سيعقدها ترامب بمصر    أسعار اللحوم اليوم السبت في شمال سيناء    تعرف على فضل صلاة الفجر حاضر    «رغم زمالكاويتي».. الغندور يتغنى بمدرب الأهلي الجديد بعد الإطاحة بالنحاس    فتاوى.. بلوجر إشاعة الفاحشة    فتاوى.. عدة الطلاق أم الوفاة؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألاجيو

تساءل سائق سيارة الإسعاف : ألايوجد هنا سكان ؟ للحظات لم يرد عليه المسعف الذي يجلس جواره ثم قال : ربما نقابل ساكنا أو اثنين . العادة أنهم يأتون في الصيف . بدا سائق سيارة الإسعاف في ضيق وهو يمضي بها في طرق متربة ضيقة. هو من القاهرة ولم يحدث أن نقل مريضا إلي الاسكندرية . وبالطبع لم ينقل مريضا إلي هنا .
كانت سيارة الإسعاف تتحرك علي مهل فوق المطبات بين فيللا تبدو مهجورة . المسعف جوار السائق يبدو مندهشا من المكان وأمامهما سيارة مرسيدس سوداء يتابعانها يقودها رجل الأعمال سامر الدريني . تساءل السائق من جديد :
المنطقة اسمها العجمي . أليس كذلك ؟
الأستاذ قال الهانوفيل .
أجاب المسعف ولفهما الصمت . سيارة الإسعاف تسيرعلي مهل في شوارع لا تتسع لأربعة أمتار, وتتلوي كثيرا وهما يتابعان العربة المرسيدس السوداء .
السائق ينظر إلي الفيللا التي يبدو بعضها جميلا وبعضها مهملا . الجميل محاط بالأشجار وحدائق بينها حمامات سباحة خالية من الماء . لقد ابتعدوا كثيرا عن العمارات التي تشغل الطريق العام وطريقين أو ثلاثة بعده من ناحية البيطاش حتي صاروا بين الفيللا فقط . لكن الطريق لم تنقطع منه المياه العفنة تظهر بين الحين والحين وتزداد كلما تقدموا وتعلو علي الأرض . قال المسعف :
المجاري طافحة في كل مكان .
رد السائق :
يبدو لي أنها مياه جوفية أيضا . الظاهرأنهم يعتمدون علي الصرف التقليدي . آبار أمام البيوت تأتي سيارات الصرف الصحي لنزحها عند الطلب . لقد رأيت أغطية كثيرة من الحجارة للآبار في الطريق . أنظر .
وأشار إلي غطاء يبدو قطعة من الخرسانة المربعة التي يصل ضلعها إلي متر تقريبا تغطي بئرا ترتفع جدارها الدائري قليلا عن الأرض .
معك حق . لكن هل تفعل المياه الجوفية هذا ؟
هوه هوه هوه . يمكن أن تهدم البيوت . ربنا يكون في عون أصحاب الفيللا هنا والعمارات طبعا .
شملهما الصمت من جديد وهما يتابعان السيارة المرسيدس علي مهل .
بدا السائق متحيرا للغاية لكنه هز كتفه في لامبالاة وأستمر يقود سيارة الإسعاف .
توقفت السيارة المرسيدس فتوقف السائق بسيارة الإسعاف. نزل من المرسيدس رجل في حوالي الخمسين من العمر يرتدي بدلة فوقها بالطو ووتر بروف أزرق أنيق , وجهه مستدير أبيض يميل إلي الإحمرار , شعره أسود مشت فيه علي الجانبين خيوط بيضاء قليلة , وأقبل علي سائق سيارة الإسعاف قائلا :
هذه فيلتنا . دقيقة واحدة .
نزل السائق الذي نظر حوله فوجد متسعا من الأرض بين الفيللا . كان من بين الفيللا مبنيان يرتفعان إلي أربعة أدوار بدوا مهجورين تماما. لقد ارتفعت داخلهما المياه فيما يبدو وحاصرت الحيطان فنشعت من جدران الدور الأول إلي الخارج وعلتها طحالب خضراء . كان المسعف قد نزل بدوره ووقف جواره .
