خيار إقامة علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» فى حال تم الانفصال وارد إلى حد كبير، جراء اختراقات «إسرائيلية» لبعض أنصار الانفصال الجنوبى. أين مجلس الأمن القومى العربى الذى باستطاعته أن يحدد للأمة ما هى الأخطار التى تدهمها؟ وأين الأخطار التى عليه أن يواجهها، كما فعل المجلس القومى التركى خلال الأسبوع الماضى؟ ألم تعد هناك قناعة راسخة بأن «إسرائيل»، الدولة النووية الوحيدة فى المنطقة، تهدد الأمن القومى العربى مما يستوجب استراتيجية مجابهة قادرة على ردع تماديها فى استباحة حقوق الشعب الفلسطينى كلها، كما ترسيخ احتلالها لهضبة الجولان السورية وتصعيد أهداف كيانها العنصرى، وما ينطوى عليه من مخاطر أقلها مأسسة التمييز ضد عرب فلسطين48، وإسقاط حق العودة بشكل قاطع وحاسم يبدأ بالتهميش كما هو حاصل، ثم ينتهى بالترحيل فور توافر الظروف. ثم ما إذا كانت فلسطين لاتزال نقطة ارتكاز للأمن القومى العربى، وهى حتما كذلك رغم تكاثر الدلائل والممارسات التى تشير إلى أن النظام العربى القائم وسياساته التطبيعية أسقط هذا الأمر. وهل أن ما قاله الرئيس محمود عباس بأن «أول الخيارات المقبولة بالنسبة للعملية السلمية هى أن تتوقف «إسرائيل» عن الاستيطان وتجميده من أجل استئناف المفاوضات»، كما ورد فى مؤتمر صحفى مشترك مع وزير خارجية مصر أحمد أبوالغيط فى الأسبوع الماضى؟ ألم يقتنع الرئيس عباس بعد أن المستوطنات هى الرد الواضح والصريح وغير القابل للبحث بأن «إسرائيل» لا تعتبر أنها فيما تبقى من أراضى السلطة الوطنية هى سلطة احتلال؟ لا أدرى لماذا هذا الاستمرار فى تجاهل هذا الواقع، كما لا نفهم مطلقا لماذا لا يطالب الرئيس عباس بتفكيك المستوطنات كشرط لاستئناف المفاوضات؟ عندئذ وعندئذ فقط تستقيم مفاوضات مغيبة منذ اتفاقيات أوسلو. لو كان للأمة مجلس أمن قومى لما كانت مصطلحات التعامل مع «إسرائيل» منفلتة بهذا الشكل المريع وبالتالى تفتقد للانضباط وقدرة توفير بوصلة تشكل مرجعية موثوقة لتوفير قيادة التحرير بموجب مقتضيات شروط ثقافة المقاومة. يفترض مجلس الأمن القومى للأمة العربية أن يحافظ على أولوية السعى لقطع العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» كإجراء عملى يسقط الطوق الخانق على استقامة خيارات ومتطلبات المقاومة بما فيها من مفاوضات، واللجوء إلى مجلس الأمن بعد قطع العلاقات المصرية الأردنية مع «إسرائيل»، عندها لن تبقى «إسرائيل» على شراستها وعدوانيتها المنفلتة من العقاب. كما أن هذا الإجراء يعيد مصر الدولة إلى أولوية دورها فى إعادة التواصل بين أرجاء الوطن العربى الكبير فيصبح التنسيق بين الدول العربية ملزما، وتكون مستلزمات الأمن القومى العربى مرشحة للإنجاز ما يقلص حالة التبعثر فى كثير من أقطار الأمة. إن وضوح ودقة ما ورد فى الوثيقة السياسية للأمن القومى التركى فى الأسبوع الماضى يشكل ما يقارب نموذجا يقتدى به. فالأمة العربية لاتزال مجموعة دول فى حين أن تركيا دولة واحدة. لكن لدينا الإطار الجامع للدول العربية المتمثل بجامعة الدول العربية وأمانتها العامة التى أعتبرها (الأمانة العامة) فريقا قوميا، والهيكل المتوافر فى المرحلة الراهنة كما فى المراحل السابقة تأكيد على عروبة الهوية والمصير لدول وأقطار الأمة العربية من زاوية المسئولية القومية للجامعة. أعتقد أن مجلسا للأمن القومى فى إطار الجامعة يكون خطوة أولى نحو جعل قراراتها قابلة للتنفيذ بدلا، كما فى كثير من المراحل، ظلت قراراتها التى وصفت ب«المصيرية» من دون تنفيذ، لأن معظم الدول العربية أهملت تنفيذها. لعل ما نشاهده، بل ما نختبره، من أزمات خطيرة يستوجب واقعية جديدة تتمثل فى خطوة أولى بقيام مجلس