عندما توصد الأبواب فى وجه المرأة.. ويطفح الكيل بها ولا تجد أحدا يستمع لها.. وعندما تخلو حياتها من كل بهجة ولا تجد حلا لمشاكلها.. تفيق فجأة على سماع صوتها وهى تحادث نفسها وتشكو لروحها عن همومها وما يؤلمها وتعانيه، ولأنها تلوح بيديها أثناء هذا الحديث ليشير عليها المارة فى تهكم وسخرية تشعر بالحزن.. تتساءل ماذا حل بى؟!.. وإلى أين سأصل؟.. وهل بلغت معاناتى مداها فى صدرى حتى صرت أحادث نفسى على مرأى ومسمع من الناس؟ وهل بهذا الحديث إلى نفسى أكون قد اقتربت من الجنون؟.. أم أن هذا السلوك مجرد تنفيس لنفسى عن ضيقى لابتعاد من أحبهم عنى ؟ د. أحمد خيرى حافظ أستاذ الطب النفسى جامعة عين شمس يؤكد أن ظاهرة حديث الإنسان إلى نفسه على إنفراد فى البيت أو فى وسط الطريق بالدرجة التى تلفت أنظار الآخرين إليه هى: عملية تنفيس للضغوط الداخلية الهائلة التى يتعرض لها فى الحياة، والمرأة بشكل خاص عندما يضيق صدرها ولا تجد من يستمع لها ولا تجد من تكشف له عن مكنونات قلبها لا تجد سبيلا آخر أمامها سوى البوح والسرد والحكى إلى نفسها، وحتى لا تختنق فإن لسانها يفصح بكل معاناتها بحديث حر مستفيض ليس للغرباء ولا للأصدقاء إنما إلى نفسها وهى بمفردها، وحيدة بعيدة عن الأعين هائمة فى الطريق على وجهها غير مدركة أو مبالية بسخرية المارة الذين يضحكون أو "يمصمصون" شفاههم شفقة عليها ملوحة بيديها يمينا ويسارا فى إشارات غريبة وكأن هناك شخصا آخر يحادثها ويبادلها الكلام. «تمتمة» الشرفات وقد تحادث المرأة نفسها فى أثناء إطلالتها من الشرفة فى "تمتمة" خفيفة أو فى "برطمة" يسمعها الجيران فى أثناء طهوها الطعام فى المطبخ كأن هناك من يجالسها والحقيقة أنها تشكو حالها لروحها بعد أن انفض الحبايب الذين ينبغى أن يستمعوا إليها وانشغلوا بأمور يرونها أهم أوجاعها ، فقد أكدت الدراسات أن المرأة أكثر عرضة من الرجل للحديث إلى النفس وذلك نتيجة المسئوليات الملقاة على عاتقها وعدم وجود دعم أو سند يؤازرها فى تحمل تلك المسئوليات أو الصعوبات التى تقابلها فى الحياة والأصعب من ذلك أنها لاتجد من يستمع اليها أو تحكى له هذه المشكلات التى تصادفها والهموم التى تثير مخاوفها مما يزيد عليها صعوبة الحياة فتنفس عن ضيقها –وحتى لا تطق- بالحديث إلى نفسها، وهو ما تعبر الزوجة عنه دائما أن زوجها ينصرف عنها بمجرد البدء فى الشكوى له وكأن هم الأسرة هو همها وحدها والكلمة الأكثر شيوعا لدى الأزواج: "كفاية هم شغلى عليه.. أولادك هم مسئوليتك!" فعمل المرأة لدى الرجل المصرى لايزال أمرا غير أساسى يمكن الاستغناء عنه لو كان هناك تقصير منها نحو البيت والأولاد، والأم المصرية العاملة هى التى تتحمل بمفردها مسئوليات المنزل من رعاية الأولاد وتحمل مسئولية إطعامهم والمذاكرة لهم كما أنها المسئول الأول عن رعايتهم الصحية، ويزداد حديث المرأة إلى نفسها بازدياد المشكلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية لذلك فهى فى معركة حقيقية تخوضها المرأة بمفردها تبدأ من الداخل إلى الخارج -والعكس صحيح-، وإذا حاولنا تحليل ظاهرة حديث المرأة إلى نفسها فسوف نكتشف حقيقة هى: أنها انعكاس واضح لعدم التواصل وغياب التفاعل الحقيقى بينها وبين الأفراد القريبين منها والذين غالبا ما تسببوا فى معاناتها، فحين لا يستمع الزوج إلى زوجته فإنها تبحث عنه فى خيالها لتحادثه وتشكو إليه، وحين لا تجد الأم أولادها وقد انشغلوا عنها بالحياة وقد نسوا زيارتها بعد زواجهم فإنها تتصورهم أمامها وتعاتبهم فى حديث إلى نفسها، وحين تعانى الموظفة بالظلم من الإدارة فإنها تقوم بالتنفيس عن هذا الظلم الواقع عليها بالحديث مع النفس بعيدا عن أعين الزملاء وفى عرض الطريق خوفا من -زنب الزملاء- أو الفصل، كما أن صعوبة المواصلات -الأتوبيسات والسرفيس-وزيادة الإضرابات والمظاهرات والطرق المغلقة والزحام كانت أسبابا كافية جعلت المرأة تحادث نفسها، وتحادث المرأة نفسها عندما تزيد الضغوط المادية عليها ولا تستطيع ضبط ميزانية الأسرة من مصاريف مدارس الأولاد ودروس خصوصية والرغبة العارمة فى شراء الكماليات بعد ان أصبحت ضروريات بفضل الإعلانات والتى يقف دائما مرتب الآباء مكتوف الإيدى أمامها، أيضا لا نستطيع تجاهل غياب الهدف عند المرأة بعد الستين وجلوسها فى المنزل بلا عمل وفقدان الأمل وكثرة حديثها أوقاتا طويلة الذى كثيرا ما يتحول إلى مرض الحديث إلى النفس باستمرار، وفى الآونة الأخيرة كثر حديث المرأة لنفسها أكثر من أى وقت مضى نتيجة لزيادة الصراعات والخلافات السياسية داخل الأسر المصرية. حديث المرأة لنفسها محزن احيانا ويضيف د.