يطرق أبوابنا في هذه الأيام بشير خير.. نستلهم منه أسمى معاني الشجاعة والشهامة والفداء والوفاء.. وأروع نماذج الإنسانية الفاضلة.. نتعلم في ذكراه من الرجال الذين رفعوا مشاعل النور... وأضاءوا جنبات الإنسانية.. الذين تعلموا الرجولة الحقيقية من النبي عليه الصلاة والسلام.. الطارق هو عام هجري جديد.. يذكرنا ويؤكد فينا كمال اتصالنا بصاحب الهجرة عليه السلام... العام الهجري الجديد يذكرنا بالصراع الشرس بين الحق والباطل، وبالحرب الضروس بين النور والظلام، يذكرنا بالعدل والظلم -في أسواء معانيه-، يذكرنا بقهر المستبدين، ويعلمنا أن ثمة نهاية قاسية للظالمين، الذين يعتقدون أنهم ملكوا أرزاق العباد.. الهجرة الشريفة تذكرنا أن صناديد الظلم والقهر موجودون في كل العصور، وأن الله ناصر الحق لا محالة.. نعم كانت هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين من مكة إلى المدينة حدثا تاريخيا ومحوريا، ومنعطفا مهما في تاريخ الإسلام؛ بل كانت حدثا فارقا في تاريخ الإنسانية كلها.. ولم تكن الهجرة أبدا تغييرا في الموقف وإنما كانت تغييرا في الموقع، بعد أن أسرفت قريش في تعذيب من دخل الإسلام، وأصرت أيما إصرار على قتل النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ للحيلولة بينه وبين ما يدعو إليه.. فكانت الهجرة الشريفة نهاية لعهد تعرض فيه المسلمين لأشد أصناف الأذى، ومع ذلك ما ضعفوا وما استكانوا.. ولما أذن الله بالهجرة كانت بداية لانتشار النور في شتى الآفاق.. ولم تكن الهجرة أمرًا سهلا أو ميسورًا، بل على العكس تمامًا.. فقد استجمع النبي عليه السلام، كل قواه الفكرية والعقلية، وأخذ يفكر ويدبر ويخطط لإدارة الهجرة، ويبدو أنه كان يخطط لها منذ فترة طويلة.. وذهب إلى رفيق دربه وصاحبه أبي بكر الصديق في وقت الظهيرة، في تحرك غير معهود له في مثل هذا الوقت؛ ليخبره بالهجرة، وأخبر عليًّا بن أبي طالب بها، وطلب منه أن يبيت مكانه، ويتغطي بغطائه، تمويهًا وتغطية على المشركين، ولكي يرد الأمانات إلى أصحابها، ويقول عليٌّ: نفسي لك الفداء يا رسول الله.. ولم يخف من المشركين، ولم يخش على نفسه من القتل في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، فداء لدين الله ولرسول الله.. ويخرج النبي وصاحبه في جوف الليل، ولم يكن يعلم بخروج النبي (صلى الله عليه وسلم) حين خرج إلا عليّ بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.. وحينما خرج النبي من بيت أبي بكر كان يعلم علم اليقين أن قريشًا ستجد في طلبه هو وصحبه، وأن أنظارها ستتجه صوب طريق المدينة الرئيس (نحو الشمال)؛ فخدعهم عليه الصلاة والسلام واتخذ طريقا معاكسا تماما، حيث سار وصحبه في اتجاه الجنوب نحو اليمن، وظلا يسيران خمسة أميال على أطراف أقدامهما -حتى لا يرى أحد من الأعداء آثار الأقدام فيصل إليهم- من لحظة خروجه إلى أن وصل إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى.. وكانت أسرة أبي بكر جميعها مسخرة ومهيأة بكل طاقاتها؛ لدعم الهجرة، بل كانت بمثابة غرفة عمليات للإمداد والتموين، لمدِّ الرسول ومن معه بالخدمات "اللوجيستية، والمخابراتية".. وغيرها مما تخدم تحرك سفينة الإسلام إلى بر الأمان، فكان ابن أبي بكر يمدهما بأخبار قريش ليلا، وكانت أسماء تمدهما بالزاد والماء، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يقوم بمحو آثار الأقدام بالأغنام والإبل؛ تعمية وتمويها على المشركين.. والعجيب أن يستأجر الرسول عليه السلام، رجلا يسمى عبد الله بن أريقط وهو غير مسلم؛ ليكون دليل الركب من غار ثور إلى