صدقوني لقد اختفي الصدق من حياتنا.. وحلق طائره بعيدا إلي شواش الشجر وأعنة الجبال.. وهجر اعشاشه التي نصبها في صدورنا وفي قلوبنا زمانا طويلا طويلا.. وطار بعيدا إلي غير رجعة.. بل أنه كما سمعته بأذني.. راح يلعن الزمان الذي كان فيه رفيق دربنا.. والأيام التي صاحبنا فيها معروفا وأنيسا وجليسا طيبا مخلصا ليحل محله الكذب الذي أصبح الآن علامة من علامات حياتنا.. يجري مجري الدم في عروقنا نحن المصريين. وإذا لم تصدقوني آسف أنني استخدمت كلمة الصدق هنا ارجو أن تكذبوني فيما أدعي هنا وأقول.. {{ تصحو من نومك مفزوعا.. فالمنبه لم يضرب أهو غلاسة كده.. لأن بطاريته فارغة.. لتسأل زوجتك الراقدة علي السرير المقابل وتغطي رأسها بالملاءة: معقولة يا ست هانم تسيبيني لحد دلوقتي نايم.. أنا عندي شغل.. ولو تأخرت خمس دقائق يخصمو لي ربع يوم! زوجتك المصونة والجوهرة المكنونة تفتح عينيها بشعرها المنكوش كأنه فروة خروف العيد وتلهيك وترزيك بقولها: حتي النومة الواحدة موش طايلاها معاك.. والواحدة شقيانة طول النهار في المطبخ وفي هم العيال.. زوجتك المصونة تكذب هنا.. وهي الكذبة الأولي في يومك الذي لم تطلع شمسه بعد.. لانها أولا لم تدخل المطبخ من يومين.. بحجة أن الغاز مقطوع عندكم بسبب عطل في المحبس الرئيسي.. وكمان الأولاد انت الذي تتولي أمرهم من السادسة صباحا بالسندويتشات تعدها لهم والمصروف تدسه في ايديهم وهم ينزلون إلي أتوبيس المدرسة الواقف تحت البيت! هذه أول كذبة تتسلمها في يومك السعيد.. .......... .......... {{ تركب الميكروباص المزدحم محشورا ومقهورا ليفاجئك سائقه بالكذبة رقم اثنين.. بقوله للركاب: يا بهاوات الأجرة زادت النهارده نص جنيه.. أصل البنزين زاد.. زي ما أعلنوا النهاردة في نشرة الاخبار! السائق يكذب هنا.. لأن البنزين لم يزد ولا حاجة.. وانما شح قليلا.. ولكنه الكذب الذي أصبح يجري في دمنا.. ومعه داء الطمع والعياذ بالله! وغصبا عنك تبتلع أنت والركاب كذبته وتدفع الزيادة.. لانك لو لم تدفع تأخرت عن ميعاد الشغل.. ويتخصم لك ربع يوم أو حتي نص يوم.. لو نزلت من الميكروباص واخدتها كعابي إلي شغلك! .......... .......... {{ تصل إلي مكتبك في شغلك وأنت تلعن «أبوخاش» اليوم الذي ولدت فيه لتفاجأ بأن اسمك ليس مدرجا في كشوف العلاوات الجديدة. وتسأل رئيسك المباشر: مين شال اسمي يا بيومي أفندي من كشوف العلاوات.. وانت قايللي ان اسمي أول اسم؟ بيومي أفندي يكذب ويعرف أنه يكذب: أنا كاتب اسمك بايدي دي اللي تنقطع.. موش عارف مين اللي شايله.. لازم سعادة البيه الوكيل هو اللي عمل كده! تذهب إلي مكتب حضرة الوكيل.. وانت علي آخرك موش طايق حد.. وموش شايف قدامك.. وتدخل إليه بعد زعيق وكلام وخناق مع حضرة سكرتير الوكيل.. ليفاجئك بقوله: وأنا اشيل اسمك ليه.. والكشف جالي مافهوش اسمك أصلا! ملحوظة من عندي: لابد وأن يكون اسمك هنا يا عزيزي لزوم القهر والكذب البين هو صابر أفندي.. فنرجو المعذرة! .......... .......... {{ تعود أنت وقد أصبحت تحمل اسم صابر أفندي.. إلي رئيسك المباشر لتسأله سؤالا واحدا: هو صحيح حضرتك ماحطيتش اسمي في كشوف العلاوات؟ يقسم لك رئيسك بيومي أفندي أنه قد وضع اسمك في أول الكشف.. ولكن البيه الوكيل هو اللي شاله بقلمه.. ليه ماحدش عارف! وتضيع العلاوة بين كذب رئيسك وكذب البيه الوكيل.. لانه لا أحد يقول الحقيقة.. ولكن الكل يكذب ويكذب ويكذب.. ولكنك وأنت مظلوم السبع ظلومات كما كانت تقول جدتي لأمي لم تسكت .. وقررت بينك وبين نفسك أن تأخذ حقك وأن تعرف الحقيقة التي يكذب الجميع بشأنها ومن حولها.. حتي لو دفعت ثمنها وظيفتك كلها.. وتطلب مقابلة السيد المدير العام.. يا للهول.. قالها زميل لك عندما سمع أنك ذاهب لمقابلة سعادة الباشا صاحب الوجه العبوس القمطرير الذي لا يعرف الابتسامة أبدا.. ولا اللين ولا الهوادة.. يعني رايح تقابل السبع في عقر داره.. هو انت بايع روحك واللا ايه ياصابر أفندي؟ ولكنك يا صابر أفندي تركب دماغك وتقول لنفسك: يا روح ما بعدك روح.. لازم أعرف أيه الحكاية.. واشمعني اسمي أنا بس اللي اتشال بقدرة قادر من كشف العلاوات؟ .......... .......... {{ وتركب أنت دماغك يا صابر أفندي كما يقول المثل البلدي وتذهب بنفسك.. وتحت ابطك دوسيه أوراقك التي تقول إنك أحق واحد بالعلاوة الجديدة وتذهب إلي عرين الأسد.. إلي مكتب المدير العام كدة خبط لزق ويا صابت يا اثنين عور كما يقول العامة وتطرق علي استحياء باب مكتب المدير العام.. ليقابلك حضرة السكرتير وهو علي نفس حال المدير العام صاحب وجه عبوس نسخة طبق الأصل من وجه المدير العام.. يسألك: فيه حاجة يا صابر أفندي؟ ترد أنت: أصل انا اسمي انشال معرفش ازاي من كشف العلاوات! يسألك بقرف: اتشال ازاي.. ومين قالك انه كان محطوط في الكشف أصلا؟ أنت ترد بأدب شديد: رئيسي المباشر هو اللي قاللي انه حاطط اسمي أول اسم في الكشف! يسأل مدير المكتب بتكشيرة أكبر علي وجهه: ومين رئيسك ده؟ أنت ترد: بيومي أفندي! يرفع حضرة السكرتير سماعة التليفون ويطلب بيومي أفندي.. ويدور بينهما حوار غير مسموع بالطبع لان حضرة السكرتير لا ينطق إلا بكلمات مقتضبة ومختصرة جدا: ايوه.. صح.. معقولة.. أنا فهمت كل حاجة ماتقلقش.. أنا حاعمل اللازم.. لا.. طبعا موش حدخله للباشا معقولة.. اطمن! ........... ........... {{ يلعب الفار في عب صابر أفندي .. اللي هو انت و تروح تضرب اخماسا في اسداس وانت تسمع الحوار التليفوني من طرف واحد هو حضرة السكرتير الذي يفاجئك بقوله: طيب احنا حنشوف موضوعك يا صابر أفندي اديني يوم واللا اثنين.. وإن شاء الله حتلاقي اسمك رجع تاني كشف العلاوات! حضرة السكرتير هو الآخر هنا يكذب ويكذب ويكذب.. ولكنك أنت يا صابر أفندي .. لم تعد تطيق هذا السيل من الأكاذيب التي تنهال فوق أم رأسك.. فتقول لحضرة السكرتير: انا موش منقول من هنا.. إلا لما اقابل سعادة المدير العام! يرد عليك السكرتير بغلظة: هو المدير العام معندوش شغلانة إلا أمثالك من الموظفين الكسلانين.. الباشا عنده شغل.. فاهم يعني ايه عنده شغل! للحظة يكتشف صابر أفندي ان الدنيا كلها تقف له بالمرصاد.. وتطلع له لسانها.. وان الكل يلعب به ويتلاعب فيقرر وحده ان يقتحم مكتب الباشا المدير العام.. برفسة من قدمه ويقدم له ملف حسن السير والسلوك ودرجات تفوقه وعلاواته حتي يدرك كم هو مظلوم..