ياه . واضح أن السكان طفشوا فعلا من زمان .
قال السائق ذلك وهو يشير إلي حائط منشع بالمياه لكنه رأي عصفورا صغيرا يحط واقفا علي الجدار وينقر في الطحالب الخضراء ثم يطير يرفرف عاليا ويختفي فقال :
سبحان الله .
كان المسعف يقف معه علي الأرض المبللة بالماء الذي يرتفع أكثر عند جوانب كل المباني . وقفا يتطلعان إلي الفيللا التي يدور حولها سور من الحجر يرتفع لأربعة أمتار أو أكثر يتوسطه باب من الحديد مؤد الي مدخل طويل مرصوف بالرخام ينتهي إلي باب الفيللا التي تحيط بها حديقة كبيرة . ترتفع الفيللا لدورين من الحجر الدبش لا ألوان عليها لكنها بترتيبها صنعت أشكالا هندسية جميلة . المدخل علي جانبيه أشجار كافور وجازورين عالية خضراء مثل التي تحيط بالحديقة خلف السور وترتفع عنه كثيرا جدا وبينها أشجار أكاسيا وسنديان . للسور باب حديدي عالي ينفتح علي المدخل الذي هو باحة تتسع للجلوس أيضا .
ترك المسعف السائق لحظات فتح فيها باب سيارة الإسعاف الخلفي وعاد :
الحمد لله . كل شئ في مكانه . لكن ...
ماذا ؟
تساءل السائق فقال المسعف :
رأيتها تبتسم .
كان سامر قد فتح البوابة الحديدية للسور ثم فتح الباب الخشبي للفيللا . ما إن فتحه حتي اندفعت المياه خارجة منه بقوة إلي حذائيه . وقف حائرا لحظة . الماء ارتفع من الأرض في غيابهما وغطي الأرضية الباركيه وارتفع فوقها لعشرة سنتيمترات علي الأقل . وقف سامر ينظر إلي الأرضية الباركيه المغطاة بالماء الذي ارتفع إلي أرجل المقاعد والسفرة والنيش والمكتبة وقاعدة البيانو . صعد السلم الداخلي بسرعة إلي الدور الثاني يعد السرير لاستقبالها . «ريم «.
في الخارج كان المسعف لا يزال يقف مع السائق الذي ينظر حوله ويقول :
المكان مهجور لكن الشمس حلوة جدا .
الشمس الحانية تسكب نورها ودفئها علي المكان فالساعة الثانية ظهرا . هناك سحب سوداء حقا لكن متناثرة بعيدا في السماء . الشمس والفراغ يعطيان إحساسا بالاتساع يقلل من وحشة البيوت الخالية من السكان . قال المسعف فجأة وهويشير إلي الأرض :
الله . هدهد .
كان هدهد يتقافز علي الأرض ويبتعد ثم يطير بعيدا في الفضاء . لكن السائق قال :
قلبي حاسس أن وراء الاستاذ لغزا . هل هي زوجته فعلا ؟
يبدو لي رجلا مهما , ثم أننا أخذناها من معهد السرطان وهي مقيدة هناك باسمها كزوجته .
لكن مريضة بالسرطان كيف يأتي بها الي مكان خال كهذا . إنها تحتاج رعاية كبيرة جدا .
سكت المسعف لحظات يفكر ثم قال :
معك حق . لكن ربما سيأتي أحد من أهلها أو أقاربها . لابد أن لهما أقارب هنا .وإلا ...
إلا ماذا ؟
يكون مجنونا ؟
بصراحة رغم أنه يبدو رجلا مهما لكن أن يأتي بمريضة هنا يعني أنه مجنون .
