بقدر الشبهات التى تحوم حول الحملة الأمريكية ضد تنظيم داعش، فإن عوامل متعددة وضاغطة تزيد الأمر تعقيداً، ولعل أكثر ما يهمّ مصر فى الموضوع هو الخطورة المؤكدة على أمنها الوطنى من تأسيس داعش ومن تركه حراً يرتع فى الإقليم خاصة بعد أن أكدت أجهزة الأمن المصرية ضلوعه فى عدد من العمليات الإرهابية على أرض البلاد، كما توافرت معلومات أخرى عن تخطيطه مزيدا من العمليات. وربما يكون هذا أهم ما يعُزّز منطق مشاركة مصر، من ناحية المبدأ، فى حملة للتصدى لداعش، وليس بالضرورة أن تكون المشاركة عسكرية. ولكن السؤال المهم هو: هل هذه الحملة التى بدأت بالفعل بزعامة أمريكا تحقق أهداف مصر، بالوسائل التى تقبلها مصر، فى إطار ما يلبى مستهدفات الأمن الوطنى المصرى وفق محددات الأمن القومى العربى الذى تلتزم به مصر إزاء الدول العربية؟ أولى الشبهات التى لا يمكن غضّ الطرف عنها هو ما تسرَّب عن دور أمريكا وإسرائيل وبعض حلفائهما فى تأسيس داعش، وهو ما لم تهتم أمريكا أو غيرها بنفيه! بل تركوا تطورات الأحداث تُرجِّح صحته، بالعتاد الأمريكى الرهيب الذى يرفعه إرهابيو داعش، وبالصمت طوال فترة المذابح المخيفة وجرائم التطهير العرقى، وبتصريحات من كبار المسئولين الإسرائيليين تؤكد اطمئنانهم إلى داعش وثقتهم بأنه لا يخطط للعدوان عليهم، وقد صدّقت على ذلك تصريحات خليفة داعش التى قال فيها إن الله لم يأمرهم بمحاربة إسرائيل!! ثم كان هذا الغموض الذى تتسم به خطة الحملة، وعلامات الاستفهام المُلِحَّة التى تفرض نفسها! هل هناك خطة دون تحديد هدف واضح ومجال محدد للمعركة؟ وكيف يمكن تقبل القول المعلن بأن الحملة سوف تستمر لسنوات دون أى تبرير لطول الزمن؟ (قال بذلك رئيس وزراء بريطانيا وعدد من القادة العسكريين الأمريكيين!) وكيف تكون الأولوية بضرب سوريا رغم أن الخطر الأكبر هناك فى العراق؟ (لاحِظ أن مجلس العموم البريطانى قرر أن تقتصر مشاركة بريطانيا على ضرب العراق فقط!) ولماذا تُقصَف مصافى البترول والمطارات بدلاً من ضرب معسكرات داعش التى من المؤكد أنها مرصودة بالأقمار الصناعية وبالجواسيس على الأرض؟ وأين هو تقسيم الأدوار الدقيق الذى تعتمد عليه أى خطة ناجحة؟ هل تكتفى الدول الغربية بالضربات الجوية وتدفع بالدول العربية للمواجهة على الأرض؟ واضح أن هناك تعارضاً شديداً فى المصالح والرؤى، فمن مصلحة مصر القضاء على داعش قضاء مبرماً بأسرع وسيلة وفى أقل وقت ودون أى خسائر تلحق بالمدنيين وبالمنشآت التى دفعت فيها الشعوب العربية من مالها العام ومن دماء أبنائها، بينما تعلن أمريكا أنها تعتمد خطة لن تحسم الأمر إلا بعد سنوات، كما أنها لا توضح كيفية حسم الأمر، كما أن القصف يُدمِّر مشروعات مدنية، كما أن الضحايا المدنيين بدأوا بالفعل فى السقوط! وهذا يعنى أن هناك أهدافاً أخرى للحملة لدى أمريكا وحلفائها غير ما ترصده مصر لنفسها وما تراه فى صالحها وصالح الدول العربية. لنتذكر أن أسباب أمريكا المعلنة فى العراق كانت، أولاً، القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ولما تبين الكذب وانعدام هذا السلاح، قيل إن الهدف هو إقامة الديمقراطية! ومع غرابة كل من الغرضين وخروجهما عن الشرعية الدولية، فقد استمرت أمريكا فيما تبين بعد ذلك أنه كان مهمة تدمير منظم للعراق، وكانت إسرائيل هى المستفيد الأول بعد أن تحقق لها تأمين جبهتها الشرقية من أى قوة حقيقية ربما لقرن من الزمان! وها هو ما يبدو أنه فصل آخر، بالسعى لتأمين جبهة إسرائيل الشمالية بتدمير سوريا، وهذه المرة لتزيد غنائم إسرائيل بالهيمنة على الجولان التى ما عاد أحد يتحدث عنها، بل لم يعد أحد يتصور كيفية أن تعود إلى سوريا بعد أن انقسم جيشُها وخاضت فلولُه حروباً طاحنة ضد بعضها البعض، ثم جاءت الحملة الأمريكية الأخيرة لتُجْهِز على ما تبقى. كل هذا يثبت ضعف النظام العربى وعجزه عن اتخاذ قرارات ومواقف فيما يخصّ أمنه الإقليمى وأمن دوله، إلا أن يكون فى إطار التبعية لأمريكا وتحت غطائها! وإلا لماذا لم تبادر الجامعة العربية بتشكيل هذه القوات التى تتشكل الآن برعاية أمريكية؟ بل إن الدول المضارة من داعش لم تلجأ إلى الجامعة، أو حتى إلى بعض الدول العربية المتنفذة، وإنما استجارت بالعالم الخارجى الذى هو فى مصطلحات السياسة الحالية صار مرادفاً لأمريكا! ولكن متى عملت أمريكا لصالح العرب؟ حتى أنها، وفى عزّ سعيها لاجتذاب أكبر عدد من الدول العربية للمشاركة فى هذه الحملة، استهانت بالعرب وبقضيتهم المركزية، واعتبرت مطالبة الرئيس الفسطينى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشاء دولة فلسطينية تصرفا ينطوى على استفزاز!! بهذه الاستجارة تعود أمريكا هذه المرة إلى المنطقة بناءً على طلب الجماهير بفضل داعش، ولسان حالها يقول: لو لم نجد «داعش» على الأرض لاخترعناه! وعلى كل دولة تفكر فى المشاركة فى هذه الحملة أن تراجع قرارها يحكمها تجليات المؤشرات والمآلات. ولا فكاك، قبل أن تأخذ أول خطوة، من أن يكون المَخرَج بذات الوضوح الذى يبدو عليه باب الدخول. ولقد أثبتت مصر، على لسان الرئيس السيسى وفى تصريحات وزير الخارجية سامح شكرى، أن هناك إدراكاً لهذه التعقيدات بمخاطرها، لأن قصر الحملة على داعش يتغافل عن التداخل الفكرى والعضوى والتمويلى فى ظاهرة الإرهاب، التى تعانى مصر من أخطر أضلاعها، كما أن مواجهة هذه الظاهرة تبدأ بتجفيف منابعها، خاصة وأن مصادر التمويل والتسليح والحماية معروفة، ولا يمكن أن تنجح حملة تعلن استهدافها خطراً بهذا الحجم بالمنهج المطروح. لمزيد من مقالات احمد عبدالتواب