أحمد خيرى حافظ أن حديث المرأة إلى نفسها أمر محزن ومؤلم إلا أنه بالرغم من هذا هو ظاهرة صحية لو كان لفترة قصيرة، وان كان هذا الحديث لا يؤثر على وظيفتها الاجتماعية فى الحياة كإنسان وإن لم يعق نجاحها فى العمل، كما أنه ليس بالأمر الخطير لو لم تلحظه هى –بنفسها- ولم يلحظه المقربون إليها، وهو سلوك مقبول لو كان يؤدى وظيفة مفيدة وهى التنفيس لما تعانيه، ولكنه قد يتحول إلى مرض فى حالة أن يكون هذا الحديث إلى النفس بصوت مرتفع أو مصحوبا بالتلويح أو "التشويح" باليدين بطريقة مخيفة أومصحوبا بصوت قوي كالمشاجرة، ويشتد خطورته عندما تزداد قوته يوما بعد يوم أو يستمر محتفظا بنبرة الصوت العالى لبضعة أيام أو أكثر، هنا تحتاج المريضة إلى علاج نفسى عميق وطويل. ورش عمل بالأحياء أما عن أفضل طريقة لعلاج المرأة فى كثرة حديثها إلى نفسها فيكون: فى بحث الأسباب الحقيقية للضغوط التى تعانيها لضمان عدم انغلاقها على نفسها، وبإقامة حوار مجتمعى معها يقوده متخصصون فى علم النفس والطب النفسى والاجتماع لإيجاد حلول لجميع مشكلاتها، وعلى مؤسسات المجتمع المدنى المتخصصة فى رعاية المرأة والأسرة المصرية دور فى القيام بدورها فى إقامة ورش عمل بداخل كل حى تجتمع فيه النساء بمختلف أعمارهن لمناقشة جميع أنواع المعاناة اللاتى تتعرض لها نساء المنطقة والتى تعيق ممارستهن الحياة بشكل سليم والعمل على إيجاد حلول جماعية فورية لها، مع ضرورة تشجيع النساء بالانخراط فى مختلف الأعمال حيث أنه الواقى والعلاج السحرى والمتنفس الحقيقى لكل متاعبهن النفسية ويقيهن من وقوعهن فى براثن الأمراض النفسية والتى تكون أولى علاماتها حديث المرأة إلى نفسها، فالعمل يشعر المرأة بأهميتها ويمنحها القوة التى يجب أن تستمدها من ذاتها والتى لا ينبغى أن تنتظرها أو تستمدها من أى شخص آخر. لاتنسى جارتك ولأننا فى مصر الجديدة .. فقد فتح رئيسنا المنتخب أبواب مصر على مصراعيها للمرأة المصرية وأعلن للعالم كله أنها فوق الرءوس.. ورفض بكل حسم أن تظلم أو تقهر أو تروع وبالتالى رفض أن تستضعف أو تروع أو تحادث نفسها ولتحقيق ذلك ينبغى كما يؤكد د. أحمد خيرى تحقيق مناخ صحى لتشجيعها للخروج إلى العمل وبذل كل طاقاتها فيه بتوفير المواصلات المريحة التى تضمن لها سرعة الحركة والتنقل، وتطبيق قانون التحرش وعدم إغفاله حتى لا يستهان به، وإعطاءها كافة حقوقها المادية لضمان حياة كريمة لها ولأولادها، ونوصى جميع الأبناء بأن يعرفوا قدر أمهاتهم وآبائهم على حد سواء وأن يستمعوا إلى شكواهن مهما كانت بسيطة من وجهة نظرهم، وأن يهتموا لأمرهن اهتماما حقيقيا بالتواصل المستمر وتبادل الحديث من القلب، وينبغى ألا نغفل السمات الجميلة التى كانت سائدة فى المجتمعات المصرية فى الستينات والسبعينات والتى كانت تشجع الدعم الحقيقى بين الأسر والجيران وترحب لوجود التواصل والتعاون والحب بين الناس، لذا نقول لكل امرأة عصرية: لا تنسى جارتك فإنها مرأة لها نفس معاناتك.. ولا تقطعى معها عادة جدتك فى احتساء فنجان الشاى كل صباح أو حتى فى العصارى، اختارى الحديث الحلو معها وشاركيها أفراحها.. تكن لك عونا وحضنا وملاذا بدلا من الحديث الى نفسك فى الطرقات ومابين الجدران "لا قدر الله"... كونى لها عونا فى الشدائد تكن لك بئرا عميقا للمتاعب ولأسرار أكثر من أقرب الأخوات "فرب أخ لم تلده أمى" كما تقول الأمثال، والشكوى للجارة –الحبيبة- أجدى ألف مرة.. من الشكوى لنفسك والحديث إلى روحك فى الطرقات أو مابين الجدران "لا قدر الله".