قال السائق ذلك شاردا لكن سامر كان قد ظهرعائدا يقول :
الصالة في الدور الأرضي نشعت في أرضيتها المياه . وضعت لكما عددا من البلاط تتحركان عليه . انقلوها للدور الثاني من فضلكم . سأكون معكما .
ينظر سامر الي البيانو الكبير أمامه . يشغل مساحة كبيرة لكن الصالة متسعة بها أيضا منضدة سفرة كبيرة حولها اثني عشر مقعدا , ونيش يمتلئ بالفضيات وقطع الصيني والأركوبال والبايركس والزجاج والكريستال من أدوات الطعام والشراب . وسط السقف نجفة من الكريستال والنحاس كبيرة ومتدرجة الأدوار تراها في القصورالقديمة . لقد اشتري كل النجف من محلات العاديات القديمة وكانت ريم دائما التي تختار . المقاعد الوثيرة متفرقة علي الجدران .
كل شئ هنا غير البيانو من إنتاج مصنعه للأثاث الشرقي . الخشب الماهوجني أو الأبنوس أو البلوط أو الجوز أو الزان كله مطعم بالصدف وفي بعض الأحيان العاج أوالزجاج .علي الجدران نسخ من لوحات لرينوار وديجا وبيكاسو وصور لخاتشادوريان وشوبان وموزار وسترافينسكي وفرانز ليست ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش وعمر خيرت , وكلها في براويز خشبية صنعت وجهزت في مصنعه بإيدي عمالة المهرة مطعمة جوانبها كلها بالصدف .
الآن لا يسمعها تطلب منه إضافة صورة أو شئ جديد إلي المكان . بدت له الترابيزات الصغيرة المطعمة أقدامها وحروفها الدائرية بالصدف صامتة بلا حياة . كذلك بدت المقاعد الخشبية الأربعة الصغيرة المتفرقة في الأركان والمطعمة بالصدف في الأجناب والقواعد والظهر والتي يسهل تطبيقها والإنتقال بها إلي أي مكان . لايريد أن يتذكر أنها كانت تملأ ليالي الصيف هنا بعزفها . ولا أنها كانت تفعل ذلك في القاهرة أيضا . يريد أن يراها تفعل ذلك .
جليو بلاستوما«glio plastoma» . نوع مقاوم من السرطان إذ وصل الي المرحلة الخامسة . كان يمكن أن نلحق به لو تم اكتشافه في بدايته , مرحلته الأولي أو الثانية . لكنه خطأ الأطباء . هنا وفي فرنسا نفسها لم يكتشفوه من البداية . كيف اجتمع الأطباء في أفريقيا وأوروبا علي القراءة الخطأ للأشعة . لا تفسير إلا القدر .
قالوا صرع . صرع في الثانية والأربعين من العمر بسبب كهرباء زائدة في المخ . صرع في عائلة لم تعرفه من قبل . ليس حزينا الآن علي فراقها المحتوم . علي يقين أنها ستعيش . كيف ؟ مادامت القصة بدأت بالخطأ فستنتهي بالخطأ ولن تكون هي المستهدفة بالموت ! ثم من قال إنها في غيبوبة . إنها تملأ حوله كل الفضاءات . يجريان في ساحة بالرباط بين أسراب الحمام فتسبقه ويقف يضحك . لقد ازداد وزنه هو الذي حرص دائما أن يكون رشيقا . هي الحمامة التي يمكن فجأة أن تلتحق بأسراب الحمام في السماء . صورهما معا أحضرها معه . وضعها حولها فوق السرير . قد تفوق من الغيبوبة لدقيقة وتراها . في الرباط وباريس وفيينا وفرانكفورت وروما والنمسا وموسكو . مئات الصور حوله الآن من كل الدنيا . كلها تتحرك . إنها تخرج من الصورة وتمشي أمامه وحولهما الجنود يعزفون مارش السلاف . تمشي معه وسط الجنود الروس متقدمين لإنقاذ الجنود الصرب في حربهم ضد جيوش العثمانيين . هو الذي يحتاج الآن إلي من ينقذه , وهي التي ستؤلف مقطوعة النصر وليس تشايكوفسكي . انتهي لكنها تطلب منه أن يرفعها قليلا عن الأرض التي ترتفع فوقها المياه . إنها تقف خلفه علي البلاط الذي وضعه من أجل ذلك . تطلب منه أن يأخذها معه الي السماء . القدر لبيتهوفن . صوت الموسيقي يملأ الحجرة الواسعة بملائكة تضحك . ماذا تريد ياحبيبي أن أعزف الليلة ؟ ما تشاءين لفرانز ليست سوناتا أو كونشيرتو للبيانو . «هيا نرقص علي التارانتيلا , أعظم ماخرج به ليست من رحلة ايطاليا . سنوات الحج كما أسماها «.
