لم تكن ليبيا تاريخيا مصدرا من مصادر التهديدات الخطيرة لمصر كما هى الآن، فهى تحتل لدى المصريين حكومة وشعبا مكانة إيجابية خصوصا فى العقود الثلاثة الأخيرة حيث كانت مصدرا لرزق آكثر من مليون من المصريين المهمشين فى قطاعهم الأغلب كما كانت أحد الممولين الرئيسيين لعمليات الاستثمار المباشر فى مصر. ولكن تطورات الثورات العربية أدخلت كلا من مصر وليبيا حالة من المتغيرات الصعبة والسيولة السياسية تعافت منها مصر نسبيا وحافظت فيها على مؤسسات الدولة، بينما تخوض ليبيا حاليا معركة وجودية للحفاظ على كيان الدولة. الحالة الليبية الراهنة نتجت عنها تحولات أساسية فى العلاقات المصرية الليبية لتشكل ليبيا حاليا أعلى مصادر التهديد للأمن القومى المصرى وهو ما ينسحب أيضا على كافة دول الجوار الليبى بمكونيه العربى والإفريقي. تهديدات متصاعدة التموضع الجديد للعلاقات الثنائية بين مصر وليبيا نتج عن تصاعد حدة الصراع الداخلى فى ليبيا بين تحالف القوى الوطنية بزعامة محمود جبريل وهى المدعومة من اللواء المتقاعد خليفة حفتر وبين ما يعرف بقوات فجر ليبيا فى غرب البلاد والتى تنضوى تحتها حركات جهادية من بينها «مجلس شورى ثوار بنغازي» و«أنصار الشريعة» و«كتيبة شهداء 17 فبراير» و«ميليشيات مصراتة»، حيث شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية الليبية سببا أساسيا فى تصاعد حدة الصراع بين الأطراف بعد أن تم رفض نسبة تمثيل الإسلاميين فى البرلمان الليبى المنتخب فى منتصف 2014 والتى لم تتجاوز الثلث. وقد كانت مظاهر تصاعد التوتر بين الفريقين الاستيلاء على العاصمة طرابلس وإعلان جماعة أنصار الشريعة تدشين فرع لدولة الخلافة الاسلامية «داعش» انطلاقا من درنة. وطبقا لهذه المتغيرات، يمكن القول إن مصادر التهديد الأساسية للدولة والأمن القومى المصرى تعود إلى إمكان التأثير على عناصر القوة الشاملة المصرية وإستنزافها فى عملية ممتدة تؤثر على مشروعات الدولة التنموية وقدراتها فى التقدم خصوصا وإن ملف الارهاب الداخلى مازال مفتوحا، كما يشكل تراجع حجم العمالة المصرية أو عودتها من ليبيا عبئا مضافا على الاقتصاد المصرى بما يتضمنه من ارتفاع من نسب البطالة. وكذلك يمكن أن تكون ليبيا من أوراق الضغط على مصر على المستويين السودانى والأمريكي. فعلى الصعيد السودانى هناك مؤشرات على قيام السودان بعمليات إمداد بالسلاح لتحالف فجر ليبيا التابع لعناصر الاسلام السياسى وهى هنا تحاول إسناد هذا التحالف لاعتبارات المرجعية السياسية المشتركة وأيضا امتلاك أوراق ضغط على القاهرة التى يتحسب لها النظام السياسى كثيرا بعد مجريات ثورة 30 يونيو فى مصر وإسقاط النظام السياسى المنتمى للإخوان المسلمين. أما على الصعيد الأمريكى فإن التأثير على قدرات الدولة المصرية يجعل قيادتها ربما أكثر طوعا إزاء الأجندة الأمريكية فى الشرق الاوسط والممتده الى آسيا. ومن مصادر التهديد أيضا تمدد الفصائل الجهادية داخل الحدود المصرية، وهو ما جرى بالفعل فى حادثتى الفرافرة التى تم الاعتداء فيها على وحدات من القوات المسلحة المصرية ولعل وجود فرع لداعش على الحدود المصرية يضاعف من إمكانات وفرص هذا التمدد للعناصر الداعشية. الحزام الجهادي كما أن تصاعد المواجهة بين الحركات الجهادية فى ليبيا يفاقم التوتر لدى جميع الحركات الجهادية فى دول الساحل والصحراء تضامنا ودعما للحركات الإسلامية الراديكالية فى ليبيا باعتبارها مصدر الإلهام والدعم لتلك الحركات ومنها حركتا التوحيد والجهاد وأنصار الدين فى مالي، وحركة تحرير دلتا النيجر، وجماعة بوكو حرام فى نيجيريا. هذه الجماعات المرتبطة والمتحالفة مع المنظومة الجهادية فى ليبيا تستعد لتصعيد عملياتها ضد أطراف غربية أمريكية وفرنسية وبريطانية ردا على التدخل العسكرى الأمريكى فى العراق ومهاجمة تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق وسوريا (داعش)، خصوصا بعد أن تشكل تنظيم مماثل فى منطقة المغرب العربى يحمل إسم الدولة الإسلامية فى المغرب الإسلامى (دامس)، ومن المتوقع طبقا للتقديرات الاقليمية أن تكون كل من مصر وتونس والجزائر أحد آهم ساحات الانطلاق الارهابى لهذه الجماعات المتشددة. السوق الجهادية السوداء وفى هذا السياق، فإن تهريب السلاح الليبى يعد مصدرا عاليا من مصادر التهديد لمصر عبر الحدود المشتركة وذلك بواسطة شبكة ضخمة من المجموعات التى تتولى تهريب السلاح، بعضها جماعات تهريب لعناصر جنائية وبعضها شبكات تهريب تابعة لحركات جهادية وخاصة تنظيم حركات التوحيد والجهاد فى غرب إفريقيا أو القاعدة فى بلاد المغرب الاسلامي. وقد كانت عمليات تهريب السلاح من أسباب تطور مستويات القوة لدى العناصر المتشددة والتكفيرية فى سيناء كما تشكل عامل حاسم من عوامل الاسناد المباشر للعناصر الإرهابية الداخلية بل وتنميتها من حيث الإعداد والتدريب وهى المستهدفة المدنيين المصريين الى جانب عناصر الشرطة والجيش. وكانت ولاتزال محاور تهريب السلاح إلى مصر عن طريق طبرق ودرنا إلى السلوم ومرسى مطروح ومن الكفرة إلى دارفور السودان ثم إلى سيناء. وتقدر ترسانة الأسلحة الليبية ب 20 مليون قطعة طبقا لتقديرات معهد إستكهولوم للسلام متضمنة صواريخ جراد، ومنظومات مضادة للطائرات، وصواريخ sa-14، وصواريخ malin، ووسائط مضادة للدروع sagger، وراجمات صواريخ 140 Br.-dm2، ومدافع هاون قطر 122، ومدافع هاون قطر 107 مم و120 مم و80 مم دبابات تى 72 وتى 62 وتى 55 يصل عددها إلى نحو 2000 دبابة، إضافة الى 1750 ناقلة جنود ومليون بندقية آلية. دولة داخل الدولة وعلى الرغم من الجهود الدولية لمنع تهريب السلاح الليبى فلا تبدو هذه الجهود مؤثرة وهى الجهود المعنية بمراقبة عمليات تهريب السلاح من ليبيا إلى دول الجوار وعلى الأخص منطقة سبها الصحراوية لتوافر مستودعات السلاح ووجود جماعات التهريب. قد حول هذا الكم الهائل من السلاح مجموعات الثوار التى قاتلت نظام معمر القذافى إلى ميليشيات رفضت تسليم أسلحتها أو حل أطرها التنظيمية وأصبحت دولة داخل الدولة حتى إنها قد كونت لها أحزابا هى بمثابة الأذرع السياسية والتى باتت من عوامل تعقيد الحوار الوطنى الليبى خصوصا وأن التقديرات الغربية والإقليمية تذهب الى أن هناك 2000 ميليشيا فى ليبيا من أهمها خمس: هى كتائب مصراتة الموزعة على 280 كتيبة وبحوزتها أكثر من 1000 دبابة و150 ناقلة جند موزعة ووسائط قتالية متطورة، وميليشيا الزنتان، وكتائب شهداء 17 فبراير، وكتيبة رف الله السحاتي، وأنصار الشريعة. آلية دول الجوار وفى مواجهة هذه التهديدات كان هناك تحرك مصرى مبكر من جانب القوات المسلحة ممثلة فى وزير دفاعها آنذاك عبد الفتاح السيسى على وقت حكم الرئيس السابق محمد مرسى وذلك لمنع تدريب عناصر قتالية مصرية على الأراضى الليبية تحسبا أن تكون نواة لجيش مصرى مواز. وفى مايو 2013 وعلى هامش قمة دول عدم الانحياز توافقت كل من الجزائر ومصر على تدشين آلية لدول جوار ليبيا للتفاعل الاقليمى مع الأوضاع الليبية بهدف نهائى هو عدم انهيار الدولة الليبية، وقد عقدت هذه الآلية ثلاثة اجتماعات أخرى أحدها على هامش قمة الاتحاد الافريقى فى يونيو 2014 بغينيا والثانى فى مدينة الحمامات التونسية حيث اتفق