في دراسة للأستاذ الدكتور مصطفي رجب بجامعة سوهاج يوضح أن الصعيد في الماضي البعيد كان هو مصر الحقيقية . فقد كان عظماء حكام مصر من أهل النوبة في العصر الفرعوني وما تزال المعابد في أسوان وأبي سمبل والأقصر وسوهاج أدلة شامخة تتحدي الزمن لتثبت أن فجر الحضارة المصرية بزغ من الجنوب . ولما تولي مينا – ابن سوهاج – حكم مصر نقل عاصمة ملكه من طيبة إلي منف ولقب بموحد القطرين . وعاشت مصر كلها في عهود الرومان والفرس والمسلمين دولة واحدة فلما جاء عصر محمد علي أولي محمد علي اهتماماً واحدا لكل مصر فقد كان حاكماً عبقرياً سابقاً لعصره . ولكن أحفاده فسدوا بعده فساداً كبيراً ، وبدأ اهتمامهم ينصب علي الشمال – حيث أملاكهم – دون الجنوب فبدأ الصعيد يتدهور شيئاً فشيئاً وحتي بعد قيام ثورة يوليو تم انشاء مئات المصانع في القاهرة والإسكندرية ومحافظات الدلتا . وأنشئت في الصعيد بضعة مصانع للسكر ازدادت معها المساحات المنزرعة قصباً لتشغيل تلك المصانع ، والقصب يستمر علي الأرض سنة أو سنتين وربما أكثر مما أتاح الفرصة للإجرام وحوادث النهب والسلب والثأر وتجارة السلاح والمخدرات أن تزدهر وتنمو وتؤتي أكلها : دماراً وتخلفاً وجهلاً ومرضاً ، وفي عصر الرئيس السادات تم انشاء عشر جامعات في الدلتا مقابل نصف جامعة للصعيد كله ،وظل الجنوب يزداد فقراً ، والشمال يزداد غني، وفي أوائل التسعينيات بدأت السياسات التنموية تتجه جنوباً بتوجيه مباشر من الرئيس مبارك فتحسنت البنية الأساسية تحسناً ملحوظاً وإن كان ذلك لم يستطع تعويض مئات السنوات من القهر والإذلال والتجويع الذي مورس ضد الصعيد لعقود طويلة . وفي معظم الأحوال كان الفكر الإداري السائد ، ينظر إلي الصعيد علي أنه جزء دخيل علي الوطن وكان نقل الموظف المشاغب إلي الصعيد عقوبة قاسية لا يلقاها إلا ذو حظ كنود . وأول ما يطالعنا في هذا المضمار قصيدة اشتهرت لحفني ناصف قالها بمناسبة نقله إلي محافظة قنا وبعث بها إلي وزير الحقانية ( العدل ) الذي نقله إلي قنا استجابة لرغبة اللورد كرومر الذي استفزه تشجيع حفني ناصف لمشروع إنشاء الجامعة المصرية عام 1908م وما أبداه شاعرنا من حماس تمثل في تبرعه بالمال والتدريس في الجامعة الوليدة التي كانت أمل شعب مصر في إعداد جيل من قادة التحرير والتنوير . وفي مطلع هذه القصيدة يوجه الشاعر حفني ناصف ساخراً الشكر المزدوج للوزير علي هذا النقل الذي رآه ترقية له فيقول : فلفضلك الشكر المثنّي رقّيتني حسّاً ومعني ثم يوازن الشاعر بين الجنوب والشمال ، أو بين قناوالقاهرة إن شئت الدقة ، فيجعل كل عيوب قنا مزايا ومن ذلك تلك الأبيات الشهيرة التي يحفظها أهل قنا حتي الآن : قالوا شخصت إلي «قنا» يا مرحباً «بقنا» و»إسنا» قالوا سكنتَ السفح قلتُ وحبذا بالسفح سكني ثم يثني الشاعر خيراً علي الحرارة ويري فيها سر الحياة ، فبالحرارة المتولدة عن احتضان الدجاجة بيضها تتولد الحياة في البيض الدافئ ، والطيور التي يعضها ألم البرد فتكمن في أعشاشها ، تنطلق مغردة مرفرفة مع انتشار الدفء ، والأنهار تفيض صيفاً فتغذي النبات والإنسان : سر الحياة حرارة لولاه ما طير تغني والحي بدء حياته بعد التزام البيض حضنا ثم يصف ما في حياته الجديدة في « قنا « من حرية فهو يلقي الهواء دون خوف من برودة أو رطوبة ، ثم إن حياته الاقتصادية ازدهرت فتوافر ماله الذي كان ينفقه في الترف في الشمال : ألقي الهواء فلا أها ب لقاءه ظهراً وبطنا وأنام غير مدثر شيئاً إذا ما الليل جنا قد خفّت النفقات إذ لا أشتري صوفاً وقطنا وقد لقيت قصيدة حفني ناصف حظاً واسعاً من الشهرة فعارضها الكثيرون ، فعندما نقل الشاعر الفكه