وسط الحيرة العالمية بين التجارب السياسية المختلفة في الحكم، كالديمقراطية، بل والشمولية، تظهر في الأفق ملامح لتشكيل نواة نظام سياسي جديد يحمل اسم "الديمقراطية غير الليبرالية"، موطنه أوروبا، وقد يكون نموذجا يحتذى به في دول أخرى من العالم خلال السنوات المقبلة في حالة نجاحه. فبعد أن حقق ثالث انتصارات الانتخابية هذا العام وحده، بدأت ملامح هذا النظام الجديد تتشكل على يد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي اشتهر بآرائه المثيرة للجدل دائما، إذ بات مهيئا للتمتع بسلطة مطلقة خلال فترة حكمه الثانية للبلاد، رغم أنه في النهاية حاكم منتخب ديمقراطيا. وقد حاولت وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها من العاصمة المجرية بودابست شرح أفكار أوربان بطريقة مبسطة، فنقلت عنه قوله إن بلاده «لن تتحول إلى الحكم الدكتاتوري لمجرد رفضها القبول بالنظام الليبرالي الخالص»، موضحا أن الديمقراطية الليبرالية أثبتت، من وجهة نظره، عجزها عن دفع فواتير الخدمات والمرافق وخفض التكلفة العالية التي يعاني المجريون من وطأتها، فضلا عن فشلها في حل مشاكل المواطنين المدينين لجهات وبنوك أجنبية. وعقب قضائه 4 أعوام في سدة الحكم التي وصل إليها عام 2010، نجح أوربان زعيم حزب «فيديسز» اليميني، في حصد نتائج ركوبه موجة من التأييد الشعبي لأفكاره، حيث حقق السياسي، البالغ من العمر 51 عاما فوزا في الانتخابات العامة في أبريل الماضي، وآخر في الانتخابات الأوروبية في مايو الماضي، وثالثا في الانتخابات المحلية نهاية الأسبوع الماضي. ونتيجة لهذه الانتصارات المتوالية، لم يستشعر الرجل الحرج في الترويج لأيديولوجيته وآرائه التي استشهد لمزيد من الدفاع عنها بنماذج دولية يمكن الاحتذاء بها ويرى أنها تتماشى مع نموذجه كالصين وروسيا وتركيا. وفي إطار التمكين لأيديولوجيته الجديدة، غير أوربان خلال فترته الأولى الدستور بموجب حصوله على أغلبية برلمانية بنسبة الثلثين، كما تبني سياسات اقتصادية غير تقليدية، وشن حملة ضد الإعلام والسلطة القضائية، مما آثار موجة انتقاد شديدة ضده، لكنه لم يأبه بها، بل مضى قدما في اتخاذ إجراءات أخرى نكاية لخصومه ودعما لأفكاره التي تمثل أبرزها في مساعدة أبناء شعبه المثقلة كواهلهم بديون لمصارف أجنبية، حيث قام بسدادها من خزانة الدولة بالكامل وبشكل آثار حنق واستياء الصناعة المصرفية. ولم يكتف أوربان بذلك بل فرض «ضرائب خاصة» أضرت بقطاعات بعينها وفي مقدمتها الشركات الأجنبية، لاسيما شركات الطاقة وبيع التجزئة والاتصالات اللاسلكية. وبالنسبة لموقفه تجاه البنوك الأجنبية، فإنه يتمثل في الإعراب كثيرا عن رغبته في أن يرى نصف البنوك في بلاده، والتي يمتلك معظمها مستثمرون أجانب، وطنية وبامتياز. وما يدل على قوة شخصيته وعمق إيمانه بأفكاره، فإن أوربان لم يقدم اعتذارا للنرويج والولايات المتحدة بشأن فتح تحقيق حول أنشطة جماعات الحقوق المدنية ووكالات مكافحة الفساد، التي تمولها النرويج والتي ذهبت حكومته إلى وجود علاقة تربطها باليسار