فى وقت يسعى فيه الإعلام الأمريكى والغربى إلى تصدير صورة استباقية سوداوية عما يجرى فى إيران ، نشر تقرير لصحيفة "هيرالد تريبيون" الأمريكية أن الإيرانيين تخلوا عن شراء الآيس كريم على خلفية تراجع المستوى الاقتصادى على مستوى الدولة والأفراد. فعلى سبيل المثال وفى الأول من اكتوبر من 2012 ، شهدت قيمة العملة الإيرانية – الريال – انخفاضا بلغ 17% ، اذ فوجئ الإيرانيون بهذا الانهيار فى يوم واحد فقط ، فيما وصل الانحدار فى قيمة الريال على مدى العام إلى 75% ليرتفع التضخم كنتيجة طبيعية لتدنى قيمة العملة، وفى دولة مثل إيران، يستدعى مثل هذا الانخفاض الحاد فى الريال ان يتدافع المسئولون على المستويين السياسى والاقتصادى لتعليق شماعة ما جرى ببلادهم على عاتق العقوبات الأمريكية والدولية ، وليس لدى الإيرانيين الرسميين سوى شماعة واحدة فقط تسمى “ الحظر” تحمل الأخطاء السياسية كافة ، وبالمناسبة وإذا كنا نتحدث عن إيران من الداخل فلا أخطاء فنحن فى دولة ربانية تعيش بلا خطيئة . إيران تعيش حالة حرب دائمة، وإذا لم تكن سياسية أوعسكرية، فهى اقتصادية ، فكلمة “ حرب” مألوفة فى بلد يعيش حالة حصار منذ ما يقرب من 30 عاما بسبب سياساته التى يراها الغرب وأمريكا والجيران العرب متشددة ، فى حين يعتبر قادة إيران ان تلك السياسات نابعة من مسئولية دينية وضعها مجتمع الملالى وآيات الله فى رقابهم ليعدلوا بها الكون ! فالاقتصاد إذن من الناحية الرسمية يعانى تضخما وانكماشا وتقلصا وانحدارا، ولنقل كل المرادفات الاقتصادية الدالة على الخسائر ، ومن بينها بالضرورة تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية و أزمة صادرات البترول فى بلد يعد الذهب الأسود أهم موارده، ويشكل النسبة الأعلى فى مدخلات الموازنة العامة للبلاد ، وهنا استحدث الإيرانيون وتحديدا رئيس مجلس الشورى على لاريجانى تعبير “ الاقتصاد المقاوم” ويهدف الى تنظيم الوضع الاقتصادى لإيران للرد على العقوبات والحظر الدوليين. ويكفى الإشارة الى ان العقوبات على إيران قد أثرت مثلا على تراجع صادراته البترولية الى مليون ونصف المليون برميل يوميا فى النصف الثانى من العام 2012 مقابل مليونين ونصف المليون برميل فى العام الذى سبقه ، أى انخفاض نسبته 40%. وطبيعى ان يؤدى انخفاض قيمة الريال وشح الصادرات البترولية الى ارتفاع اسعار السلع الأساسية وغيرها، بيد ان الحكومة تسعى بقدر المستطاع لتخفيف أعباء رفع الأسعار بزيادة الدعم للأسر الفقيرة وغيرها خاصة ما يتعلق بالمواد الغذائية الأساسية. حرية إبداء الرأى وانتقاد الحكومة ليست محظورة فى إيران، فالصحف والكتاب يوجهون سهام غضبهم تجاه رئيس الدولة حسن روحانى الذى يشغل فى نفس الوقت رئاسة الحكومة وفقا للدستور الإيرانى ، فى حين يتولى مرشد الثورة أو القائد الأعلى مسئولية ادارة البلاد تطبيقا لمبدأ ولاية الفقيه والدولة الدينية. وفى اطار الحملة الداخلية ، لا تكترث الحكومة أحيانا بما يكتب فى الإعلام ولا تأخذه على محمل الجد، ولكنها أحيانا عندما يشتد غضبها من النقد المحلى لسياساتها، لا تجد أمامها سوى توجيه اتهامات جزافية لمنتقديها ولجهات إعلامية غير محددة ، على اعتبار ان هذه الجهات تستغل أدواتها للتأثير سلبا فى الرأى العام ولشن حرب نفسية ضد الحكومة، لتنضم بذلك الى حكام الدول الفاسدة الذين يديرون الحرب الكونية ضد إيران ، الدولة والاقتصاد والشعب والبرنامج النووى ومبدأ المقاومة، هذه المقاومة التى يحلو للمسئولين الإيرانيين التغنى بها فى معظم أحاديثهم، فالمقاومة لدى القيادات الإيرانية السياسية والدينية والثقافية نمط حياة لا يجب التخلى او الاستغناء عنه ، وهذا يبرر دعم إيران النظام السورى باعتباره حائط الصد الذى يقاوم قوى الشر والفتنة المدعومة دوليا وأمريكيا، وكذلك دعم طهران اللا محدود لحركة حماس فى كل حروبها مع اسرائيل بغض النظر عن المهزوم او المنتصر فى كل هذه الحروب المدمرة، ويخرج عن هذه الدائرة حزب الله الابن المدلل للقيادات الإيرانية، الذى وصفه المرشد الأعلى ذات مرة - ضمنا فى حديث له - بانه ذراع إيران فى محاربة اسرائيل. ومن خلال تقصى نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة ، يمكن رصد أن الرئيس حسن روحانى حسم فوزه بأكبر قليلا من 50 % بينما تجاوز سلفه أحمدى نجاد حاجز ال 63%، ويفضى هذا الى أن الشعب الإيرانى ينقسم الى فئتين شبه متقاربتين