المدينةالمنورة، وليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين.. هذا الرجل الذي ذهب إليهما بالراحلتين بعد أن سكن البحث عنهما، وأقام بمكة كل المدة التي مكثها النبي في الغار أمينًا على السر حفيظًا عليه.. وشاءت أقدار الله أن يحفظ محمدًا وصحبه في هذا الغار بخيوط العنكبوت، وأن يسير بالإسلام إلى المدينةالمنورة؛ لينتقل بهذه الرسالة الخالدة من الوادي الضيق، إلى المدينةالمنورة.. تلك المدينة التي انتقلت الدعوة من خلالها إلى مرحلة العالمية.. وفي هذه البقاع التي نورها الله تعالى برسوله (صلى الله عليه وسلم).. استطاع وبمجرد استقراره فيها أن ينظم علاقة الإنسان بربه من خلال بناء مسجده في هذا المكان الطاهر، ذلكم المسجد الذي كان مركزًا للقيادة العامة للدولة الإسلامية.. وكان مدرسة وجامعة لمحو الأمية وتعليم الناس.. وكان معسكرًا لتجهيز الجيوش وشحنها بالقوة الروحية والمعنوية.. وكان مركزًا للشورى والديمقراطية واحترام حرية الفكر والتعبير والاعتقاد... تجلى فيه احترام النبي عليه السلام لعقول أصحابه الكرام.. كما كان مقرًا للقضاء بين الناس.. ومنه استطاع (صلى الله عليه وسلم) أن ينظم علاقة الناس بعضهم ببعض من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والمؤاخاة والصلح بين الأوس والخزرج، بعد الحروب والصراعات التي استمرت بينهما سنوات مديدة وخلفت أعدادًا كبيرة من القتلى وأصحاب العاهات.. كما تمكن عليه الصلاة والسلام أن ينظم علاقة المسلمين بغير المسلمين، من خلال الوثيقة (دستور المدينة) تلك الوثيقة الخالدة التي حددت أسس العلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلمين.. فحددت حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وواجبات المسلمين نحوهم، من حيث حماية أنفسهم وأموالهم ومعتقداتهم وغيرها، كما حددت التزاماتهم نحو الدولة التي يعيشون فيها.. ومنها استطاع صلى الله عليه وسلم، أن يرد كيد المنافقين والمشركين.. وأن يُرسي القواعد المثالية -التي يجب أن نباهي بها الدنيا- في آداب الحروب، ومعاملة الأسرى.. ومنها أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) رسائله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد.. وفيها دخل الناس في دين الله أفواجا.. نعم لقد كانت الهجرة المباركة تغييرا حقيقيا لمجرى التاريخ من خلال انتقال الدعوة من بيئة صيرها أهلها المشركون بيئة فاسدة ناصبت النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين العداء والاضطهاد، إلى بيئة نقية وجدت الدعوة فيها كل أسباب النماء والتطور والانتشار تحقيقا لعالميتها، ونشرا لنور الإسلام في كل مكان.. الهجرة دروس وعبر: الهجرة النبوية الشريفة مليئة بالدروس والعبر التي يجب أن نستفيد منها ونسير على نبراسها ومنوالها.. نتعلم منها الأخذ بالأسباب والتوكل الكامل على الله سبحانه وتعالى، فالنبي عليه السلام، أخذ بالأسباب وترك النتائج لله، فأخذ الدليل للطريق، والرفيق في الطريق، والزاد والراحلة، ومن يستطلع له الأخبار، ومن يمحو له أثر الأقدام، ومن يؤدي الأمانات لأصحابها.. بل جهّز وسائل السفر قبل الهجرة بوقت طويل؛ حيث ظلت الرواحل تُعلف أربعة أشهر قبل الهجرة –كما قيل- استعداد لهذه الرحلة الطويلة ولكي تقوى على السفر دون كلل أو ملل.. ونتعلم من الهجرة العزة والكرامة والحرية، وأن المؤمنين لا يرضون أبدا بالدنية في دينهم ودنياهم مهما كلفهم ذلك من بذل الأنفس والأموال وكل يما يملكون.. نستلهم من هذه الذكرى أغلى دروس الصبر والثبات على الحق وعلى المبدأ رغم كل المغريات ورغم