يحيطها من الخلف وهي جالسة إلي البيانو تضحك . يضع يده علي صدره يمسك بيدها التي وضعتها علي صدره من الخلف الآن وهو يجلس الي البيانو يضحك !. يعزف بيد واحدة . يبتسم . ينزل بيده حزينا يساعد الأخري في العزف . مصري ؟ أجل . يهتف الشاب المغربي الفقير الذي يتوسط الفرقة الموسيقية الشعبية حين يراهما أمامه . يعزف لهما ويغني « كتاب حياتي ياعين ما شفت زيه كتاب . الفرح فيه ساعتين والباقي كله عذاب « يرتبك . لكنها تضحك . يضحك . هي التي طلبت منه أن يأتي بها إلي طنجة . قالت له أريد أن أقف علي المحيط الاطلنطي وهو يتصل بالبحر المتوسط . أريد أن أكون بين عالمين قبل أن أموت . لن تموتي ياحبيبتي . يذهب بها إلي محل السمك الذي أحبا حكاية صاحبه أول مرة أتيا هنا .» أنا كنت لصا . أهرّب البضائع إلي اسبانيا وآتي بالبضائع منها . في ليلة كنت أجلس هنا وحدي أنتظر سيارة صديق يقلني إلي مركب ستأخذني في البحر تعبر بي مضيق جبل طارق . كنت آكل . مرّت امرأة فقيرة طلبت مني قطعة من الطعام . أعطيتها ما في يدي . مشت سعيدة . بعد شهر كنت أجلس في المكان نفسه آكل . رأيت السيدة نفسها أمامي . كنت نسيتها لكني توقعت أنها كالسابقة ستطلب مني طعاما كما حدث من قبل . قالت لي مبتسمة « لست جائعة . ألا تذكرني « قلت « نعم « . قالت أنا التي أطعمتني منذ شهر هنا . هل تعرف ماحدث لي ؟ قلت « لا «. قالت «كنت عاقرا فحملت . إنه طعامك سيدي «.
قررت بعدها أن أقلع عن السرقة وأفتح هنا مطعما للسمك . النساء اللاتي تأكلن هنا يعرفون أن في المكان سر الخصوبة «
ضحكا كثيرا ذلك اليوم . المطعم كله مبني بالخشب . المقاعد من الخشب والمناضد والأطباق والملاعق والشوك . لاشئ من حديد أو فضة أو غيرها من المعادن هنا . «لا شئ صناعي . إختصر الطبيعة . الطبيعة هي الخصوبة سيدي «.
ضحكا كثيرا أيضا وهما يتغديان كل يوم وصاحب المطعم يعيد الحكاية . أعجبه المكان , هو صاحب مصنع الأثاث الشرقي الذي يجمع بين الاصالة والمعاصرة . وأعجبها هي الفنانة التي أحبته هو لذلك . لثلاثة أيام وارتحلا إلي فرنسا بعد أن وقفت في مغارة هرقل علي يمينها البحر المتوسط وعلي يسارها المحيط الأطلنطي . لم تأتها نوبة الصرع في المغرب . أخفيا ذلك عن كل الناس .
