فى وقت تسود فيه الدعوة لتصويب ما اختّل فى منظومة القيم والسلوك فى مجتمعنا نحتاج لأن نتوقف عند بعض الظواهر السلبية التى تُربك طريقنا إلى النهوض والتقدم. إحدى هذه الظواهر هى الكذب. وسواء كان الكذب ظاهرة متأصلة أو سلوكاً عابرا فى حياتنا فإن أهمية الانشغال به تتجاوز أبعاده الأخلاقية والدينية لتمس صميم قضية العمل والإنتاج والمعاملات بين الناس ومجمل منظومة التقدم فى حياتنا. والكذب فى حده الأدنى نقيصة أخلاقية وفى حده الأقصى جريمة جنائية فى بعض الأحوال. لكنه يبقى فى الحالتين سلوكاً فردياً شائناً وظاهرة اجتماعية مقلقة . والحاصل أن لكل مجتمع ما يُشتهر به لدى غيره من المجتمعات الأخرى . وَمِمَّا اشتهرت به المجتمعات العربية - سواء عن حق او عن مبالغة- أن الكذب سلوك يومى معتاد فى حياة معظم الناس. هذا لا يعنى بالطبع انعدام الصدق والأمانة فى حياتنا لكنه يعنى ضرورة الانتباه قبل أن يتحوّل السلوك إلى ظاهرة. حين نتأمل ثقافة وسلوك المجتمعات المتحضّرة نكتشف أن للصدق مكانة مركزية فى منظومتها الأخلاقية . أما فى مجتمعاتنا العربية فثمة تساؤل حول مدى التزامنا بقيمة الصدق والتحلل منه تحت ذرائع ومسميات شتي. فالفهلوى مثلاً فى الوعى الشعبى المصرى رمز لشخصية تعكس الذكاء والمهارة، مع أن « الفهلوة» ضرب من ضروب الكذب. وجرائم الشرف فى الوعى الشعبى المصرى تنصرف بصفة أساسية إلى جرائم المساس بالعرض، وهى بالتأكيد قيمة جوهرية فى الثقافة العربية والاسلامية. ولهذا فإن جرائم الشرف لدى عموم الناس تبدو سلوكاً شائناً وفاضحاً يستوجب الاستنكار والاحتقار. أما فى بلد مثل بريطانيا فإن أبرز جرائم الشرف التى تستوجب احتقار فاعلها هى جرائم التهرب من الضرائب مثلاً باعتبارها تمثل صورة جسيمة من صور الكذب فى مواجهة الدولة والمجتمع أيضاً. هناك، فى المجتمعات الغربية المتحضّرة يتصدر الصدق منظومة القيم الأخلاقية والثقافية . وثمة الكثير من مظاهر الخطأ الأخلاقى يمكن فى المجتمع الغربى التماس العذر لفاعلها إلا الكذب الذى لا يتسامح فيه المجتمع. ولهذا فإن الكثيرين لم يفطنوا مثلاً إلى أن السبب الحقيقى وراء محاكمة الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون فيما مضى عن علاقته الجنسية مع المتدربة «مونيكا» لم يكن خطؤه الأخلاقى فى إقامة علاقة جنسية مع سيدة بل كان السبب الحقيقى لمحاكمته أنه (كذب) على الشعب الأمريكى وأنكر فى البداية وجود مثل هذه العلاقة. هذا لا يعنى تبرير علاقة جنسية غير مشروعة فهذا خطأ يرتكبه الشخص فى حق نفسه او حق أسرته لكن الأكثر خطأ هو أنه يكذب الشخص فى مواجهة المجتمع ويفتقر إلى شجاعة الاعتراف بكذبه. المفارقة فى المجتمعات العربية هى الانفصام بين القول والسلوك فى الموقف من الكذب. فالعرب والمسلمون يحفظون عن ظهر قلب ويرددون دائماً فى خطابهم الوعظى الكثير من الآيات القرآنية التى تنهى عن الكذب وتنهر الكاذبين وتتوعدهم وثمة أحاديث نبوية وإن تفاوتت فى مدى قوة سندها تحط كثيراً من سلوك الكذب بالمقارنة مع صفات مذمومة أخري.كل هذا يدعو للتساؤل: لماذا كان للصدق والأمانة هذه المكانة، الرفيعة فى التصور الديني؟ ولماذا تحظى الأمانة بهذه الأهمية كسمة أخلاقية وقيمة سلوكية فى المجتمعات المتحضًرة؟ من الطبيعى أن يكون للصدق والأمانة كل هذه المكانة لأن التمسك بهما ليس فقط فضيلة فردية تخص صاحبها وحده بل لأن أثر التمسك بهما يتجاوز الفرد لينعكس على كل منظومة العمل والعلاقات والمعاملات فى المجتمع. والأمانة أم الفضائل، لأنه عنها تتفرع قيم النزاهة واتقان العمل والإخلاص والتجرد بل والشجاعة بقدر ما أن الكذب تتفرع عنه رذائل الغش والخداع والجبن. فهل كان من الممكن نجاح نموذج التقدم اليابانى دون أن يتحلى اليابانيون بالأمانة؟ وهل كان للمجتمع الألمانى أن يحقق كل هذا التفوق والتميز إذا كانت تسود أفراده مظاهر الكذب والغش؟! لقد حدث فى ألمانيا منذ عدة سنوات أن تم إجبار أحد الوزراء الشبان اللامعين كارل تيودور جوتنبرج (ينتمى إلى أسرة ألمانية عريقة) على الاستقالة من منصبه لا لشيء إلا لأنه كان قد حصل على درجة الدكتوراة ثم تبيّن أن رسالته قد تضمنت عدة صفحات قليلة منقولة عن الغير لكنه نسبها إلى نفسه. هذه أمثلة قد تبدو عابرة لكنها عميقة المغزى مؤكدة فى دلالاتها على أنه لا يمكن فصل مسألة التقدم عن ظاهرة الأمانة بقدر ما أنه يصعب تفسير التخلف بمعزل عن ظاهرة الكذب. الأقوال والمأثورات الشعبية عن الكذب تعكس ثقافة كل مجتمع وموقفه الأخلاقى منها. ففى الغرب مثلاً يقولون «بوسعك أن تخدع بعض الناس كل الوقت أو تخدع كل الناس بعض الوقت لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت». أما المثل العامى لدينا فيقول «قالوا للحرامى احلف قال جالك الفرج». سؤال الختام: لماذا يشيع الصدق والأمانة فى مجتمعات ويسود الكذب فى مجتمعات أخرى؟ ربما تتعدد أو تتباين أسباب الإجابة لكن المؤكد أن ندرة أو شيوع الكذب أمر لا يتوقف فقط على مدى تغلغل ثقافة استهجان الكذب أو تبريره من جانب المجتمع. الأمر يتوقف أيضاً على مدى شعور الكاذب بالخجل الذاتى من كذبه أو استمرائه لهذا الكذب. ولهذا قالوا: إن لم تستح فافعل ما شئت. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم