خلال مشاركته فى الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس هيئة الرقابة الإدارية فى 28/8/2014، أكد الرئيس السيسى بوضوح أن الدولة ستتصدى بقوة للفساد، وأن الكفاءة والنزاهة والتجرد هى معايير شغل المناصب القيادية فى الدولة. وإذا كان هذا القول يتضمن رسالة واضحة من قبل الرئيس، فإن تحقيقه يحتاج إلى استراتيجية متكاملة وجهود متواصلة تعالج مختلف الأسباب التى أدت إلى استشراء الفساد فى مصر على مدى العقود الماضية، بحيث تحول إلى مؤسسة ضخمة لها امتدادها فى مختلف القطاعات والأجهزة، والأخطر من ذلك أنه تحول إلى ثقافة عامة (ثقافة الفساد)، بمعنى وجود قيم وممارسات تبرر الفساد، وتجعل التعايش معه مسألة عادية، بل وجزء من الحياة اليومية للمواطنين. ومن هنا تتجه الدولة لوضع استراتيجية قومية لتحقيق هذا الهدف. وتأتى أهمية هذه الخطوة فى سياق ما تؤكده تجارب الأمم والشعوب باعتبار أنه لا يمكن إنجاز تنمية حقيقية أو تحول ديمقراطى جاد أو عدالة اجتماعية ناجزة فى ظل وجود معدلات عالية من الفساد. فقوى الفساد تلتهم عوائد أى جهود تنموية، وتخرب أية محاولات للتحول الديمقراطي، باعتبار أن مصالحها لا تتحقق إلا فى ظل غياب القانون والمساءلة والمحاسبة، ومن هنا فهى تقوم بتخريب أجهزة الدولة ومؤسساتها وإفسادها. ومن أخطر تداعيات الفساد أنه يهدم منظومة القيم الإيجابية فى المجتمع، فقيم التفوق والجدارة واتقان العمل والتميز تتهاوى أمام ممارسات الواسطة والمحسوبية والرشوة وشراء الزمم. جدير بالذكر أن المواجهة الحاسمة لأخطبوط الفساد فى مصر سوف تستغرق بعض الوقت، فمشكلة تراكمت على مدى عشرات السنين لا يمكن التخلص منها فى يوم وليلة. كما أن الحديث عن محاربة الفساد لا يعنى بحال من الأحوال القضاء عليه نهائياً، لأن هذا يفترض وجود مجتمع من الملائكة وليس من البشر، وبالتالى فالمهم هو تحجيم الفساد إلى أقصى درجة ممكنة، وتعزيز سبل وآليات الكشف عنه، ومساءلة مرتكبيه، وإشاعة قيم النزاهة والأمانة والحفاظ على المال العام. وثمة عدة عناصر يمكن أن تتضمنها الاستراتيجية الوطنية المنشودة لمكافحة الفساد، منها: تعزيز عملية التحول الديمقراطي، حيث إن ذلك يخلق إطاراً سياسياً ملائماً لمحاصرة الفساد ومكافحته. وهذا لا يعنى عدم وجود فساد فى النظم الديمقراطية، بل يعنى أن آليات الديمقراطية تسمح بسرعة الكشف عن الفساد وتقديم مرتكبيه للعدالة، وبالمقابل فإن التسلطية تخلق فى الغالب بيئات ملائمة لتمدد شبكات الفساد والتطرف والإرهاب. فالديمقراطية تتضمن إلى جانب عناصر أخرى وجود برلمان قوى قادر على مراقبة الحكومة ومساءلتها، ووجود مجتمع مدنى نشيط، وإعلام مهنى حر، وكلاهما له دوره فى مكافحة الفساد. كما تتضمن الالتزام بأسس ومبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة وسيادة القانون واللا مركزية، وكلها من ضروريات مكافحة الفساد. كما أن تنقية القوانين والتشريعات وتطبيقها بفاعلية وكفاءة يُعد من العناصر الرئيسية لمكافحة الفساد، حيث يوجد فى مصر غابة من القوانين والتشريعات التى تراكمت على مدى عقود، بعضها تعرض لتعديلات كثيرة فصار مهلهلاً، وبعضها يعانى ثغرات عديدة تشكل منافذ وأبواباً واسعة للفساد، بل إن مصر عرفت خلال العقود