لم تعد تعزف في أي مكان منذ عام . تعتذر عن كل السفرات والدعوات للمشاركة في العزف . صار موقفها محل دهشة في دار الأوبرا في مصر . لا أحد يعترض ولا أحد يقتنع . غادة عازفة البيانو التي حلت محلها في السفر وفي كل مناسبة كانت تنظر إليها في حيرة . زارتهما أكثر من مرة في المنزل . حاولت كثيرا أن تعرف سر هذا الإقلاع عن العمل .
لكن أنت شاحبة وتبدين مهمومة بشئ ما . لماذا لا تحدثينني . قد أساعدك . هل سامر يضايقك ؟
لا . سامر جميل كما هو دائما . إني انتظره بفارغ الصبر كأني في أول حياتنا معا . سيعود بعد أسبوع من أوروبا . لا أستطيع أن أتحمل هذا الأسبوع ياغادة.
لكنها تبدو فجأة مرتبكة . يعلو وجهها هلع.
مالك ياريم ؟
آسفة ياغادة . أريد أن أنام .
إذن تصبحي علي خير .
تتركها غادة متحيرة فتسرع هي إلي غرفة نومها . تخرج ابنتها «نور » مسرعة من غرفتها بعد أن شعرت بأقدام أمها مسرعة . تراها تدخل غرفة نومها . تسرع إليها .تمسك بذراعها .
أنا بخير .
لكن نور لا تتركها حتي تتمدد علي السرير .
خلاص , لا تقلقي . سأنهض بعد قليل وأعود الي الصالة وأعزف شيئا أتسلي وأسليكي معي .
نور تتهاوي علي مقعد جوار السرير الذي تمددت عليه ريم وتبكي .
لا أصدق ما يحدث ياماما . كيف يأتيك الصرع في هذا العمر ؟
لا تبكي يانور لقد فعلنا ما علينا وأكثر . ذهبنا إلي الأطباء في فرنسا ومصر . خلاص . سأعيش به . – وتبتسم – أظن ديستويفسكي الكاتب الروسي كان يعاني منه . إسمعي . اتركيني الآن واذهبي إلي البيانو واعزفي وغني . دعيني أسمعك وأنا هنا .أصبحت أحب ذلك .
لا أستطيع ياماما .
نور . حبيبتي . لا شئ غير أني أردت التخلص من غادة .
طيب أخرجي معي أو دعيني معك .
أرجوكي حبيبتي . اسمعي الكلام . أسمعيني أي أغنية لعبد الوهاب مع العزف. هيا .
تضحك ريم فتخرج نورعلي مهل . تعزف وتغني « كل دا كان ليه لما شفت عينه « يصل صوتها الحلو إلي ريم التي ما تلبث أن ترتعش كثيرا وتكاد تتخبط في الحائط المجاور للسرير . تنتهي النوبة وتنظرحولها . عيناها مفتوحتان مرفوعتان إلي أعلي في دهشة تكفي الناس جميعا , في سؤال لا يعرفه أحد إلا هي . لابد أين كنت ومن أين عدت الآن ؟ وماهذا الذي رأيته ولماذا هو ليس حولي الآن ؟ وفي أي زمن عرفت ماحولي أو رأيته من قبل ؟ وفمها مزموم كأنما لا تستطيع أن تفتحه .
شيئا فشيئا تنفتح شفتاها تشعر بالراحة فتتنفس قائلة « الحمد لله « علي مهل تنهض تمشي مرتكنة علي الحائط حتي تخرج ثم تتماسك وتمشي غير مرتكنة علي شئ . صوت نور الجميل يردد « حن قلبي إليه وانشغلت عليه . كل دا كان ليه « تنزل دمعتان من عيني ريم التي تشعر بها نور فتترك لها البيانو .
تبكين ياماما ؟
وتكاد تبكي نور . تأخذها ريم في حضنها وتحمد الله أنها لم ترها في لحظات النوبة .
خلاص . أيام وتسافري .
لن أتركك ياماما .
تجلس ريم مكانها أمام البيانو . تبتسم .
سأعزف كلاسيك . لا داعي للطرب العربي الذي يسيل دموعنا بسرعة هكذا
تعزف موسيقي « ضوء القمر « لديبوسي ثم «ضوء القمر» أيضا لبيتهوفن ثم «إلي اليز Fure Elise » أيضا لبيتهوفن فتمتلئ الحجرة بالملائكة يسبحون .
الله ياماما .
تهتف نور وتحتضنها من الخلف تقبلها . وريم سعيدة بقدرتها علي المقاومة . ليس للمرض . لكن للحسرة !
كل ذلك كان يعرفه ويشعر به في فيينا في فندق إمبريال التاريخي قبل أن يكتشفا الخطأ الطبي الفجيعة , وهو وحده دونها لأول مرة يتناول التورتة الامبراطورية مع القهوة ويطلب قطعة وفنجانا لها سيتركهما خلفه دون أن يتناولهما ويسألها لماذا لم تأكلي وتشربي معي اليوم ؟ .
طال السفر كثيرا . سبعة أيام ويريد أن يعود إلي ريم التي خافت تلك المرة أن تسافر فتأتيها نوبة الصرع فتفسد عليه رحلته .فيينا جنة الموسيقي كيف يكون فوقها صرع . كادت تقول له ذلك . الصرع الذي لم تفلح الأدوية في إنهاء نوباته وتعرف أنها لن تنجح .
إنه يسمعها حتي وهو جالس مع أصدقائه في الكافتيريا بالليل . لايقول لهم لماذا لم تعد ريم تشارك في أي نشاط موسيقي خارج القاهرة وبالطبع لايقول إنها لم تعد تشارك في النشاط داخل القاهرة أيضا .
ياحبيبتي لماذا تستمرين في التوقف عن النشاط . النوبة تأتيكي مرة كل شهر تقريبا ويمكن أن نحدد موعدها بالتقريب . يمكن أن نترك الأسبوع الأول من الشهر فهو الأكثر احتمالا دائما . لابد أن تتخلصي من الخوف .
تقاوم وترفض وهو يلح يوما بعد يوم حتي وافقت . ستشارك مع الفرقة الألمانية القادمة من برلين بالعزف علي البيانو في حفل كبير .
كانت ليلة مع القدر . أحس الحضور بأنهم يسبحون تحت السماء . الأوركستر الألماني علي خشبة المسرح الكبير وريم تجلس علي البيانو تشاركهم . نادوا الملائكة تطير بين الحضور وهم يعزفون سوناتات وكونشيرتات وحركات مختلفة من سيمفونيات شهيرة . في البداية مع أول لمسة لها لمفاتيح البيانو ارتفع القلق إلي وجهها , لكنها مالبثت أن سبحت مع الملائكة أيضا واشتعل وجهها بالبهجة حتي إذا اقتربت من النهاية واقترب الحفل راحت تضرب علي البيانو بحدة كأنما تقاوم شيئا يتفجر في جسدها . تبعده لتظل تحلق مع الموسيقي . تشعر بجسدها يبدأ في الارتعاش . تضرب علي البيانو بسرعة . هكذا تدعوها الموسيقي هنا . هنا تحلق الموسيقي بصخب جميل وقوة . والحقيقة أن جسمها كان يتزلزل , وكانت يداها ترتعشان فوق البيانو وهي تقاوم ذراعيها اللذين يريدان الابتعاد عنها , وجسدها الذي يريد السقوط , وشفتيها اللتين تنجذبان إلي ناحية واحدة , فتنكفئ علي البيانو وتتوقف الأوركسترا لحظات في وجوم ثم تسقط ريم علي الأرض . تغلق الستاربسرعة والجمهور يقف صاخبا ينادي البعض باسمها وتنهمر الدموع من عيون النساء .
في المستشفي يجدون أن ورما استوحش في مخها . لم يكن هناك صرع .
.....................
فصل من رواية تحمل الاسم نفسه، تصدر خلال أيام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.