تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن ولكن فقط فى الحالة العربية الفلسطينية، أما فى حالة إسرائيل فإن الرياح مؤاتية وتتوافق مع مصالح وسفن إسرائيل، تستحق إسرائيل وبجدارة «لقب الدولة المحظوظة» وهو مسمى آخر يمكن أن يضاف إلى قائمة المسميات التى عرفناها أخيراً عن االدولة العاصية والدولة «الفاشلة» وغير ذلك من المسميات، وإطلاق هذا المسمى على إسرائيل يتطلب التحفظ حتى لا يتسلل إلى عقل القارئ وقلبه أن ما يصيب العرب والقضية الفلسطينية هو نوع من اسوء الحظب بما يحمله هذا المسمى من غموض وقدرية وما يفتقده من قدرة تفسيرية، من المؤكد أن التطورات التى جرت وتجرى فى الشرق الأوسط واستفادت وتستفيد منها إسرائيل ليس مجرد «حظ» بل تدبير وتفكير وتخطيط محكم من قبل دوائر إسرائيلية وصهيونية نافذة فى دوائر الاستراتيجيات والإعلام والسياسة الغربية ومواقع مؤثرة وانحيازات راسخة فى المؤسسة السياسية الغربية لمؤيدى إسرائيل والصهيونية. تأمل معى عزيزى القارئ فى كل مرحلة من مراحل التطور، إن فى العلاقات الدولية أو النظام الدولي، فازت إسرائيل بنصيب الأسد من حصاد هذه التطورات، ففى الحرب العالمية الأولى تمكنت الصهيونية من الحصول على وعد بلفور عام 1917 وألحقت بجيوش الحلفاء ما عرف بالفيلق اليهودى، الذى قاتل العرب فى حرب 1948، بعد إعلان قيام إسرائيل، أما فى الحرب العالمية الثانية فقد استثمرت إسرائيل جريمة الهولوكوست ضد اليهود من أجل ابتزاز ألمانيا وإجبارها على دفع التعويضات لضحايا ما سمته المحرقة النازية بل ونجحت إسرائيل فى ايجاد وترسيخ عقدة الذنب لدى الأوروبيين وساستهم بشكل عام فى كل ما يتعلق بإسرائيل وسياساتها وفقدوا القدرة على انتقادها باعتبار ذلك نقدا للسامية وعداء لها، أما فى أثناء الحرب الباردة وحقبة الثنائية القطبية فقد لحقت إسرائيل بالمعسكر الغربى وكانت إحدى أدواته فى المنطقة لمعاداة حركة التحرر العربية، وبعد انتهاء هذه الحقبة وظهور الأحادية القطبية وتفكك الاتحاد السوفيتى السابق هاجر إلى إسرائيل اليهود السوفييت وقرابة المليون منهم فى الوقت الذى بدأت مصادر الهجرة توشك على النضوب فى البلدان الأخري. ومع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران كسبت إسرائيل من ضعف هذين البلدين لتصبح القوة الإقليمية الأولى، وفى حرب الخليج الثانية ضعفت الجبهة الشرقية المواجهة لها فى العراق ودمرت بنية العراق التحتية من جراء العقوبات المفروضة عليه بعد الحرب. ومع بدء الحرب الأمريكية الكونية على الإرهاب سارعت إسرائيل بتقديم المقاومة الفلسطينية باعتبارها إرهاباً على قدم المساواة مع تنظيم القاعدة وأضرت ضرراً بالغاً بالقضية الفلسطينية ووضعت بعض منظمات المقاومة فى قائمة المنظمات الإرهابية التى يحظر التعامل معها وينبغى محاصرتها. والآن مع التحالف الدولى ضد اداعش «فى العراق وسوريا فإن إسرائيل تستثمر هذه الحرب ضد اداعش» لكى تثبت للعالم خاصة الغربى أنها بريئة من أزمات المنطقة وليست السبب فى الكوارث التى تلم بها، فالمنطقة بتكوينها الدينى والعرقى والطائفى تمثل مخزوناً للأزمات، ويمكنها كذلك أن تحاول أن تثبت للعالم أن القضية الفلسطينية لم تعد تشغل بال العرب والعالم، فكلاهما مشغول بما هو أهم، أى الإرهاب وملاحقة الفئات المتطرفة. تستطيع إسرائيل أن تتبنى خطاب الضحية، أى أنها ضحية الإرهاب الذى عانت وتعانيه فى ظل الوضع الفلسطينى، باعتبار الوضع الفلسطينى جزءا من الحالة الإسلامية العامة فى المنطقة، وبطبيعة الحال فإن ذلك يعنى التغطية على الجرائم التى لم تجف الدماء التى أريقت فيها بعد فى غزة وكفالة الصمت على مرتكبى هذه الجرائم، نظرا لانشغال العالم بالحرب على الإرهاب. باختصار تقدم الحرب على الإرهاب فى هذه الآونة غطاء أخلاقياً وسياسياً لإسرائيل للإفلات من عواقب الجرائم التى ارتكبتها وترتكبها فى حق الشعب الفلسطينى، وتدعم هذه الحرب حالة الاستثناء التى تحظى بها إسرائيل فى العالم، فهى الدولة الوحيدة تقريباً التى تتمكن من الإفلات بجرائمها من قبضة القانون الدولى والعدالة الدولية رغم تقدم أسس هذه العدالة ومنطلقاتها وولايتها العالمية. التحالف الذى يقود الحرب على الإرهاب وعلى «داعش» يمثل القوى الكبرى فى العالم أو هى التى تقوده على الأقل ولا يجرؤ هذا التحالف على إلزام إسرائيل بتطبيق ما ارتضته الشرعية الدولية من قرارات بخصوص التسوية السلمية للصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية، أى قرارى 242و338، ووقف مسلسل الصراع والدماء فى المنطقة والاعتراف بحق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة بعاصمتها القدس، وهى الحدود الدنيا التى ارتآها العالم كأساس لحل عادل ومنصف للصراع فى المنطقة. إن الاستعصاء فى حل الصراع العربى الإسرائيلى يكشف وبجلاء عن الرؤية الانتقائية للغرب والمعايير المزدوجة التى ينظر بها للأمور وافتقاد الأسس والمقومات الأخلاقية عند النظر للقضايا التى تؤرق العالم العربى والإسلامى وتمثل إحدى أهم البؤر التى تغذى التطرف والإرهاب والإحساس بالظلم والتهميش. من المؤكد أننا لا نطالب بحشد تحالف دولى ضد إسرائيل على غرار هذا التحالف الدولى ضد الإرهاب، رغم أن إسرائيل تمارس الإرهاب ضد الفلسطينيين مواطنين ومسئولين، فذلك ينخرط فى إطار مثالية رومانسية لا تناسب معطيات الواقع الراهن، ولكننا نطالب على الأقل بوقفة موضوعية وأخلاقية من الاستثناء الطويل والممتد الذى تحظى به إسرائيل فى الإفلات من جرائم الاستعمار والاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطينى وذلك عبر تطبيق المبادئ التى هى جزء لا يتجزأ من ميراث القوى الكبرى والنظام الدولى الذى تقف على رأسه. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد