تحمل لنا الهجرة النبوية الشريفة الكثير من العبر والدروس، والتى يمكن أن تكون سبيلا للخروج من الأزمات المعاصرة للأمة الإسلامية. هى ليست سطورا تحكى أو مواقف نتذكرها كل عام، ولو أدرك المتاجرون بالدين معنى واحدا من معانى الهجرة، وهو حب الأوطان، ما كان هناك قتل وتخريب وتدمير، فكيف يكون الأمر لو أدركنا كل معانى الهجرة، من التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب ورد الأمانات وغيرها. علماء الدين يؤكدون أننا اليوم فى حاجة ماسة لتطبيق دروس الهجرة النبوية، لتجاوز المحن والأزمات والمشكلات التى نتعرض لها فى مختلف المجالات، وأن يتم ذلك بشكل علمى وتخطيط جيد من خلال دراسة المشكلات، وتقديم الحلول ووضع الخطط البديلة كما فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فى هجرته من مكة إلى المدينة. وأوضح علماء الأزهر أن الاحتفال بالهجرة لا ينبغى أن يكون مجرد سرد للوقائع والأحداث، بل يكون إدراكا للمعانى وتطبيق ذلك على الواقع والأحداث المعاصرة. ويقول الدكتور عبد المقصود باشا، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الهجرة النبوية الشريفة تحمل لنا الكثير من الدروس والعبر، وهذه العبر تظهر عند التمعن فى كل المواقف والأحداث التى وقعت، بداية من الترتيب للهجرة وصولا لإقامة أركان الدولة الإسلامية فى المدينة، مشيرا إلى أن التاريخ ليس سطورا تحكي، وإنما عبر ودروس تؤخذ من الماضي، ونستفيد منها فى الحاضر والمستقبل، وأهم درس من دروس الهجرة يتمثل فى حب الأوطان، وهو جزء من العقيدة، فقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعشق مكةالمكرمة، رغم ما تعرض له من أذي، وكانت الأشواك ترمى أمام منزله، وعندما لم يجدها فى أحد الأيام، ذهب لجاره يسأل عنه، فهذه هى أخلاق الإسلام، فالرد على الإساءة يكون بالإحسان كما تعلمنا من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولذلك لابد أن نضع الهجرة النبوية الشريفة أمام أعيننا، كى تنهض الأمة الإسلامية، وتعود إلى مجدها وقوتها، فسيرة الرسول الكريم تحمل لنا الكثير، ولابد أن نعمل العقل والمنطق ونأخذ العبرة من الأحداث الكبرى فى التاريخ الإسلامي، وأن تكون الاستفادة بالوصول إلى الغايات والأهداف التى ننشدها، فهجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كانت بهدف نشر الإسلام، وتحقق ذلك ودخل الناس فى دين الله أفواجا، ولا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن حل الأزمات المعاصرة، يتمثل فى الاستفادة من الخطة المحكمة للهجرة النبوية الشريفة . علاج الأزمات الراهنة ويرى الدكتور زكى عثمان، أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الاحتفال بالهجرة النبوية ينبغى ألا يقتصر على ذكر أحداث الهجرة فقط، بل لابد أن يمتد إلى دراسة الواقع والمشكلات التى تواجه الأمة الإسلامية، وأن يقوم أهل الذكر المتخصين بالنظر فى المشكلات التى تواجه المجتمع، ويقدمون الدراسات العلمية عن طبيعة هذه المشكلات، والبحث عن الوسائل العلمية لمواجهة هذه المشكلات والتغلب عليها، وأن ننظر للأحداث الكبرى فى التاريخ الإسلامى ونستفيد منها بشكل علمى عند دراسة المشكلات المعاصرة، ولا يكون الأمر بشكل نظرى فقط، بل يتم تطبيق ذلك على الواقع . وأضاف: إن هناك دروسا فى الهجرة نستفيد منها فى التعامل اليومى مع الآخرين، وفى العلاقات داخل المجتمع، فالتوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب والشجاعة ورد الأمانات، كلها