الثلاثة الماضية ظاهرة سماها البعض ب «الفساد بالقانون»، بمعنى أن القوانين تصدر من المنبع معيبة وموجهة لخدمة مصالح جماعات وفئات معينة. ومن هنا تأتى أهمية تنقية غابة القوانين والتشريعات ومعالجة ثغراتها، بحيث يتم سد أبواب التلاعب والتحايل. وتقتضى مكافحة الفساد تفعيل دور الأجهزة والمؤسسات الرقابية والتعامل بجدية مع تقاريرها، حيث أن من أبرز مهام هذه الأجهزة مثل الجهاز المركزى للمحاسبات وغيره هو إعداد تقارير موثقة بالأدلة والبراهين عن المخالفات والتجاوزات فى أجهزة الدولة ومؤسساتها. وقد جرى العمل منذ أيام الرئيس الأسبق حسنى مبارك على تجاهل مثل هذه التقارير أو التعامل معها بانتقائية، وبخاصة فى ظل وجود برلمان تابع للسلطة التنفيذية. وحدث نفس الشيء عقب ثورة 25 يناير، حيث أعد الجهاز المركزى للمحاسبات تقارير تتعلق بوقائع محددة لإهدار المال العام من قبل أجهزة عديدة فى الدولة. ونظراً لأن الروتين الحكومى القائم على تعقيد إجراءات تقديم الخدمات العامة للمواطنين يفتح أبواباً واسعة لممارسة الفساد، حيث يستطيع الموظف ببساطة واستناداً إلى قوانين وقرارات وتعليمات أن يؤجل أو يعطل تقديم الخدمة حتى يحصل على رشوة، فإنه من المهم وضع حد للروتين والبيروقراطية وتيسير تقديم الخدمات للمواطنين. وقد اتجه كثير من دول العالم إلى تقديم كثير من الخدمات على مستويين، الأول المستوى العادى الذى يستغرق وقتاً أطول نسبياً وبرسوم أقل، والثانى الخدمة السريعة أو الفورية التى تكون برسوم أعلى، وبذلك تنتفى الحاجة إلى واسطة للحصول على الخدمة فى زمن أقصر، ويتم توفير موارد مالية إضافية للدولة. كما أن المعالجة التدريجية والجادة للاختلالات فى هياكل الأجور والمرتبات تشكل مدخلاً مهماً لمكافحة الفساد، وبخاصة «الفساد الصغير» الذى يمارسه موظفون لا تكفيهم مرتباتهم لسد نفقات معيشتهم ومعيشة أسرهم. والمشكلة هنا أن الارتفاع المتواصل فى الأسعار يقلل من قيمة أى زيادات فى الأجور والمرتبات. وهنا يأتى دور الدولة فى وضع وتنفيذ سياسات وآليات من شأنها منع الاحتكار، ومواجهة جشع بعض التجار، الذى يشكل عاملاً رئيسياً فى الارتفاع غير المنطقى للأسعار. ونظراً لأن الفساد بات يعشعش فى مختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها وبخاصة فى المحليات، فإن هناك حاجة لإحداث هزة كبيرة فى هذه الأجهزة والمؤسسات من زاوية تحديث الهياكل التنظيمية، وتفعيل إجراءات الرقابة الداخلية، وإشاعة قيم وممارسات النزاهة والشفافية والحفاظ على المال العام. ومن المؤكد أن محاصرة الفساد الكبير الذى ينخرط فيه مسئولون كبار سوف تؤدى تلقائياً إلى محاصرة الفساد الصغير، فالمدير الفساد لن يستطيع محاسبة موظفيه إذا مارسوا الفساد. وخلاصة القول: إن مكافحة الفساد ليست مسئولية لجنة أو جهة حكومية بعينها بل هى مسئولية الدولة بمختلف أجهزتها ومؤسساتها، والمجتمع بمختلف فئاته ومنظماته وأفراده. كما أن العبرة فى نهاية المطاف ليس بإعداد استراتيجية قومية لمكافحة الفساد فحسب، بل تنفيذ هذه الاستراتيجية بفاعلية وكفاءة، بحيث لا يكون مصيرها مصير كثير من الخطط والاستراتيجيات الجيدة التى لم تجد طريقها للتنفيذ وطواها النسيان. لمزيد من مقالات د. حسنين توفيق إبراهيم