فى النسبة، سواء ممن يميلون الى التمسك بسلطة المرشد وليس يعنى هذا ميلا الى التدين ، أو المعارضين الذين يفضلون الدولة المدنية ويرفضون كل سياسات الدولة والحكومة وأسس الدولة الدينية التى يعتيرونها تدميرا لحياتهم ، ولكن معظم الشعب - إن لم يكن كله - يئن من مستوى التضخم المرتفع الذى يسبب له مشكلة نفسية، خاصة أن الامل كان العيش فى “الدولة المثالية” ، وهو التعبير الذى قد لا تخلو منه ضمنا ألسنة القيادات فى الحديث مع اى وفد اجنبى . بيد أنه من الصعب على الزائر لمدة محدودة لإيران رصد أجواء الفقر فى هذا البلد المترامى الأطراف، خاصة ان برنامج الرحلة يكون محدد سلفا ومضغوطا ومبرمجا لأغراض ربما دعائية ، وهكذا كان حالنا نحن أعضاء الوفد الإعلامى الذى زار إيران اخيرا، فكانت اللقاءات السياسية والاقتصادية والدينية بحساب، وغلفت اللغة الدبلوماسية كلام المسئولين وكانت “الكلمات الناعمة” هى النغمة السائدة، تجنبا لتعكير الأجواء وتسممها، وإن كان الأمر لا يخلو من تعكير بسبب سوء الترجمة أحيانا وقصد فى أحيان اخري، خاصة عندما يتمادى بعض المقربين من النظام الإدعاء بان بلاده هى من انتصرت فى حرب غزة الأخيرة ليفتح المجال للهجوم على سياسة مصر وتصرفاتها حيال حركة حماس، غير أن مثل هذه الأمور لم تكن تمر مرور الكرام حيث سعى الوفد الإعلامى المصرى الى توضيح رؤية مصر حيال الأزمات الاقليمية والدولية . وخلال زيارة الوفود لإيران، يصعب على الزائر التعرف عن كثب الى طبيعة الحياة على الأرض وكيف يعيش الإيرانيون ويقضون حياتهم؟ خاصة من الناحية الاقتصادية، بيد ان البرنامج المكثف للجولات التى لا تنقطع ليلا ونهارا لا يمنع الزائر من ملاحظة انعدام مظاهر الفقر فى العاصمة طهران ومدينة آصفهان تحديدا ، فهما المدينتان المخصصتان للزيارة، والحياة تسير هناك كما لو كان السكان ينتمون للطبقات فوق المتوسطة، فى حين تتميز طبقة البرجوازية بأنها الأكبر بين السكان، فالحياة تمر وكأن هؤلاء يعيشون بلا منغصات اقتصادية او تدنٍ فى مستوى الدخل الشهرى نظرا لارتفاع الأسعار، والحركة التجارية لا تبدو متأثرة بالتضخم او الشكوى من تراجع مستويات المعيشة، وانتشار الماركات العالمية فى المحال كفيل لتصدير انطباع بان الإيرانيين غير مكترثين بما ينقله الإعلام الغربى عنهم وعن تراجع معيشتهم وزيادة مشكلاتهم الاقتصادية بصورة يتخيل معها الزائر انه سيجد الناس فى الشوارع ينتظرون فتات الأغنياء، فالشوارع والميادين تمتلأ عن بكرة أبيها بماركات التليفونات المحمولة العالمية والكورية، وتتمتع أجهزة “ الآى فون والآى باد” بميزة نوعية عن بقية الماركات وإن كانت أغلى نسبيا مقارنة بالدول الأخرى ، ويزداد الطلب على كل أجهزة التليفونات خاصة من فئة الشباب. وفى دولة مثل إيران، ربما يعتقد زائرها ان بناتها وسيداتها بعيدات عن الجمال وعالم الموضة والزينة بحكم التشدد الدينى الذى لا يمل الإعلام الغربى فى الحديث عنه لكى يصدر انطباعا زائفا بان هذه الدولة منغلقة وتكاد تتجاوز حياة القرون الوسطى ، ولكن يمكن للزائر بمجرد جولة محدودة فى الأسواق التعرف بسرعة الى أشهر الماركات العالمية من أدوات الزينة والماكياج . ويستمتع زوار برج ميلاد الذى أقيم تخليدا لذكرى مفجر الثورة الإسلامية الإمام الخمينى، بالحفلات المفتوحة حيث تقام فى أيام الجمعة المسابقات والأغانى، ويتمايل الشباب من الجنسين مرددين كلمات ما يصدح به المطربون، فالشباب الإيرانى لا يقل رفاهية عن البنات، ويقترب مظهرهم كثيرا من نظرائهم الاتراك، ولكن قليلا منهم يبدو منفلتا فى مظهره العام. والأهم من كل هذا أن الشعب الإيرانى الذى يعشق “ الآيس كريم” لم يتخل عن حبه للمثلجات بسبب التضخم وتراجع مستوى الدخل الذى يقف تقريبا عن حد 700 دولار كمتوسط دخل شهرى وفقا للأرقام الإيرانية والبنك الدولى، ويكفى هذا الراتب الى العيش حياة شبه كريمة رغم تراجع صادرات البترول الى ما يقرب من مليون 200 ألف برميل يوميا اعتبارا من يناير الماضى وفقا لاتفاق جنيف النووى الموقع بين إيران ومجموعة (5+1) ، وعندما سألت مرافقتنا السيدة إسراء عن مدى رفاهية العائلة الإيرانية المتوسطة ، باغتتنى بقولها :” إننا ما زلنا نشترى الآيس كريم رغم انخفاض قيمة الريال”، وكانت تعرف سلفا مغزى السؤال، علما بأن الآيس كريم يباع فى كل المحال تقريبا مثل الاسكندرية، وبه يقاوم الإيرانيون العقوبات الأمريكية.