الأمن العربى القومى الذى عليه أن يعالج على سبيل المثال لا الحصر وبشكل فورى تبعات ما قد يؤدى إليه الاستفتاء فى السودان فى مطلع العام المقبل، خاصة فى ضوء ما صرح به النائب الأول لرئيس جمهورية السودان سلفاكير ميارديت فى شأن إقامة علاقات جيدة مع «إسرائيل» وفتح سفارة لها فى جوبا عاصمة دولة جنوب السودان الجديدة فى حال اختار الجنوبيون الانفصال. خيار الانفصال محتمل ومرجح وأرجو أن أكون مخطئا لأن الانفصال مسألة خطيرة رغم ما ورد على ألسنة كبار المسئولين فى الجامعة العربية وفى طليعتهم الأمين المساعد السفير محمد صبيح، إذ أكد أن جنوب السودان «وضع دول الجوار فى اعتباراته» برغم أن مسئولا آخر قال «إن التصريحات أمر سابق لأوانه حتى الآن». صحيح أن ما صدر عن المسئول الأخير كان منطقيا، ولكن كون نائب رئيس جمهورية السودان سلفاكير أعلن هذا الخيار فإن تصريح صبيح بأن «العلاقات العربية مع السودان بكل مكوناته ستبقى علاقات أخوة وتاريخ ومستقبل أيا كانت نتائج الاستفتاء، والإخلال بهذا المبدأ ليس فى مصلحة أى طرف» هذا إلى حد كبير يعبر عن تمنيات نشارك محمد صبيح فيها، لكن خيار إقامة علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» فى حال تم الانفصال وارد إلى حد كبير، من جراء اختراقات «إسرائيلية» لبعض أنصار الانفصال الجنوبى. ويبدو أن الخرق «الإسرائيلى» أقوى من كل الجهود السودانية والعربية التى بذلت، وأقوى من الاستثمارات العربية هناك، كون هذه الاستثمارات لم ترافقها استقامة صيغة المواطنة السودانية فى الجنوب من جهة وفقدان قدرة إقناع الحركة الداعمة للانفصال من قبل الدولة الأعرق فى علاقاتها مع السودان، أى مصر، كونها بدورها لها سفارة فى «إسرائيل»، و«إسرائيل» لها سفارة فى القاهرة، هذه البلبلة الحاصلة التى قد تحصل فى أوطان أخرى إذا استمر الانطباع بأنه ما دامت الدولة الرائدة فى الأمة تقيم علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» فلماذا التلعثم فى تعاطى الجامعة العربية مع جنوب السودان. هذا موضوع كان باستطاعة مجلس قومى عربى معالجته، أو بالأحرى تعزيز حوافز تأكيد وحدة السودان من خلال وحدة المواطنة والتساوى فى حقوق المواطنين شمالا وجنوبا. لكن هذا يتطلب موقفا منسجما على المستوى القومى بحيث تتمكن الأمانة العامة للجامعة العربية من خلال جهاز للأمن القومى، مباشرة التوجه إلى معالجة الكثير من التداعيات الخطيرة الحاصلة نتيجة ما يحصل فى العراق واليمن وإلى حد أكبر فى الصومال وحد أقل فى لبنان، وما هو حاصل من تمكين للتيارات العرقية والمذهبية والطائفية فى محاولة للإمعان فى تمزيق نسيج المجتمعات العربية. إن ضبط الفلتان الحاصل لا يكون إلا بالاقتداء بما أقدم عليه مجلس الأمن القومى التركى، آخذين فى الاعتبار الفوارق بين واقع تركيا ودورها الإقليمى المتجدد وبين حالة الأمة العربية المفتقدة للتنسيق الملزم بين أقطارها وبعض مساعى التهميش لدور جامعة الدول العربية وأمانتها العامة، بحيث حان الوقت لتمكينها سياسيا ومعنويا وماليا وتوسيع صلاحياتها من خلال قيام أجهزة الدبلوماسية الوقائية والإنذار المبكر، وأن توفر لأعضائها قراءة موحدة لضرورات وشروط التنمية المستدامة حتى لا تبقى أمة غنية بشعوب فقيرة، وحتى نوفر للأمة وإنسانها حقوقه الإنسانية وحاجاته البديهية. صحيح أن القضية الفلسطينية تبقى نقطة الارتكاز فى المواجهة مع المشروع الصهيونى، ولعل هذه الحقيقة أبرزتها تصريحات سلفاكير الاستفزازية التى قال فيها إن «إسرائيل» عدو للفلسطينيين فقط وليست عدوا للجنوب. فإذا كان قيام سفارة «إسرائيلية» فى جوبا كون «إسرائيل» عدوا للفلسطينيين فقط.. إذن ما هو الاستنتاج يا عزيزى القارئ؟