تبقى القضية الفلسطينية نقطة ارتكاز رئيسية فى تحديد منهجية تعاملنا مع معظم مشاكل العرب المتزايدة والتى فى بعض تجلياتها إفرازات لحروب داخل الوطن الواحد كما نشاهده فى اليمن والعراق والصومال والسودان كما فى التوترات المذهبية والطائفية والرواسب الناتجة عنها فى عدد آخر أو حتى معظمها فى الأقطار العربية، نشير إلى هذه الأوضاع كونها تئول إلى مزيد من فقدان المناعة القومية للأمة العربية، كما إلى وهن متزايد فى الإرادة القومية لاتخاذ قرارات حاسمة يكون من شأنها ردع لتمادى إسرائيل فى روتنة الاستباحة لحقوق الشعب الفلسطينى ولما يعنيه نجاحها من إمعان فى دفع الأوضاع لمزيد من التبعثر فى طاقات الأمة كما فى التشكيك فى جدية الالتزامات العربية وتمكين الشعب الفلسطينى من الحصول على حقوقه الوطنية التى من دون سرعة إنجازها تبقى الدول العربية تعول على مراهنات أثبتت فى مراحل عديدة عدم جدواها إضافة لكونها وفرت المزيد من الوقت لجعل الواقع القومى سريع العطب. إنه تجاهل الفرص التى كان ولا يزال ممكنا توفرها لردع المشروع الصهيونى فى المنطقة والحيلولة دون إمكان إسرائيل الإمساك بمفاصل إدارة الصراع، وبالتالى إلغاء وإن بالتدريج مجمل حقوق كافة شرائح الشعب الفلسطينى والإمعان فى تشجيعها سياسات إجهاض كل التزام فاعل لإنجاز أى تنسيق، ناهيك عن أية وحدة بين شرائح الشعب الفلسطينى وعن تضامن أو تنسيق بين الأقطار العربية وبالتالى تعبئة قدراتها لتحقيق ما يبدو على السطح مستحيلا ولكنه يبقى لشعوب الأمة ممكنا ومطلوبا وقابلا للصيرورة إذا توفرت بوصلة توجه ومرجعية موثوقة تخطط وتصمم على ربط القول بالفعل والواقع برؤيا قادرة على توفير المطلوب مرحليا والمرغوب الأمثل مستقبلا. *** لماذا هذه المقدمة؟ لأننا أردنا تسليط الأضواء على التطورات المستجدة فى النزاع العربى الفلسطينى مع إسرائيل، وهى إضافة إلى كونها تنطوى على عناصر قابلة لتمكين العرب والشعب الفلسطينى من الاستفادة من فرص أتاحتها نتائج تقرير القاضى الدولى جولدستون الذى كانت ردة الفعل الإسرائيلية الشرسة عليه ومن ثم على الرئيس نفسه كونه يهوديا مما استوجب ردا حاسما منه خلال مقابلة أجرتها معه جريدة (هاآرتس) أمس الأول، حيث وصفه شيمون بيريز «بأن جولدستون إنسان تافه، فاقد كل فهم للعدالة تكنوقراطى بدون أى فهم للقانون، والمصمم على مهمة لإيذاء إسرائيل»، هذا ما أورده رئيس دولة إسرائيل «المعتدل». حتى لا نستشهد بما وصف به وإهانته وتجريح لكرامته على لسان رئيس الوزراء نتنياهو والوزير ليبرمان مما يستوجب دفعه أن يصرح بكونه «مرتاحا أن يكون الحكم على الإجراءات التى اتخذتها طيلة ممارسة مهماتى المهنية أو لخدماتى التطوعية»، «لقد توقعت أن يكون التقرير مستدعيا للجدل والانتقاد» وأعلن «جولدستون» أنه لا أحد يرغب أن يكون متهما بارتكاب جرائم حرب جديدة» ثم تابع «إنى فوجئت بالتهجمات البذيئة ضدى شخصيا» هذا الهجوم كان نموذجا للهجوم على الرسول بدلا من معالجة مضمون محتوى الرسالة: كما أن كونى يهوديا استغل لجعل «التقرير» عمليا على إسرائيل مناقشته وتفنيد مضمونه»، كما أشار جولدستون إلى أنه فى حال وصول التقرير إلى مجلس الأمن فسوف يصطدم بفيتو أمريكى. ثم علق «لا أعتقد أن أية دولة عليها أن تحمى دولة أخرى بشكل أعمى. أنا أفضل أن أرى الولاياتالمتحدة توفر الأسباب لنقد التقرير» ثم تابع «أن الولاياتالمتحدة أيدت دعوتنا أن يكون التقرير قابلا للتصديق من إسرائيل وسلطات غزة» ثم أضاف «لا يكفى الجيش أن يحقق مع نفسه، هذا قد يرضى أناسا قلائل لكن حتما لن يرضى الضحايا»، وبعد أن فند بشكل منطقى افتراءات إسرائيل عليها أن تنظر إلى التقتيل والإصابات