لو تجاوب الرئيس أوباما مع المطالبة بالتجميد لمدة شهر نتساءل هل التجميد المؤقت ينطوى على احتمال اعتراف «إسرائيل» بأنها دولة محتلة حتى تكون هناك مفاوضات. لا بدّ من التوجه إلى العديد من القضايا الشائكة والتى تزداد تعقيدا فى كثير من أوضاع أوطاننا العربية لأنه لا مفر من التركيز عليها ومحاولة استنباط الاقتراحات التى قد تؤول إلى معالجتها، ذلك أن تفاقم المشاكل المتكاثرة من شأنه تعطيل القدرة الذاتية للأوطان على تجاوزها، ناهيك عن حلها، فما نشاهده من تعثر فى العراق لقيام حكومة مركزية تعالج رواسب الغزو والاحتلال بشكل يضمن الوحدة الوطنية والبناء وتوظيف الثروة لعملية التغييرات الجذرية المطلوبة، وما نشاهد فى السودان من احتمالات الانقسام فى جنوبه إذا لم تستقم المعادلة السلمية بين شماله وجنوبه، كما هو حاصل من إدمان على التفكيك والتقاتل فى الصومال ناهيك عما حدث فى الفترة الأخيرة من حركات انفصالية نامية فى جنوب اليمن وفقدان السلم الأهلى فى اليمن ككل، كل هذه القضايا تلح على أى ملتزم عربى أن يسارع فى معالجتها ودراسة أسبابها والوسائل الكفيلة لحلها. وكلما توجهنا إلى إحدى هذه القضايا بالتركيز المطلوب نجد أنفسنا باستمرار نصطدم بتحد من «إسرائيل» يحرف الاهتمام القومى عن شمولية المعالجة المطلوبة لهذه القضايا. هذا لا يعنى مطلقا أن المشاكل العالقة التى إذا تفاقمت نتيجة فقدان التنسيق الملزم بين الأقطار والأوطان العربية ورواسب التناقضات القائمة بعضها مع بعض هو ما يتيح ل«إسرائيل» الاستمرار فى إجهاض كل محاولة لإعطاء الشعب الفلسطينى الحد الأدنى من حقوقه فى أرضه ووطنه. لذلك فأمتنا العربية تدرك مركزية القضية الفلسطينية، حيث إن هناك ما يقارب الإجماع على أولويتها، تعى جماهير الأمة أن التحدى الصهيونى يستهدف توظيف التفكيك داخل الأمة العربية لتعميق التفتيت داخل كل منها. من هنا وأمام فقدان المرجعية الموثوقة لنضال الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره، وحيث إن بقاء القضية الفلسطينية بمركزيتها سياسيا وقوميا ووجدانيا تبقى فى مواجهة استشراس «إسرائيل» ومحاولتها عزل الطاقة العربية الشاملة من إدارة صراع شعب فلسطين وانسياب قناعة أن النظام العربى السائد غير مستعد لتحمل تبعات المسئولية القومية لردع تمادى «إسرائيل» فى الاستمرار باستباحة حقوق ودماء وكرامة الشعب الفلسطينى فى كل أقطاره، أدركت «إسرائيل» أنه إزاء هذه الأوضاع المتردية تستطيع استكمال المشروع الصهيونى كما تبين فى ممارسات الأسبوع الماضى وكان التعبير عنه بترخيص رئيس حكومة «إسرائيل» نتنياهو مائتين وخمسين وحدة سكنية فى القدسالشرقية، كون هناك تصميم على إلغاء خيار القدسالشرقية على الأقل مرشحة لأن تكون عاصمة لدولة فلسطين إذا قامت. هذا فقط فى الأيام الأخيرة، ناهيك عما سبق. كما نرى أيضا أن الرئيس محمود عباس عند استقباله رئيسة فنلندا أعرب عن «تفاؤله» بقدرة واشنطن على إقناع «إسرائيل» بتجميد الاستيطان بغية استئناف «المفاوضات» فجاء الترخيص يوم الجمعة 15 أكتوبر الحالى بإنشاء الوحدات السكنية جوابا على «تفاؤله». إلا أنه حتى لو تجاوب الرئيس أوباما مع المطالبة بالتجميد لمدة شهر، نتساءل هل التجميد المؤقت ينطوى على احتمال اعتراف «إسرائيل» بأنها دولة محتلة، حتى تكون هناك مفاوضات؟ يؤلمنى أن استمر باجترار هذا السند القانونى كل مرة، فالاستيطان لا يجمد، إما أن يفكك أو يتنامى، وقد دلت «مسيرة السلام» منذ اتفاقية أوسلو وحتى فى المرحلة الأخيرة فى عهد الرئيس أوباما على أن «التجميد» سمح ل«إسرائيل» بالابتزاز وشراء الوقت والطعن بصدقية رغبة السلطة الوطنية بالسلام، بمعنى آخر إن السلطة «تهدد» السلام الذى تدعيه «إسرائيل»، وإذا كان ذلك يشكل افتراء فى مثل هذه العجالة فلا مفر من الاستشهاد بمقال لسفير «إسرائيل» فى واشنطن فى «النيويورك تايمز» (14 أكتوبر) الذى يشير فيه إلى أن صلب النزاع الفلسطينى «الإسرائيلى» يكمن فى رفض الاعتراف باليهود كشعب متجذر فى المنطقة، وأنه قد «حان للفلسطينيين أن يعترفوا بأن اليهود جيران دائمون وشرعيون، بحيث إن الاعتراف بهذه الهوية هو طريق التعايش»، ثم يتابع مايكل أورن السفير «الإسرائيلى» أنه «منذ ثلاثة وستين عاما اعترفت الأممالمتحدة بحق الشعب اليهودى فى الاستقلال بوطنه، وبعد تكوين الدولة استمر الفلسطينيون فى إنكار طبيعتها اليهودية، هذا الإنكار ل«إسرائيل» كدولة يهودية، أدى عام 1948 جراء معارضة شرعنة يهودية الدولة اشتعلت الحرب، واليوم كان عدم الاعتراف يهدد السلام». أضاف أن الاعتراف ب«إسرائيل» كدولة للشعب اليهودى يفتح آفاقا من الأمل والثقة لدى شرائح واسعة من «الإسرائيليين». ويتساءل السفير «الإسرائيلى» «لماذا الإصرار الآن على اعتراف الفلسطينيين وأى شعب آخر ب«إسرائيل» كدولة وأمة للشعب اليهودى بالرغم من ان «إسرائيل» لم تطلب أى إقرار بهذا أثناء معاهدات الصلح مع مصر والأردن؟ ويجيب فى مقاله إن تأكيد يهودية «إسرائيل» هو الأساس للسلام، هو الحمض النووى». هذا قليل مما ورد فى مقال السفير «الإسرائيلى»، خاصة أنه أشار إلى أن حق الشعب اليهودى فى الدولة من «صلب القانون الدولى» ويستند فى هذا بالتأكيد إلى إعلان بلفور عام 1917 منذ متى كان القانون الدولى يستند إلى وعود من دولة استعمارية ليصبح مكونا للقانون الدولى الحالى؟ ثم يتابع «فى عام 1947 خولت الأممالمتحدة إقامة دولة مستقلة للشعب اليهودى ثم استشهد بخطاب الرئيس أوباما الذى أعلن فيه أن «إسرائيل» هى الوطن التاريخى للشعب اليهودى». وأضاف «لماذا لا يستطيع الفلسطينيون أن يقروا بأن «إسرائيل» دولة يهودية؟» والإجابة عن ذلك إن من خول قرار التقسيم فى الجمعية العامة كان 52% وفى عام 1967 أصبح 78% والآن لا ندرى. عجيب أن تستعيد «إسرائيل» من خلال سفيرها فى واشنطن قرارات الجمعية العامة المتعلقة بالتقسيم وهى التى خرقته بما قامت به بين يوم التقسيم وإعلان الدولة من توسع قبل الادعاء بأنه كان حربا عليها عام 1948، وكانت مجزرة دير ياسين إحدى محطاتها الرئيسية. عجيب أيضا أن نتنياهو حريص على استئناف المفاوضات بشروطه، وفى غياب المفاوضات يسمح لحكومته الترخيص كما حصل بالأمس، هذا النمط فى التعامل «الإسرائيلى» حتى مع السلطة الوطنية يدل على أنه ليس هناك أى ضمان لأن تستعيد فلسطين الجزء المتبقى منها فى 22% التى أقرها القانون الدولى وتبنتها المبادرة العربية باعتبارها ركيزة الدولة الفلسطينية القادمة. أمام هذا الاستخفاف بعقول الناس وعنترية وزير خارجية «إسرائيل» عندما قال لوزيرى خارجية إسبانيا وفرنسا «حلوا مشاكل أوروبا قبل أن تأتوا إلينا» فى عشاء أقامه لهما، يأتى تطمين رئيس السلطة أبو مازن فى غير محله وفى غير وقته. صحيح أننا ننتقد أنفسنا بأننا لا نعالج بنفس الوقت سائر القضايا المصيرية فى الوطن العربى وهذا تقصير فادح نعترف به، ولكن الاستمرار فى تآكل الشعب الفلسطينى لردود الفعل العربى عليه ورد السلطة أيضا يعرقل استقامة ما هو واقع. عندما تبقى الأمة العربية بحالة التفكك تمهد كما نرى لحالة التفتيت داخل كل منها ولكن تجىء «إسرائيل» وتستمر فى توظيف القضايا المريرة المتفاقمة فى أوضاع الأمة كفرصة للمزيد من روتنة استباحتها لحقوق الشعب الفلسطينى مستندة إلى سياج التطبيع حول الشعب الفلسطينى الحائل دون قدرة الأمة العربية على ردع هذا التمادى وقدرة الأمة العربية على فرض وحدة المرجعية للشعب الفلسطينى ونضاله. إن العرب فى كل مواقعهم وأوطانهم يدركون أن «إسرائيل» تتعمد إقصاء فلسطين من الوعى العربى والوجدان العربى والعالمى حتى يتم لها التحريف والتزوير وافتعال إلهاءات بغية استكمال مشروعها العنصرى الذى يشمل خيار ترحيل العرب داخل الخط الأخضر وإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين وضم القدس كعاصمة لها ومن ثم تسريع قانون العودة، كون المشروع الصهيونى تجرأ أخيرا بألا يكتفى بالاعتراف ب«إسرائيل» كدولة فقط وإنما أيضا الاعتراف بها كدولة للشعب اليهودى.