لا أعرف ما إذا كانت الحرب مع «داعش» فى المشرق العربى ستترك للإعلام الغربى ومراسليه فسحة لمتابعة حدث بأهمية الانتخابات التونسية المقرر ان تجرى برلمانية فى 26أكتوبر الحالى ورئاسية فى 23 نوفمبر المقبل. لكن مجرد اجراء مثل هذه الانتخابات فى المنطقة العربية التى تعصف بها رياح «داعش» واخواتها وتعانى بالأصل من أمراض الديكتاتوريات المزمنة يعد بمنزلة مبرر كاف لكى ينظر العالم الى تونس ويقارن. وعلى اى حال فقد استبق الأمين العام للأمم المتحدة ابان كى مون « هذه الانتخابات بأقل من أسبوعين وزار تون»، وتحدث عن اتجربة تفيد بان الديمقراطية ممكنة عبر التوافق. ولكن هذا الحديث الشائع حاليا عن «التجربة التونسية» أو «النموذج التونسى» كما ذهب رئيس حزب النهضة الاسلامى التونسى «راشد الغنوشي» فى محاضرته بجامعة « يال الأمريكية» نهاية سبتمبر الماضى يحمل فى باطنه مخاطر الإقرار باستثناء غير قابل للتكرار أو المشابهة، صحيح ان لمثل هذا الاستثناء حيثياته كارتفاع نسبة التعليم وقوة المجتمع المدنى ودرجة التفاعل مع أوروبا وثقافاتها. فضلا عن تطور الإسلام السياسى ومدى تقبله للحداثة وللتراث الحقوقى الانسانى . لكن هكذا دعاء للاستثناء التونسى يعيد علينا دروسا عنصرية فى الاستثناء العربى من الديمقراطية. وكأنه قدر العرب اللانهائى ان يعيشوا نظما استبدادية باسم الوطنية أو الدين أو كليهما معا, وخارج التاريخ.فلا تلحقهم تغييرات اجتاحت مختلف قارات العالم مع الثورات العالمية من عصر الصناعة الى عصر الإنترنت. ولا يمسهم سقوط الديكتاتوريات وانتشار الديمقراطية فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على مدى الربع قرن الأخير. بحكم الجوار الجغرافى تقع تونس الصغيرة المساحة بين جارين عربيين عملاقين يتمتعان بثروة نفطية ( ليبيا والجزائر). الأول يعيش مخاض حرب أهلية طويلة وبحكومتين والعديد من ميليشيات القبائل والعشائر و المناطق المتناحرة. والثانى خرج من حربه الأهلية مع الاسلاميين فى عقد التسعينيات بنحو مائتى ألف قتيل. ولينتقل الآن الى مستقبل مفتوح على مجهول رئيس مريض أعيد انتخابه للمرة الرابعة و مجتمع بديمقراطية منقوصة مشوهة يحكمه الجنرالات. وفوق هذا وذاك فإن حدود تونس مع جاريه الاثنين عرضة للاختراق من الجماعات الإرهابية. ومع هذا المحيط الجغرافى المضطرب لاتخلو برامج أبرز الأحزاب التونسية التى تتقدم الى الانتخابات من تعويل على تعاون اقليمى لمكافحة الإرهاب الذى ضرب تونس ذاتها فى السنوات الثلاث الأخيرة على نحو لم تعرفه منذ عقود سبقت. لكن الرهان المراوغ على تعاون إقليمى يأتى هذه المرة مصحوبا بقناعة مفادها أن الحل الأمنى وحده ليس كافيا، وبأن الحلول الاقتصادية والسياسية والثقافية لتأمين تماسك النسيج الداخلى للبلاد لاتقل أهمية. أحلام جانب كبير من الطبقة السياسية فى تونس كما تعكسها العديد من برامج الانتخابات تدور حول بلد يصبح بمنزلة مركز إقليمى عالمى لاقتصاد الخدمات يربط بين افريقيا وأوروبا. لكن توافر الأمن والاستقرار السياسى شرط لازم للمضى نحو هذا الهدف. وهذا الأمر ينبه الى حلقة دائرية تتشابك فيها جهود مكافحة الإرهاب مع تهيئة المناخ لانطلاقة اقتصادية، وعلى نحو يتبادل فيه السبب والنتيجة المواقع. بالقطع فإن الإرهابيين بمختلف تنظيماتهم ومدارسهم بما فى ذلك السلفية الجهادية أعداء نجاح التجربة التونسية فى الانتقال الى الديمقراطية. لكنهم ليسوا وحدهم. فهناك قوى ودول إقليمية لا يروقها كسر ثنائية الاستبداد والارهاب. ويزعجها كثيرا تقديم نموذج ديمقراطى ناجح فى المحيط العربى . ولأسباب داخلية فى هذه الدول أيضا. لكن الحصافة التونسية تقتضى أخذ واقع النظام الرسمى العربى فى الاعتبار . وتجنب الانزلاق الى خصومات تحمل شبهات تدخل المسئولين التونسيين المنتخبين ديمقراطيا فى شئون الدول الأخرى. وفى هذا السياق يمكن فهم تعهد الجبهة الشعبية اليسارية المرشحة لتحتل المرتبة الثالثة فى الانتخابات البرلمانية بتونس باعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق خلال المائة يوم الأولى فى حال مشاركتها فى الحكم . صحيح انه من الصعب التنبؤ بدقة بنتائج الانتخابات التونسية وبالتالى مردودها على الإقليم . لكن لاعتبارات داخلية محلية ولأخرى تتعلق بهبوط وتراجع المنحنى العام للإسلاميين فى الحكم من العراق الى المغرب فإن المرجح ان يخرج حزب النهضة الإسلامى أضعف مما كان عليه بعد انتخابات المجلس التأسيسى عام 2011. وإن كان هذا لا يستبعد تماما فرص مشاركته فى حكومة ائتلافية جديدة مع أحزاب علمانية. وفى كل الأحوال فإن الحصاد الأرجح للانتخابات يعطى درسا مهما فى امكان هزيمة الاسلاميين أوتقليص نفوذهم عبر صندوق انتخاب حر ونزيه. كما قد يفضى هذا الحصاد الى المزيد من ترشيد السياسة الخارجية للدولة التونسية. وبالمضى فى خطوات تحسين العلاقات مع دوله كمصر .وهو تحسن بدا ملموسا مع تعاون حكومتى البلدين فى معالجة ازمة العمالة المصرية التى لجأت الى تونس قادمة من ليبيا. وإذا كان الكاتب الفرنسى الصديق «آلان جريش» يرى فى تونس فرصة لتسوية تاريخية بين القوى السياسية الإسلامية والعلمانية مستلهما التسويات التاريخية التى عرفتها القارة الأوروبية بين قوى اليسار واليمين بما فى ذلك الشيوعيون والمسيحيون الديمقراطيون ، فإن جاذبية النموذج التونسى فى انجاز مثل هذه التسوية التاريخية لها أهميتها. وهذا بصرف النظر عن الوزن النسبى لتونس فى النظام الإقليمى العربى. وحقائق المحدودية النسبية لعدد السكان و الامكانات المتوافرة لدول اخرى أكثر محورية وتأثيرا. ولعل الدرس التونسى الأهم يكمن فى ان الديمقراطية صعبة لكنها ممكنة. لمزيد من مقالات كارم يحيى