للعديد من المدنيين لكن إلى ممارستها العقاب الجماعى على شعب غزة والدمار الهائل للبنى التحتية خاصة فى مجال المواد الغذائية.. وأنهى المقابلة بقوله: «إن النقاش يجب أن يستمر لا أن تحاول (إسرائيل) إخراسه». هذا قليل من كثير فيما ورد بحديثه مع (هاآرتس) فى عدد 3 نوفمبر تشرين الثانى. *** فى هذا الموضوع المهم لم نجد أية إشارة إليه فى البيان الصادر عن اجتماع اللجنة الوزارية لمبادرة السلام العربية يوم 22 نوفمبر 2008، أعتقد أن هذا الموضوع هو مفصلى كونه يسلط الضوء على طبيعة الرد الانفعالى الذى أصاب المشروع الصهيونى فى صميم عقيدة العنصرية والاستعلائية التى تأبى اللجوء إلى التعنيد كى يمارس الإرهاب الفكرى والسياسى وبشكل عشوائى لاجئا إلى ما يفرزه الغرور الفاشى من أقوال «إن جيش الدفاع أشرف الجيوش» وأن «التقرير يستهدف حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها». هذا القليل من كثير عن التقرير كان يجب أن يكون تفعيله إعلاميا ودبلوماسيا واستنفار المفكرين الملتزمين والإعلاميين القادرين وناشطى حقوق الإنسان وقيامهم بحملات فى مختلف أرجاء العالم وأن تعمل هذه التعبئة على إعادة الاحتضان العالمى لأحقية الشعب الفلسطينى تقرير مصيره كإحدى الأولويات التى من شأنها فى حال ترجمتها سياسيا أن تصبح القوة الرادعة لمؤسسات الضغط الصهيونية الساعية لتعمية بصيرة الضمير العالمى عن الحقائق كما حصل عندما ضغط اللوبى الإسرائيلى «إيباك» على الكونجرس مما ساهم فى تهديد الولاياتالمتحدة، استعمال حق النقض فى مجلس الأمن، كما أن التقرير بقى دون القدرة على تفعيل بنوده، ويتحول بمرور الزمن هامشيا بدل من أن يكون حصارا أخلاقيا وبالتالى سياسيا على الاستكبار الإسرائيلى، وأن هذا التقرير وردود الفعل الإسرائيلية على محتوياته هو بمثابة إسقاط حق مساءلة إسرائيل عن جرائمها المثبتة ضد الإنسانية واستمرار جعلها قادرة على الإفلات من المعاقبة. أجل، هذا التقرير من شأنه أن يفتح أمام القضية الفلسطينية مجالات، يؤكد عروبتها ويعزز المسئولية القومية تجاهها كما يعزز التجاوب مع مستلزمات صيرورة طموحات شعبها فى قيام دولتها. *** كانت اللجنة الوزارية لمبادرة السلام العربية فى بيانها تؤكد بديهيات مكررة «إن السلام لن يتحقق مع إسرائيل إلا بالانسحاب الكامل من كل الأراضى الفلسطينية والعربية المحتلة» ومن ثم تسمية الأراضى المحتلة، ألم يعد هذا الكلام يتطلب ضبطا للمصطلح. وصحيح أن القرارات الدولية عرّفت هذه الأراضى بكونها محتلة، لكن لماذا لم يؤكد البيان أن هذه الأراضى المحتلة لا يعترف المحتل الإسرائيلى بكون هذه الأراضى الفلسطينية محتلة؟ لذا كيف تفكر لجنة المتابعة بالدعوة لانسحاب إسرائيل إذا لم يسبق لها وللدول العربية والمجتمع الدولى أن تنتزع من إسرائيل إقرارا بكونها محتلة، كون مجرد عمليات الاستيطان هى التعبير الواضح عن حقها فى التملك وكونها تدعى استعدادها القيام ببعض «التنازلات» دون أن يكون الرد العربى واضحا بأن التنازل يكون للمالك لا للمحتل، وفى حال عدم استقامة التوصيف القانونى الدقيق للوجود الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية فكيف ندعو «للوقف الكامل لسياسة الاستيطان الإسرائيلية.. إلخ». كما ورد فى البيان بدلا أن تكون المطالبة بتفكيك المستوطنات فى الأراضى المحتلة كى تخرج المباحثات العبثية منذ أوسلو إلى إمكانية استئناف المفاوضات. صحيح أن هذا يستوجب الإعراب عن أكثر من «قلق» من التراجع الأخير فى الموقف الأمريكى إلى التصميم على دفع الإدارة الأمريكية على مشاركة القناعة الدولية بأنه حان الوقت لإدارة أوباما ألا تبقى وحدها مستأثرة بحق الفيتو بكل ما