التعذيب والاضطهاد، ونوقن بأن النصر مع الصبر وأن الله لن يحمع الله على عبد عسرين، ونؤمن إيمانا كاملا بالثقة في وعد الله بالنصر للمجاهدين، وأن تقوى عزائمنا في مواجهة الأخطار والضلال والظالمين، ونعلم بأن الحق يظهر على الباطل بمدى إخلاص المؤمنين للحق، وبذلهم الأموال والأنفس في سبيله، أما إذا أخلدوا إلى الدعة والوهن والكسل، وظنوا أن السماء لن تترك حقهم فريسة للباطل فهم حينئذ من الواهمين؛ ذلك أن نصر الله لا ينزل إلا على العاملين المخلصين يقول تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (محمد:8)، ونتعلم الشجاعة والشهامة والمروءة والنخوة من سيدنا عليٍّ –كرم الله وجهه- الذي نام مكان النبي (صلى الله عليه وسلم) فداء له ولكي يرد الأمانات إلى أصحابها، وهو يعلم علم اليقين أن البيت محاصر ومحاط بفتية يحملون السيوف ليقتلوا صاحب هذا الفراش، لقد رضي سعيدا أن يتغطى ببردة النبي وأن يواجه خطر الموت فداء للرسول ولدعوته، ولم يتردد لحظة واحدة بل قال له: نفسي لك الفداء يا رسول الله.. ونتعلم الإخلاص والحب في الله والصدق والبذل والعطاء من أبي بكر الصديق الذي رافق النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة وهو يوقن بأنها محفوفة بالمخاطر؛ بل وسخر كل أسرته في سبيل الهجرة.. ويلدغ في قدمه ولم يحركها حتى لا يوقظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بل ظل ساكنًا ساكتًا، لم يتحرك –حتى لا يوقِظ رسول الله- والدموع تنهمر من عينيه بغير إرادته.. ونتعلم من ابنته أسماء التضحية وعلو الهمة في سبيل نصرة الحق بصعودها الجبل الوعر الشاهق، وهي حامل في الأيام الأخيرة لهذا الحمل، ولم تعبأ بالصعود والنزول من الجبل العالي فداء للرسول ولدعوته.. ونتعلم من الهجرة التخطيط العلمي الدقيق في كل كل أمورنا، واستخدام كافة وسائل القوة العقلية والفكرية لتحقيق الأهداف المنشودة للأمة الإسلامية.. ونتعلم كذلك حب الوطن الانتماء.. ونتعلم منها الإيثار والمؤخاة بين المؤمنين، وأن صلة العقيدة بين المسلمين فوق وشائج القربى، وأن رحم الإيمان أقوى من رحم الأبدان، ذلك أن الإيمان هو الذي جعل المهاجرين يتركون وراءهم كل أموالهم في مكة، وهو الذي جعل الأنصار يؤثرون المهاجرين بأموالهم وديارهم.. إلخ، وهو الذي جعل الأوس والخزرج يدًا واحدة بعد الحروب الطاحنة التي دارت بينهما سنوات مديدة، وخلَّفت القتلى والجرحى وأصحاب العاهات، وما يوم بُعاث منّا ببعيد..!! لقد كانت الهجرة المباركة تحريرًا للناس، من إكراه الناس على عبادة ما يريده السادة والطغاة، من عبادة الأوثان، وتخليصًا لهم من نير الاستبداد وحكم الطغاة؛ ليحيا الناس أحرارا فيما يدينون به، ومن ثم كانت الهجرة ثمنا للحرية الدينية ومأصلة لها؛ حيث كانت البشرية في أمس الحاجة إليها في ذلك الزمان.. آخر الكلام: أما آن لنا نحن المسلمين أن نهاجر لله.. نهاجر بألسنتنا من الكذب وشهادة الزور والنفاق والظلم والاستبداد وكثرة الكلام والجدال والمراء إلى العمل والإنتاج وتعمير الصحراء وزيادة الإنتاج.. نهاجر إلى الصدق وذكر الله وقراءة القرآن والعدل ورد الحقوق لأصحابها.. نهاجر بأعيننا من النظر إلى الحرام إلى ما أحل الله.. نهاجر بآذاننا من التجسس والتصنت وسماع ما يغضب الله إلى سماع القرآن وكل ما يرضي الله.. نهاجر بأيدينا وأرجلنا وفروجنا وكل جوارحنا من معصية الله إلى طاعة الله... إن أعظم هجرة هي هجرة القلب؛ فالقلب المهاجر إلى الله هو القلب الذي يتعلق بالله فلا يلتفت إلى سواه..
المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.