عبد المجيد طه إلي مدينة « طما « ثم إلي قرية « مشطا » بمحافظة سوهاج قال قصيدة يحتذي فيها قصيدة حفني ناصف وزناً ومعني إلا أنه غيّر القافية فقال : قالوا : نُقلتَ إلي «طما» يا مرحباً «بطما» و«مشطا» قالوا : أكلتَ المشّ قلتُ وحبذا بالمشّ لهطا وفي الخمسينيات من هذا القرن أسهمت تلك القصيدة في إحياء فن النقائض في شعرنا المعاصر فقد نشرت مجلة الثقافة في العدد 707 بتاريخ 14 يوليو 1952 م قصيدة للشاعر الباحث الدكتور / محمد رجب البيومي ، وكان آنذاك مدرساً بالإسكندرية فنقلوه إلي الصعيد ، فنظم قصيدة خاطب فيها صاحب قرار نقله إلي الصعيد شاكياً معاتباً متظلماً مما لحقه من غبن ، ثم يصف الصعيد بأنه سجن لا يمكنه من وصال أحبابه ، فيقول : آذيتني حسّاً ومعني وغبنتني في الناس غينا بلد إذا حلَّت به قدماك قلت : حللت سجنا وفي نهاية القصيدة يوجه كلامه إلي حفني ناصف فيقول له إنك بكلامك عن الصعيد غيرت الحق وأن شعرك هذا كان متجنٍيا بوصفه عيوب الصعيد وجعلها مزايا ، ويقول له أما أنا فقد صدقت في قولي ونقلت صورةً طبيعية عن حياة المعاناة في الصعيد : حِفني قلبت الحق مجترئاً فدعنا منك دعنا أما أنا فصدقت فيما قلت إحساساً ومبني قد ناح قلبك مُعْوِلاً لكن شعرك قد تجني ثم نشرت مجلة الثقافة في العدد 710 بتاريخ 4 أغسطس 1952م رداً علي هذه القصيدة قدمت له بقولها :» كتب الأستاذ الأديب محمد رجب البيومي في مجلة الثقافة بالعدد 707 قصيدة يناقض بها قصيدة المغفور له حفني بك ناصف ، فكتب الأستاذ الشاعر الأديب محمود محمد بكر هلال قصيدة أخري يناقض بها قصيدة الأستاذ البيومي ، قائلا فيها : حفني شدا بالحق معترفاً فدعنا منك دعنا قد هش لما عينوه قاضياً بقنا وإسنا
أما خيالك فاستطال وشعرك الباغي تجني لما ارتقيت مدرسا أعلي وصرت أجل شأنا وبانتقال مشهد النقل الي الصعيد الي الشاعر طاهر الجبلاوي فتجدر الإشارة الي انه قد كان بين العقاد والشاعر طاهر الجبلاوي ( 1898- 1979م ) صداقة حميمة ، وعلاقة أخوية وثيقة ، تجلت أصداؤها في دواوين العقاد ، وفي مذكرات طاهر الجبلاوي التي نشرها بعنوان ( ذكرياتي مع عباس العقاد ) . والتي ذيّلها بصور لمجموعة من الرسائل الشخصية التي كان العقاد أرسلها إليه في المحافظات المختلفة التي كان الجبلاوي يُنقل إليها من حين لآخر في عمله الحكومي وهي ( الفيوم ، وأسيوط ، وسوهاج ، وقنا ) . . ويبدو أنه كان مغضوباً عليه من رؤسائه إذ كان النقل إلي الصعيد في تلك السنين عقوبة من العقوبات التي ما كان أكثر ما توقع الموظفين بعامة والمدرسين بخاصة ، ويبدو أن طاهر الجبلاوي كان قد طلب إلي العقاد التوسط له لدي كبار موظفي الوزارة ليعيدوه إلي القاهرة فينعم بمحافلها الأدبية وندواتها الثقافية وأمسياتها الشعرية التي عرفته شاعراً فحلاً في أواسط هذا القرن . والذي يؤكد أنه طلب إلي العقاد التوسط تلك الأبيات التي أرسلها إليه وهو في أسيوط يقول فيها : هل أنصفوا الجبلاوي وهو بأسيوط ثاوي ؟ أعيش بين أناس هم آية في المساوي ُمصبَّحاً ومُمَسَّي منهم بذئب عاوي واللؤم والشر فيهم أضعاف ما قال راوي أنجد أخاك فإني علي شفير هاوي ويرد عليه العقاد قائلاً إنه كلم له قوماً في شأن نقله منهم الأستاذ محمود رشيد ويبدو أنه كان صاحب مركز في الوزارة . فلم يفعلوا شيئاً . فعليه أن يصبر إذاً علي ما هو فيه [ وإذاً هذه تساوي في لهجة القاهرة كلمة : بقي - بفتح القاف - التي استخدمها العقاد هكذا وهم ينطقونها بأه ] يقول العقاد : كلمت في النقل قوماً منهم رشيد وغاوي ومنهم مستقيم فيما يقول ولاوي فما أفادوا بشيء إلا عريض الدعاوي فاقعد بقا واصطليها في الحر والحر شاوي