يتعلق بإسرائيل وجعلها بمنأى عن الامتثال للشرعية الدولية، هذا الالتزام المسبق لحماية إسرائيل من الإدانة كما تهدد فى حال وصول تقرير جولدستون إلى مجلس الأمن والذى من شأنه تعطيل مسئولية مجلس الأمن فى هذا الشأن الخطير وهو يطمئن إسرائيل؛ أن تخرق كل القوانين الدولية واتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة، مدركة أن ارتكابها للمجازر التى تقوم بها سوف تبقى دون إدانة أو معاقبة.. فى هذا الشأن يتبين لنا أيضا أن تردد بعض الأقطار العربية غير مستعد لغاية الآن أن يجعل الخروقات المتواصلة للخندق الفلسطينى لن يكون مكلفا لها وأن باستطاعتها تخدير الرأى العام الدولى باللجوء كما تفعل دوما. إلى الابتزاز ووسم النقاد لها باللاسامية «أو بدعم الإرهاب» ومن ثم بالتحريض تارة على إيران أو على أى دولة تجرؤ على إدانتها. صحيح أيضا ما ورد فى بيان اللجنة الوزارية لمبادرة السلام العربية فى البند الثالث من بيانها «أن استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية يتطلب قيام إسرائيل بتنفيذ التزامها القانونى بالوقف الكامل للاستيطان، ورفض جميع الذرائع والتبريرات الإسرائيلية تحت أى مسمى للاستمرار فى نشاطها الاستيطانى غير المشروع» وهذا قول صحيح، كما أن هذا التوصيف دقيق وسليم لكن كما يبدو أنه حاصل فإسرائيل تريد استثناء القدس من حقها فى تهويدها وإعلانها عاصمة أزلية وأبدية لها ثم هل اللجنة الوزارية لمبادرة السلام العربية مستعدة أن تشير إلى استئناف المفاوضات بمعنى تحويل المباحثات إلى مفاوضات إذا أوقفت بشكل شامل عملية الاستيطان، كما كان فى البداية الرئيس أوباما ثم تلعثمت إدارته فى إخراج هذا الشرط، أم أن المبادرة العربية تتجاوز مصطلح «وقف» الاستيطان إلى تفكيك المستوطنات كما يجب ولنفترض أن إسرائيل رفضت «التدخل فى حقها الاستيطانى» كما أكدت، خاصة فى القدسالشرقية فماذا تقترح اللجنة الوزارية لمبادرة السلام العربية أن تقوم الدول العربية لجعل الرفض الإسرائيلى مكلفا. لم يكن فى البيان أية إشارة لخطوة مقترحة. الجدير بالذكر أن ملامح الإجابة قد تكون أوردتها اللجنة عند اللجوء إلى مجلس الأمن بأوضاعه الراهنة ثم بإعلان دولة فلسطين لتأمين الاعتراف الدولى بها. لكن لقد سبق للمجلس الوطنى الفلسطينى، فى 15 نوفمبر بأن أعلن قيام دولة فلسطين فى مؤتمره بالجزائر كما تم انتخاب رئيس لها لكن بعد اتفاقيات أوسلو تم إجهاض الدولة. يبدو أن السلطة الوطنية كانت البديل المؤقت كما يبدو على أثر عودة القيادة الفلسطينية إلى الأراضى المحتلة والتى تحولت نتيجة العودة إلى الأراضى التى تدعى إسرائيل ملكيتها إلى كونها سجينة. أدرك الرئيس أبومازن أخيرا أن السلطة تعيش فى سجن فى أرض مملوكة لا ولن يعترف الشعب الفلسطينى ولا العرب بهذا التزوير للجغرافيا والتاريخ، هذا ما يفسر مقولات نتنياهو للعودة إلى المفاوضات من دون شروط.. بمعنى العودة إلى «مفاوضات» بوقائع إسرائيلية جديدة على الأراضى الفلسطينية. أدرك محمود عباس هذا الواقع فأراد باستقالته من رئاسة السلطة الخروج إلى ما نأمل، إلى رحاب المقاومة الشعبية التى لن يوفرها إلا العودة إلى وحدة قيادة الشعب الفلسطينى ونقول «القيادة» لأن الشعب موحد وبالتالى يستحق مرجعية توجه صموده ونضاله سلميا إن أمكن وتفاوضيا إذا اقتضى الأمر، واللجوء المشروع إلى المقاومة فى هذه الحالة لا يجوز أخلاقيا ومصلحيا وواقعيا أن يترك الشعب الفلسطينى دون التزام الأمة التى ينتمى إليها وبدورها الأمة العربية تنتمى إليه. على اللجنة الموكول إليها أمر متابعة مبادرة السلام العربية سد الثغرات وتفعيل إرادة التحرير تعبيرا عن التزامها بالسلام العادل.