عاش موظف بسيط بصعيد مصر حياة بسيطة ، داعيا الله كل يوم أن يعينه علي تربية ابنائه الستة، وأن يستطيع أن يوفر لهم قوت يومهم بالكاد، خصوصا أن زوجته ربة منزل ويعيشون جميعا علي راتب هذا الأب البسيط، ومرت الأيام والسنون، ورأي من ابنه المراهق ذي ال16 عاما ما خط في رأسه الشيب من سلوكه المشينة وسبب له الأرق والمتاعب اليومية. أصبح بين الأب وابنه حاجز وجفوة، قام الأب بطرد ابنه ونهره وضربه إلا أنه لم ير من ابنه إلا زيادة العناد وزيادة البعاد، وتغيرت الأحوال وساء الحال فكان الحل من المحال، بعد أن أسمعه الأب كلمات القسوة فلم ير يوما في وجه ابنه حمرة الخجل أو في عينيه نظرات الندم من أفعاله التي اعتاد عليها يوميا بسرقة كل ما تقع عيناه عليه. شعر الأب أنه أمام مصيبة كبيرة لم يقو علي التفكير في احتوائها، بعد أن اعتاد ابنه السرقة بشكل يومي ومرضي من أي محل يتوجه إليه، أو أي منزل تطؤه قدماه ، وعندما ينكشف أمره يتسبب في فضيحة يحاول الأب بأي شكل أن يداويها ويحتوي الأزمة قبل انتشارها وسط "الصعايدة"، بأن يسلم المسروقات التي سرقها ابنه لأصحابها مرة أخري، أو يعمل ليل نهار كي يقوي علي سداد ثمن المسروقات التي تصرف ابنه فيها. فكثيراً ما لا حظت الأم أن مبلغاً ما قد اختفي من المنزل، وحتي لا تظلم أحداً، بدأت تراقب الموقف، حتي رأت ابنها الأكبر ذا ال26 عاما وهو يدخل غرفة نومها علي أطراف أصابعه حتي لا يشعر به أحد، وفي هدوء يُحسد عليه، رأته يفتح الدولاب ويسطو علي جزء من مبلغ مالي، كانت تدخره لأي ظرف يطرأ عليهم، ومن هول المفاجأة وجدت الصمت يسيطر عليها ولم تستطع أن تهرول نحوه، أو تصفعه علي وجهه، خاصة أن والده يتعامل مع أبنائه بشدة وعنف، ولا تدري ماذا سيفعل بابنها في هذه الكارثة التي ألمت بهم؟! تحولت حياة تلك الأسرة البسيطة إلي جحيم بسبب الابن الأكبر العاطل السارق، بعد أن لوث سمعة ابيه البسيط، بسبب اعتياده السرقة، ولم تدر الأم البسيطة -المغلوبة علي أمرها- ماذا تفعل تجاه ابنها السارق؟ فلن يقوي قلب الأم علي أن تبلغ الشرطة عن ابنها، ولن يقوي قلبها علي طرد ابنها خارج المنزل خشية منها أن يتأثر باقي أبنائها الخمسة من أفعال شقيقهم السارق، فاكتفت بالبكاء وندب حظها أناء الليل وأطراف النهار، لكنها تترقب شيئا ما قد يخفيه القدر وتخشي حدوثه. قد يسرق الصغير بسبب الإحساس بالحرمان كأن يسرق الطعام لأنه يشتهي نوعا من الأكل لأنه جائع، وقد يسرق لعب غيره لأنه محروم منها أو قد يسرق النقود لشراء هذه الأشياء، أو قد يسرق الطفل بسبب وجود مرض نفسي أو عقلي أو بسبب كونه يعاني الضعف العقلي وانخفاض الذكاء مما يجعله سهل الوقوع تحت سيطرة من هم أكبر منه قد يوجهونه نحو السرقة، أما أن يكون شابا بالغا ولا يخشي السجن ولا يتأثر بالإهانات والتهديدات التي يتلقاها دائما من ابيه حتي يكف عن سرقته لكن دون مجيب فكان هذا الأمر ما أصاب الأبوين بالجنون وشل تفكيرهما تجاه ابنهما السارق. لم ينل هذان الأبوان حظا كافيا من التعليم أو الاطلاع اللذين قد يمكنهما من احتواء تلك الأزمة أو ربما الحد