ويعيد له حقه في العلاوة الجديدة وهو أحق بها من غيره.. ويعيد اسمه إلي كشف العلاوات! ............. ............. {{ ما دار في ذهن صابر أفندي أصبح حقيقة برفسة من قدمه لباب السيد المدير العام.. ليجد نفسه في مواجهة الأسد الغضنفر كما وصفوه له وزادوا وعادوا .. انفتح الباب ليجد صابر أفندي نفسه وجها لوجه مع حضرة المدير العام الذي وقف منزعجا من فوق كرسيه علي مكتبه وهو يقول له: فيه ايه يا أفندي.. وازاي تدخل كده.. فيه هنا نظام موش هرجلة! في اثره طبعا دخل حضرة السكرتير زاعقا مذعورا: والله يا أفندم هو اللي دخل غصب عني.. أنا قلت له: الباشا مشغول.. ماسمعشي كلامي ورفس الباب ودخل لحضرتك.. تعالي معايا يا صابر أفندي واللا اندهلك الأمن! بنظرة ثاقبة من عين المدير العام.. لعيني صابر أفندي.. اكتشف انه ربما يكون صادقا.. فقال للسكرتير: سيبه يا محسن أفندي.. انا حاتكلم معاه الأول.. حضرتك سيبنا كدة لوحدنا وروح أنت علي مكتبك! السكرتير بصوت واطي: لكن يا أفندم.. المدير العام: مالكنش.. سيبنا لوحدينا وأقفل الباب من بره! .......... .......... {{ أصبح صابر أفندي جالسا وحده وجها لوجه مع الأسد في عرينه.. يسأله المدير العام بعبارة صارمة: فيه ايه يا باشا؟ صابر أفندي وهو يقدم له دوسيه خدمته وترقياته وعلاواته ودرجاته: انا اسمي يا أفندم كان في كشوف العلاوات.. ما اعرفش ليه بقدرة قادر كده اتشال من الكشوفات واتحط بداله اسم موظف تاني! المدير العام: موظف تاني ازاي.. يضغط علي الجرس اللي جواره.. يدخل علي سماع صوته حضرة السكرتير المبجل.. فيقول له المدير العام: هات لي كشوف العلاوات بسرعة! في لمح البصر يأتي حضرة السكرتير بالكشوف.. ويخرج.. يبدأ حضرة المدير العام في تصفح الكشوف كشفا كشفا.. بعد أن يسأل صابر أفندي عن اسمه كاملا.. فيذكره له.. يغلق المدير العام دفتر الكشوف وينظر إلي صابر أفندي قائلا وهو يكذب ويعرف أنه يكذب: معلهش يا صابر أفندي أصل اسمك تشابه مع اسم موظف تاني.. اسمه برضه صابر .. تصور يضحك ضحكة بلا معني وهو يكمل كلامه: أصل اسمه زي اسمك تمام.. سبحان الله جالنا من فوق من فوق قوى.. لكن دلوقتي بعد ما السيد الوزير مضي الكشوفات موش معقول.. حنرجعهاله تاني ونقوله ان احنا غلطنا.. معلهش العلاوة الجاية لو كان لينا عمر وأنا لسة قاعد علي الكرسي ده في المصلحة حديك بنفسي بدل العلاوة علاوتين.. مبسوط يا صابر أفندي؟ يقوم من فوق كرسيه ويمد يده بالسلام لصابر أفندي علامة ان ينصرف دون كلمة واحدة! .......... .......... {{ الكل هنا فيما عدا صابر أفندي يكذب.. ويكذب.. ويكذب.. يخرج صابر أفندي من حجرة المدير العام مطأطأ الرأس مكسور الخاطر محطم الفؤاد.. في طريقه إلي خارج المصلحة والوزارة كلها.. ليرتمي علي أول كرسي في أول مقهي يقابله.. ليطلب من الجرسون واحد قهوة سادة بن تقيل.. ليجد أمام عينيه علي شاشة جهاز التليفزيون المعلق أمامه علي الحائط أمريكا بجلالة قدرها.. تكذب علي العالم وترسل اسطول طائراتها الى سوريا والعراق لتضرب جماعة داعش الارهابية التى زرعتها هي هنا.. ليدور في رأس عم صابر مونولوج سياسي تقول كلماته: هذه أكبر دولة في العالم تكذب.. وحتى هيئة الاممالمتحدة نفسها.كذبت أكبر كذبة في تاريخها عندما وافقت وصدقت على أكبر جريمة سياسية في التاريخ سنة 7491 باقامة دولة إسرائيل علي اطلال دولة فلسطين العربية.. حتي الدول الكبري تكذب دون خجل.. والعالم كله يكذب.. موش بس مراتك وسواق الميكروباص ورئيسك والمدير العام.. العالم كله يكذب يا صابر أفندي اتلحلح انت كمان كده واتعلم تكذب على رأي المثل اللي بيقول: اكدب تعيش منفوش الريش.. وعجبى! Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى