العالم قرية واحدة. عبارة قديمة، يدلل بها قائلها علي سقوط الحواجز والحدود بين تدفق السلع، والأفكار، وأيضا السلاح. الذين راهنوا في العقود الماضية علي زوال «الدولة» بالمعني الكلاسيكي كانوا يشيرون إلي الشركات المتعددة الجنسيات، التي تفوق في قوتها المالية، ونفوذها السياسي، وحضورها الاقتصادي، وامكانياتها التقنية الكثير من الدول الهشة. الحكومات تسقط بفعل عوامل التفسخ السياسي أو النزاعات الأهلية أو الهبات الشعبية المطالبة بالحرية، ولكن الكيانات العالمية الاقتصادية لا تسقط، تنتقل من مكان إلي آخر، تغير من شكلها واسمها، لكنها قوية. بقيت الدولة، وظلت الكيانات الكونية الأخري، ولكن تداخلت علاقات التأثير والتأثر. العولمة جعلت دولا تتأثر بصراعات بعيدة عنها، وفرضت أن تكون تسوية أو إدارة النزاع متعددة الأطراف، وليست فقط بين أطراف النزاع المباشرين. الشرق الأوسط نموذج حي علي ذلك. في مايو الماضي واجهت حكومة الهند- التي تولت السلطة قبل ذلك بفترة وجيزة- أزمة عاصفة، وهي قيام تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» بخطف 41 عامل بناء، و35 ممرضة من الهند يعملون في كل من الموصل وتكريت علي التوالي. تبعد الهند نحو ألفي ميل عن الصراع في الشرق الأوسط، لكنها واجهت أزمة ليست الأولي من نوعها، فقد اضطرت في التسعينيات إلي نقل ما يزيد علي مائة ألف عامل في أثناء حرب الخليج الأولي، وواجهت مواقف مشابهة في ليبيا عام 2011م، والعراق عام 2014م. الهند، شأنها شأن الكثير من الدول، المصدرة للعمالة، يعيش نحو سبعة ملايين هندي في الشرق الأوسط، الذي تحصل منه علي ثلثي احتياجاتها من النفط والغاز، ويعد شريكا تجاريا لها، تفوق المعاملات معه حجم علاقاتها التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة. هل كان شخص يتوقع أن يكون تأثير ما يجري في الشرق الأوسط بهذه الكثافة علي دولة مثل الهند، بعيدة جغرافيا، لها سياقها الإقليمي، تطلعاتها ومشكلاتها، وليست طرفا مباشرا في النزاع؟ أوروبا وجدت نفسها هي الأخري، الأقرب جغرافيا، في قلب صراع الشرق الأوسط، رغم أن الدول الأوروبية خاصة، والغربية عامة، ليست في حالة «صراع مباشر» مع تنظيم «داعش» حتي تتسابق في توجيه ضربات جوية له. المفكرون الغربيون، مثل أستاذ التاريخ الشهير «تيموثي جارتون آش»- يعرفون جيدا أن الغرب يدفع ثمن تفكك الامبراطوريات القديمة، التي صنعها، والشرق الأوسط ليس بعيدا عن ذلك، وبالتالي استدعاؤه للنزاعات داخل وخارج محيطه نتيجة طبيعية. في داخل الفضاء الخاص لم تهنأ أوروبا علي مدي عقود بالسلام عكس المقولة الشهيرة التي كانت تتردد «أوروبا تعيش في سلام منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية»، فقد شهدت أوروبا الشرقية نزاعات محدودة في الخمسينيات، تبعها غزو سوفيتيي لبولندا عام 1956م، وآخر لتشيكوسلوفاكيا عام 1968م. وعقب تمزق يوجوسلافيا كانت هناك حروب التسعينيات بين القوميات، وأشهرها «كوسوفا». والحرب الآن في شرق أوكرانيا ليست إلا تعبيرا عن الحدود مع روسيا العظمي، بقايا الصراع في قلب الاتحاد السوفييتي، ومما يثبت ذلك أن أفراد الحركة المؤيدة لروسيا في شرق أوكرانيا يطلقون علي أنفسهم «القوميين» وليس «الانفصاليين»، حسب الوصف الأوكراني المدعم أوروبيا. في الشرق الأوسط ما يحدث من عنف وإرهاب- في بعض أبعاده- تعبير عن تداعيات رسم خريطة المنطقة عقب تفسخ الدولة العثمانية. الغرب ليس بعيدا عن ذلك، وضع الخريطة في السابق، والآن يعيد رسمها أو علي أحسن تقدير يتحمل نتائج فشلها. مقاتلون يحملون جنسيات أوروبية- يقدر عددهم بأكثر من ثلاثة آلاف- يحاربون في صفوف «داعش». المشكلة التي تؤرق الغرب ليست فقط في الذين رحلوا إلي الشرق الأوسط لمساندة «داعش»، ولكن في الإرهاب القادم الذي قد يصنع محليا. عمليات إرهابية تٌحدث تأثيرا ماديا وإعلاميا في المدن الغربية، خطف أو تفجير طائرات،تهديد المواطنين الغربيين، والمصالح الغربية في كل مكان- مرة أخري العولمة تغمر العالم بأركانه الأربعة بالسلع، والأفكار، وأيضا العنف. في كتابه الأخير، المثير للجدل «المسلمون قادمون. الإسلام فوبيا، التطرف، والحرب المحلية علي الإرهاب» يقول «أرون كوندناني»- الاستاذ بجامعة نيويورك: هناك مائة ألف مسلم تحت الرقابة السرية بالولايات المتحدة، وجمعت أجهزة الأمن البريطانية قوائم بنحو ثمانية آلاف مسلم يتعاطفون مع تنظيم «القاعدة»، وبرغم ذلك يري أن الاستراتيجيات المتبعة لمواجهة التطرف والإرهاب من جانب الدول الغربية تعتمد علي تحليلات خبراء يجانبها الصواب. الإرهاب، الذي ينتقل من أفغانستان، للاستقرار بكثافة، ويكسب أرضا في الشرق الأوسط بالمعنيين الجغرافي والسياسي، ويهز خريطة الدول العربية، هو نتاج هذه العولمة، التي جعلت انتقال السلاح بنفس سرعة انتقال السلع والأفكار، وأفضت إلي وجود إرهابيين في العواصمالغربية لم يلتقوا إرهابيا في بلادهم، ولكن تواصلوا مع الإرهاب والإرهابيين عبر تقنيات الفضاء المفتوح، والآن يتجه العالم- شرقا وغربا- للتعامل مع الإرهاب والعنف في الشرق الأوسط، عبر استراتيجيات «غائمة»، قد لا تأتي بنتائج ملموسة. خلاصة القول أن الشرق الأوسط، هو تعبير مكثف عن عولمة العنف، وعولمة إدارة الصراع، سواء في إطار تسويته، أو في الإبقاء عليه في حدود السيطرة عليه، ولم تعد أطراف كثيرة، بعيدة أو قريبة، تمتلك رفاهية البعد أو الانعزال عنه. لمزيد من مقالات سامح فوزي