معان واضحة فى الهجرة، وهى من أخلاق الإسلام، ولابد أن نطبق هذه الأخلاق، لأن الإسلام يأمر بذلك والرسول الكريم فعل ذلك، فدروس الهجرة تشمل كل جوانب الحياة، فكانت هناك دروس فى التخطيط والمناورة وتغيير التخطيط وقت الضرورة، والاستعانة بالخبراء والمتخصين، وتطبيق هذه المعانى على الواقع والأحداث والأزمات المعاصرة، يجعلنا نجد سبيلا للرقى والنهوض بالمجتمع المسلم، وهذه دروس لابد أن نتعلم منها فى التخطيط لبناء مستقبل جيد للأمة، فقد كانت الهجرة بداية لتأسيس أركان الدولة الإسلامية فى المدينة، فكان بناء المسجد، والصلح بين الأوس والخزرج ووضع وثيقة المدينة، والاستعداد لمواجهة المشركين، وبجانب أن هذه دروس وعبر، فهى أيضا أسس ومبادئ قامت عليها الحضارة الإسلامية . التخطيط الجيد من جانبه يشير الدكتور محمد الدسوقي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، الى أن الهجرة كانت ضرورة من أجل نشر الدعوة، ولم تكن الهجرة فرارا من الكفار ولا خوفا من المسلمين على أنفسهم، لكن البيئة فسدت ولا يمكن أن يقبل المشركون دعوة الإسلام، فكان لابد من الانتقال إلى بيئة أخري، بهدف أن تنتشر الدعوة الإسلامية، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا، وكل ما حدث فى الهجرة يعطى درسا، بأن التخطيط العلمى ضرورة للوصول للأهداف، وكذلك تغيير التخطيط عندما تقتضى الضرورة، والنبى الكريم كان هدفه نشر الإسلام، ولذلك كانت الهجرة أعظم الأحداث فى تاريخ الدعوة، فقد كانت فارقة بين مرحلتين، مرحلة الاضطهاد والتعذيب بصورة جعلت المسلمين يأكلون أوراق الشجر، من شدة الجوع بسبب المقاطعة التى فرضتها قريش، وأيضا بسبب التعذيب على أيدى الكفار، ورحلة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للطائف خير دليل على ذلك، ومن هنا نجد التخطيط للهجرة بدأ قبلها بعامين، عندما جاء بعض الأشخاص الذين أسلموا فى المدينة، واستقبلهم الرسول مرتين، واتفق معهم على أن يهاجر إلى المدينة، ففرحوا بذلك، وقالوا للرسول نفديك بأرواحنا وأموالنا، وبدأ الرسول فى التجهيز للهجرة ودراسة الطرق، وقد اختار صلى الله عليه وسلم أحد خبراء الطرق وكان مشركا، وهذا من أسباب النجاح، ولذلك لا يجب أن نظل نتحدث عن الوقائع كل عام ونذكر الأحداث فقط، بل لابد من دراسة ما وراء هذه الأسباب، وتطبيق ذلك على الواقع المعاصر، لنستفيد من سيرة الرسول الكريم، فالأمر ليس مجرد حكايات تذكر، لكنها معان تدرك وتؤخذ فى الحسبان . حب الأوطان ويشير الدسوقى إلى أن حب الأوطان يتجسد بشكل واضح فى الهجرة النبوية الشريفة، ولابد أن نستفيد من هذه المعاني، فالرسول الكريم عندما خرج من مكة قال المقولة المشهورة » والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلى نفسى ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت«، وليس هذا المعنى هو الوحيد على حب الأوطان فى رحلة الهجرة، بل إننا نجد أبرز صور للتعاون والتكامل والتكافل داخل المجتمع، تحققت هذا المعانى عندما آخى الرسول الكريم بين المهاجرين والأنصار، وهذه أول فكرة فى تاريخ البشرية تتحقق التكافل بين أفراد المجتمع الواحد فى المال وحتى الزواج، وقد استمرت لفترة حتى استقر المجتمع الإسلامي، وكل هذه كانت خطوات لتدعيم أركان الدولة الإسلامية، وهى دليل واضح على حب الأوطان، لدرجة أنه لم يمر على الهجرة عام ووقعت غزوة بدر، وانتصر المسلمون، وتوالت الانتصارات، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.