منها في بدايتها نتيجة اكتشافها مبكرا ومعرفة الإجراءات الناجعة للقضاء عليها، فلم يعلما أو يدرسا أن الشخص المصاب ب" هوس" السرقة يعاني الفشل في مقاومة الاندفاعات المتكررة للقيام بالسرقة لأشياء لا يحتاج الشخص إلي استخدامها، ويعاني مثل هؤلاء الأشخاص قلقا مستمرا من احتمال تعرضهم لتوبيخ آخرين مصحوبًا بأعراض اكتئاب، ويعاني معظم هؤلاء المصابين تفسخا بالعلاقات الاجتماعية مع الآخرين، واضطرابات أخري بالشخصية، ويصل عدد مرات القيام بالسرقة من مرة إلي 120 مرة بالشهر الواحد غالبها يكون من المحال التجارية والبعض من أفراد العائلة نفسها. ولم تمنح الحياة هذين الأبوين رفاهية الاطلاع علي الدراسات النفسية التحليلية التي توضح أن الشخص الذي يمارس هذا السلوك ناجم عن التدليل الزائد الذي وجده وهو طفل من والده، أثناء السنوات الأولي من عمره، فكان يلبي له كل طلب، ثم حرمانه فجاة مما كان يؤثره به، وفرض عليه أساليب من السلوك صعبت عليه، فأصبحت تصرفاته تنم عن ثقته في أنه يستحق تعويضا، فكأنه في ممارسة "السرقة" لابد أن يكسب مكاسب فقدها، ومن ثم فهو يتوقع أن يرد إليه ما كان يتمتع به أثناء طفولته فيجاب له كل مطلب وما عليه إلا أن يمارس السرقة حتي يشبع ما فقد من عطف أو حنان مفقود نتيجة ظروف الحياة الصعبة التي تعيشها تلك الأسرة، كي يدركا أن ابنهما مريض بداء السرقة ويحتاج إلي علاج نفسي. ولم يميز الأبوان بين سلوك السرقة المرضي وغير المرضي، فالمصاب بهوس السرقة هو الذي يكرر سرقة المحال أو الأماكن أو "البيوت" الكبيرة، ويسبق ذلك الفعل تخطيط دقيق مع دراية بما يفعل ولا يندم علي فعلته، أما إذا كانت السرقة بدافع الاستمتاع أو نتيجة ضعف الذاكرة أو لغرض دفع ثمن شئ ربما تأخذ طابع التدهور الفكري، وفي تلك المأساة اعتبر الأب أن ابنه السارق وصمة عار فوق جبين أسرته وباقي ابنائه وسوف تظل تلاحقهم دائما جراء سرقات ابنه المتعددة. والمعني الملائم لعدل الله قطع يد السارق، للسيطرة علي إرادته ومنعه من السرقة، وهنا ترك الله تعالي للبشر حرية إيجاد قانون العقوبة المناسب علي حسب حجم جريمة السرقة وحالة القائم بالسرقة إن كان محترفاً أم غير ذلك، فيكون الجزاء علي حسب العمل، وتكون العقوبة علي سبيل المثال الحبس أو النفي. لكن هذا الأب هنا اختار نهاية وضعها بنفسه عندما قرر إنهاء حياة ابنه، ظنا منه أنه سوف يتخلص من مشكلاته المتكررة جراء داء السرقة، دون افتضاح أمره بين جيرانه ولم يدرك أن أمره افتضح بالفعل عندما اصطحب ابنه أعلي سطح المنزل الذين يقطنون فيه وانهال علي رأس ابنه بالضرب حتي تركه جثة هامدة، ثم أراد التخلص من جثته فوضعها في جوال وألقي بها في منطقة مهجورة، إلا أن القدر لعب لعبته عندما شاهد أحد الجيران الجثة وتعرف عليها وقام بإبلاغ الشرطة. ومن خلال تحريات المباحث، أشارت أصابع الاتهام نحو الأب، الذي ألقي القبض عليه، فاعترف بارتكابه الجريمة، بهدف التخلص من العار الذي تسبب فيه ابنه السارق نهائيا من خلال قتله ، وروي الأب تفاصيل الواقعة أمام النيابة، التي أمرت بحبسه علي ذمة التحقيقات.