وزراء الخارجية المجتمعون على وضع خطة عملية للمساهمة فى حل الأزمة الليبية. وتقرر تشكيل فريقى عمل برئاسة وزير الشئون الخارجية التونسي، أحدهما أمني، على أن تتولى الجزائر تنسيق أعماله، والثانى سياسى وتتولى مصر تنسيق أعماله، وذلك لتوفير آليات التفاعل اللازمة مع الأزمة الليبية سعياً لتخفيض مستوى التهديدات الليبية لدول الجوار الاقليمى ومحاولة بلورة ملامح عملية سياسية ليبية يتم دعمها إقليميا تجنب دولة ليبيا ذاتها مخاطر الانهيار الكامل. أما الاجتماع الثالث لآلية دول الجوار الاقليمى فقد كان فى 25 أغسطس 2014، بالقاهرة حيث تبلورت المبادرة المصرية الجزائرية لحل الأزمة السياسية فى ليبيا، ومخاطبة المجتمع الدولى للتنسيق بين التحركات الإقليمية والدولية، كما أكد هذا الاجتماع مبدأ وحدة واستقلالية الأراضى الليبية ورفض التدخل الأجنبى فيها، حيث دعا إلى «الوقف الفورى لكل العمليات المسلحة من أجل دعم العملية السياسية، وتعزيز الحوار مع الأطراف السياسية التى تنبذ العنف وصولا لتحقيق الوفاق الوطنى والمصالحة ووضع دستور جديد للبلاد». وكذلك على «الدور الأساسى والمحورى لآلية دول جوار ليبيا وخصوصيتها فيما يتعلق بتطورات الوضع فى ليبيا وضرورة إشراكها فى مختلف المبادرات الإقليمية والدولية الهادفة لإيجاد تسوية توافقية للأزمة الليبية». ودعت إلى «تنازل جميع الميليشيات والعناصر المسلحة وفق نهج متدرج المراحل ومتزامن من حيث التوقيت عن السلاح والخيار العسكرى فى إطار اتفاق سياسى بين كل الفرقاء التى تنبذ العنف ووفق آلية مستقلة تعمل برعاية إقليمية من دول الجوار ومساندة دولية». كما تعهدت دول الجوار، ب«تقديم المساعدة للحكومة الليبية فى جهودها لتأمين وضبط الحدود مع دول الجوار وفق برنامج متكامل، ووقف كل الأنشطة غير المشروعة للتهريب بكافة أنواعه». الدعم الفني أما على الصعيد الثنائى فقد بلورت مصر إستراتيجية للتفاعل مع الأزمة الليبية قائمة على تقديم العون الفنى لمؤسسات الدولة الليبية خصوصا الجيش القومى والمؤسسات الأمنية الداخلية التى تعوزها كثيرا من القدرات والمهارات الحديثة وكذلك باقى مؤسسات الدولة وذلك دون أن تكون طرفا داعما بالسلاح لأى من أطراف الصراع الليبى حتى تنأى بنفسها عن التدخل المباشر فى صراع له طبيعة عسكرية وهو ماقد يكون له تكاليف إستراتيجية باهظة على المستوى المصرى فضلا عن تكاليفه الاقتصادية والسياسية وقد جاءت زيارة رئيس الوزراء الليبى عبدلله الثنى إلى القاهرة مؤخرا على رأس وفد كبير من حكومته فى هذا السياق وهى الزيارة التى تقدم فيها رئيس الوزراء الليبى بطلب كل أنواع الدعم من مصر. وتبدو الإستراتيجية المصرية فى التفاعل مع الأزمة الليبية مناسبة على المستوى الاستراتيجى حيث إنها تتجنب حتى الان التدخل العسكرى المباشر ضد الميليشيات الجهادية فى ليبيا، وهو نفس الخيار المصرى إزاء التحالف الدولى المناهض لداعش حتى تتمكن قدر الطاقة ردود فعل مبالغ فيها من الجماعات الجهادية، كما أنها تعيد تأكيد أهمية عدم إنهيار مؤسسة الدولة الليبية عبر تقديم كل أشكال الدعم لها وأيضا وعلى نفس مستوى التأكيد تسعى الى وحدة التراب الليبى وعدم الانخراط فى أية تحالفات تتدخل تدخلا مباشرا فى الشأن الليبي. وستبقى هذه الإستراتيجية مرهونة بالقدرة على التنسيق الاقليمى من جهة وعلى قدرة الجيش القومى الليبى فى حسم الصراع العسكرى على الأرض من جهة أخرى وأيضا تفكيك الميليشيات المسلحة ربما بالتعاون مع القبائل. ويبقى فى الأخير ضرورة ان يكون التدخل العسكرى المباشر فى ليبيا خطا أحمر للجميع وخاصة مصر.