الثلاثاء الماضى احتفل «الأهرام» بعيد ميلاد الأستاذ هيكل. احترت ماذا أكتب عنه ،فما أكثر ما كتب عنه. وما يمكن أن يقال عن تجربته التى لا نهاية لها. لكنى اهتديت إلى طريقة ربما كانت جديدة. أن أجمع ما كتبه فى كتبه، عن حكايته مع الأهرام. وكنت قد قرأت كل كتبه. عندما كنت أستعد لحوارى الطويل معه الذى أصدرته فى كتابى: محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة «2003». أعرف أن معظم ما كتبه عن نفسه كان فى كتابه الوثيقة: بين الصحافة والسياسة قصة ووثائق معركة غريبة فى الحرب الخفية. ليس هدفى تأليه إنسان ولا عبادة فرد. ولكنها محاولة لأن أقدم للأجيال الطالعة من الصحفيين الذين نبتوا من وراء ظهورنا وامتهنوا المهنة فى ظروف صعبة وقاسية. أن أُقدِّم لهم ما يمكن أن يعتبر مثالاً. ربما يصل لحدود القدوة. فى زمن التهمنا فيه كبارنا. ودمرنا شيوخنا. مع أن والدى كان يقول لى عندما كنت فى قريتنا: من ليس له كبير عليه أن يشترى له كبيراً. فعلاً.. ما أصعب الحياة على من ليس له كبير؟
والآن إلى ما كتبه هيكل بقلمه عن حكايته مع الأهرام. لم يكن يقصد الكتابة عن نفسه. لكنها كتابة جاءت فى سياقات تناوله لقضايا حياته الصحفية. وهذه الكتابة لا تغنى عن مذكراته الشخصية التى أتصور أنه كتبها وأودعها فى مكان ما من هذا العالم. كتب هيكل: - فى ربيع سنة 1957 كانت هناك قصص وحكايات فى دار أخبار اليوم لا أرى الوقت مناسباً أن أخوض فى تفاصيلها. ولم تكن هذه القصص والحكايات شيئاً طرأ فجأة، فقد كانت أعراضه ظاهرة وإن راحت تزيد مع السنين. وكنت فيما سبق قد أثرت أمرها وأوضحت بما لا يقبل مجالاً للشك أن اختلاط الخاص والعام فى أى عمل من شأنه أن يؤثر على مساره. وراودتنى فى بعض المرات أحاسيس ندم على فرصة تخليت عنها تحت مؤثرات عاطفية ونفسية، لكنى كنت أدفع هذه الأحاسيس بعيداً عنى وأطردها إلى عوالم النسيان. وفى يوم 6 أبريل 1957 كنت على موعد لفنجان شاى فى نادى الجزيرة مع على الشمسى (باشا)، ورحنا نتمشى ساعة الغروب فى أرجاء النادى ومعنا صديق له – لم تكن معرفتى به وثيقة فى ذلك الوقت – وهو الدكتور على الجريتلى – أستاذ الاقتصاد الأشهر. وتشعب الحديث من السياسة إلى الصحافة وإذا نحن مرة أخرى نعود إلى قصة الأهرام، فقد راح على الشمسى (باشا) يروى لنا «كيف أنه ترك رئاسة مجلس إدارته للسيدة رينيه تقلا أرملة جبرائيلا تقلا (باشا)، وكيف أن أسرة تقلا تواجه فى شأن جريدتها مشاكل معقدة – خسائر زادت على مليون ونصف مليون جنيه فى السنوات العشر الأخيرة وتوزيع تدنى إلى حدود 60 ألف نسخة – ولقد ورثت الأسرة مجموعة مصالح فى لبنان بينها نصيب أغلبية فى بنك صباغ – أسرة السيدة رينيه تقلا – ثم كيف أن الأسرة الآن تفكر جدياً فى بيع الأهرام». وقال الدكتور الجريتلى إنه ليس من حق أحد أن يتصرف فى الأهرام كملكية خاصة لأن الأهرام مؤسسة عريقة فى تاريخ مصر السياسى والصحفى ثم أضاف: «أنه لا بد للشمسى (باشا) أن يمارس كل نفوذه لكى يحول دون انتقال ملكية الأهرام إلى مالك جديد لا يعرف كيف يحافظ عليه». وقال الشمسى (باشا) إنه جرب إقناع أسرة تقلا بأن الأمر يحتاج إلى تجربة أخيرة قبل أى قرار نهائى، وفى رأيه – كما قال لهم – أن الأهرام يحتاج إلى صحفى شاب يستطيع تجديد حيويته مع الحفاظ على تقاليده. ورد الدكتور الجريتلى بأن تلك فكرة صائبة. وإذا الشمسى (باشا) يقاطعه قائلاً: «إنه عرض رئاسة تحرير الأهرام فعلاً على صحفى شاب ولكن هذا الشاب تردد فى اللحظة الأخيرة وأوقعه فى حرج كبير». ودون أية حسابات، ولعله كان العقل الباطن يدفع الكامن فيه على السطح، وجدتنى أقول للشمسى (باشا): «أننى سوف أريحه إلى أبعد حد. فى العام الماضى عرضوا علىَّ الأهرام واعتذرت، وفى هذا العام أنا الذى أعرض نفسى على الأهرام». وتوقف الشمسى (باشا) عن المشى ودقق النظر عبر ظلال الغروب النازلة على الأرض الخضراء والأشجار الباسقة المستعدة لاستقبال الليل فى نادى الجزيرة – ثم قال لى: «وهل ترانى أصدقك بعد ما حدث فى العام الماضى؟». وراح يروى ما جرى للدكتور الجريتلى الذى عبّر عن رأيه بوقار وتحفظ – قائلاً: «إن رئاسة تحرير الأهرام مطمح أى صحفى فى مصر، ومع أن الأهرام الآن فى أوضاع صعبة إلا أن ذلك يجب أن يكون حافزاً مضافاً ليس عقبة مانعة». وقلت للشمسى (باشا): «إننى لا أفهم جدوى لهذا «التأنيب» – إذا كنت أنا الذى أعرض نفسى الآن». وقال الشمسى (باشا): «إن الماء يكذب الغطاس، وها هو بيت الأستاذ ريمون شميل على طرف نادى الجزيرة البحرى فلنذهب إليه الآن ونتكلم». وذهبنا – هو وأنا – إلى بيت ريمون شميل على غير موعد، وكان الرجل جالساً فى صالون بيته إلى البيانو وأصابعه تجرى على المفاتيح بلحن كنسى لباخ. وتظل محفورة فى ذاكرتى – ومسجلة فى أوراقى – دهشته لرؤيتنا. ولما جئنا نقول له. وقلت له: «إننى لا أريد مناقشات جديدة. تكفينى صورة من العقد القديم أوقعها باسمى كاملاً ونحدد موعد البدء، وتجئ أية تفاصيل أخرى فيما بعد». وجرت اتصالات وحضر آخرون وانتهى المساء بتوقيع العقد ملزماً للطرفين، وأخذت نسختى منه وذهبت إلى بيت الأستاذ مصطفى مرعى أسأله رأيه وكان تعليقه أنه «خيرا ما فعلت». وكانت ليلة بيضاء ناصعة البياض كثلوج الجبال، ليلة بلا نوم. فقد اتخذت قراراً مصيرياً فى حياتى. ووجدت أن أمامى مهمتين تسبقان غيرهما من المهام: الأولى: أن أقول لجمال عبد الناصر ما فعلت. والثانية: أن أقول الشئ نفسه لأصحاب أخبار اليوم. وفى الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالى كنت أمام جمال عبد الناصر فى غرفة مكتبه فى بيته بمنشية البكرى. ولم أدخل فى مقدمات وأنما قلت على الفور: «إننى وقعت عقداً مع الأهرام». وكان الأمر مفاجئاً له، وكان تعليقه الأول: - «أليس غريباً أن تقبل العمل فى الأهرام وأصحابه أسرة تقلا بينما اعتذرت عن العمل فى الجمهورية وأنا صاحبها؟» كان امتياز جريدة الجمهورية حين صدورها باسم الرئيس جمال عبد الناصر. وانتقل إلى نقطة أخرى، قال: «سوف تتعب مع هؤلاء الناس، ما أسمعه عنهم غير مشجع، ولا أظنهم يتركون لك الفرصة لتفعل ما تريد». قلت: «الحكم بينى وبينهم هو العمل نفسه... هم يريدون نجاحاً لجريدتهم وهو ما أريده أيضاً، الموقف كله يختلف إذا لاحت علامات نجاح». وراح يفكر قليلاً ثم سألنى: - هل هناك مشاكل فى أخبار اليوم؟. وقلت على الفور: - مطلقاً، كل شئ هناك فى مجراه العادى، لكنى أشعر أننى وصلت – مهنياً – إلى آخر السلم فيما يمكن تحقيقه فى أخبار اليوم. فى الأهرام شئ مختلف، سلم جديد من بدايته والطريق طويل، وهو فى كل الأحوال امتحان أشعر أننى متحمس لدخوله... وكان كريماً ومشجعاً وقال: «الأمر لك كما تراه، فهو عملك ومستقبلك. وإن كنت لا أخفى أننى مشفق عليك من عناء تجربة جديدة مع اعتقادى أنك قادر على النجاح». وانتقلنا إلى موضوع آخر. وهكذا انتهت المهمة الأولى وبقيت الثانية. واستقر رأيى على تأديتها كتابة وعن طريق خطاب أشرح فيه المسألة للأستاذين مصطفى وعلى أمين. فلم أكن أريد لهما ولا لنفسى تكرار ذلك المشهد المشحون فى مكتب على أمين قبل عام واحد. وهكذا تركت لهما خطاباً وسافرت إلى الإسكندرية دون أن أترك عنوانى لأحد. وحينما عدت إلى القاهرة بعد عشرة أيام كان النبأ قد تسرب وأصبح حديث المحافل الصحفية. وأصبحنا جميعاً أمام أمر واقع يفرض نفسه على الكل. والتقينا نحن الثلاثة فى مكتب الأستاذ على أمين لكن المناخ كان مختلفاً، فقد كنا ندرك أن ما حدث يصعب الرجوع عنه بصرف النظر عن مشاعرنا وروابط السنين بيننا. وفى البداية كان علينا أن نتأكد أمام أنفسنا قبل أى طرف آخر أنه لم تكن هناك مشاكل بيننا تؤدى إلى الخروج، وكان هذا صحيحاً. ثم كان علينا أن نبحث بعد ذلك فى كيفية إرساء تقليد جديد فى الصحافة المصرية، وهو أن نحتفظ بعلاقات الصداقة الوثيقة رغم اختلاف مواقع العمل. واتفقنا على شيئين: أولهما: أنه تحت أى ظرف لا ينبغى أن يبدو انتقالى إلى الأهرام انفصالاً فى نفس الوقت عن أخبار اليوم، وهكذا فإنى سأحتفظ برئاسة تحرير آخر ساعة – إلى جانب الأهرام – لمدة سنة، والله يعلم كم سبب لى هذا الأمر من مشاكل مع أصحاب الأهرام، وكان لهم الحق. والثانى: أن يكون هناك لقاء منظم بيننا كل أسبوع، لا يحتاج إلى دعوة أو تأكيد، وهذا أصبح موعدنا الغداء يوم الثلاثاء من كل أسبوع فى بيت الأستاذ مصطفى أمين، نلتقى ونتحدث ونتبادل الرأى فيما يعن لنا من أمور، واستمر غداء الثلاثاء بغير انقطاع ثمانى سنوات لم نخلف موعداً إلا لسفر أحدنا أو لعذر قاهر وقع على غير انتظار. ورغم أن هناك من حاولوا انتهاز الفرصة، خصوصاً مع بدء المنافسة بين الأهرام والأخبار ،فإن الأسابيع والشهور والأعوام مضت وكل شئ كما ينبغى أن يكون، والحق أن غداء الثلاثاء أثبت فاعليته فقد كان دوماً فرصة منظمة تزيل أية عوائق وتحول دون أى تراكمات.