السياسي في المجر. وعلى الصعيد الاقتصادي، يعتزم أوربان خلال العامين المقبلين تغيير نظام الرفاهية العامة والذي من أبرز ملامحه المنظومة التعليمية والرعاية الصحية وتقليص ظاهر البيروقراطية. ولإيضاح ذلك، ألمح وزير اقتصاده ميهالي فارجا إلى اعتزامه خفض معدلات الإنفاق العام بنسبة 45٪ من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وذلك بهدف توفير تريليون و700 مليون بالعملة المحلية أو ما يعادل 7 مليارات دولار أمريكي. ومن المؤكد أن خطوة من هذا النوع ستساعد على إرضاء الاتحاد الأوروبي الذي حذر بودابست سابقا بشأن حتمية عودتها إلى آلية رفاهية الميزانيات التابعة للتكتل الأوروبي في حالة عجزها عن خفض مديونيتها الحالية والتي تقدر بنحو 80٪ من إجمالي الناتج المحلي وبأسرع وقت ممكن. وفي مساعٍ جادة لتحسين أوضاع مواطنيه المعيشية والاقتصادية، أعلن أوربان اعتزامه إنشاء شركة حكومية للمرافق غير هادفة للربح بل ترمو إلى خفض أسعار الخدمات للمستهلكين، وهو الإجراء الذي سيدفعه لمزيد من التحدي مع المستثمرين بالسوق في هذا القطاع. وعلى صعيد الانتخابات، أكد تاماس لانزي خبير بمركز الدراسات التابع لمعهد «سزازادفيج»بالمجر ، أنه طالما أنه ليست ثمة استحقاقات انتخابية في البلاد حتى عام 2018 ، فإن حزب»فيديسز» بزعامة أوربان ستكون لدية الفرصة في التحرك كيفما يشاء وتحقيق كل ما يريده، نظرا لأن المعارضة المنتمية لتيار اليسار أضعف ما يكون ولا تقوى على تغيير مسار الأمور. وعلى صعيد الساحة الدولية، لعب أوربان دورا متوازنا بين روسيا والغرب، حيث انتقد العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو بشأن النزاع الدائر الآن في أوكرانيا، في حين رحب بقبول تمويلات من بروكسل. وفي ظل تضارب الآراء ما بين مؤيد ومعارض لنموذج أوربان المجري، يحذر بيتر كريكو مدير مركز دراسات العاصمة بودابست من أن الانتصار الأخير الذي حققه أوربان والمتمثل في فوز حزبه بالانتخابات المحلية سيسهم في تقوية منظوره باعتباره «السياسي الجبار»الذي يمكنه امتلاك كافة الصلاحيات والتأكيد على صلابة الحكومة، مضيفا أنه رغم وجود سحابة تفاؤل تلوح في الأفق لصالح أوربان وحزبه، إلا أن استطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى بدء فقدان الحزب الفائز بثلاثة انتخابات متوالية لشعبيته. كما حذر كريكو أيضا من استمرار أوربان في لعب دور متوارزن بشأن النزاع في أوكرانيا بين حلفائه الأوروبيين وروسيا التي تعتمد المجر عليها في الحصول على معظم احتياجاتها من الغاز، حيث إن موقفا من هذا النوع سيضعه بين فكي كماشة. والسؤال الآن : هل يمكن نجاح تجربة أوربان وبالتالي إعادة إنتاجها وتطبيقها كنموذج يمكن الاحتذاء به في مناطق أخرى من العالم كالشرق الأوسط وأسيا وأمريكا اللاتينية ودول أخرى في أوروبا؟ وهل هذا مشروط بقدرته على عدم الاصطدام بالمعارضة المحلية والحكومات الأوروبية ونجاحه في تلافي أخطاء الماضي التي وقعت فيها تجارب مماثلة سابقا لكي يضمن في النهاية إمكانية بقائها بل وتعميمها؟