التقدُّم والنهوض بالأمم له أسس ومبادئ يقوم عليها إن توفرت تقدمت الأمم وإلا فلا، ومن هنا نجد كل دولة صارت في طريق نهضتها قد بدأت بتفعيل أدوات النهوض وأدوات بناء الإنسان الذي هو أساس النهضة وعمادها، فالعنصر البشري هو أهم عنصر لا بد من بنائه وتطوير وتنميته والعناية به. فالمعلم هو أساس تنشئة الأجيال وبناء الأمم، فلا بد من إعطائه مكانته، بداية من معلم الابتدائي الذي عليه العبءُ الأكبرُ في تنشئة العقول الصاعدة وتأسيسها تربويًّا وفكريًّا، ولقد دعانا القرآن الكريم إلى احترام قدر أهل العلم حيث قال ربنا سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزمر: 9]، وأثنى رسولنا الكريم على معلم الناس الخير فقال: "... فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" [رواه الترمذي وصححه الألباني]. ولكنا نجد مكانة المعلم عندنا بمصر قد انهارت وتراجعت؛ ومن ثم انهار مستوى التعليم، وللأسف نهضت بهذه المكانة الدول الأخرى المتقدمة، فما الفرق بيننا وبينها إذن؟ لو نظرنا إلى ألمانيا مثلاً لنعرف مدى اهتمامها بالمعلم ومكانته، نجد أن لكل نوع من أنواع المدارس في ألمانيا معلمين مؤهلين تأهيلاً خاصًّا ومختلفًا، ويشترطون على جميع المدرسين أن يكونوا من حملة الشهادات الجامعية، فمن يريد أن يصبح معلمًا في المدرسة الابتدائية يدرس في الجامعة سبعة فصول دراسية (ثلاث سنوات ونصف)، أما مدرسو المدارس المتوسطة، ومدارس الأغراض الخاصة، والمدارس الثانوية العامة، والمدارس المهنية، فيجب أن يدرسوا في الجامعة مدة أطول (ثمانية أو تسعة فصول دراسية)، ونلاحظ أن رواتب المعلمين في ألمانيا أعلى من رواتب القضاة والأطباء والمهندسين الألمان!! لماذا؟ لأن الرواتب العالية تجعل المهنة مرغوبة؛ فيتجه لها الطلاب المتفوقون والمتميزون؛ وبالتالي ينشأ جيل من المعلمين العباقرة والمبدعين والمتفوقين، وهذا بالتالي يؤدي إلى نقل تميزهم وتفوقهم إلى تلاميذهم فيتم بناء جيل متحمس للعلم والعمل معًا قادر على ابتعاث نهضة بلاده. وقد تظاهر القضاة في ألمانيا مطالبين بمساواة رواتبهم بمعلمي الابتدائي؛ فردت عليهم المستشارة الألمانية ميركيل قائلة: "تأدبوا، كيف تطالبونني أن أساويكم بمن علموكم؟!!"، هكذا يكون البناء ويكون التقدم بفهم مكانة المعلم صانع النهضة الأساسي ومرسِّخ القيم والمبادئ؛ ولذلك نجد أن الألمان عندما ينتهي أولادهم من الثانوية العامة ويحصلون على أعلى الدرجات يدخلونهم كليات التربية، ولا يتهافتون على ما يُسمى كليات القمة كالطب والهندسة والإعلام كما نفعل نحن بمصر!!. وإذا أردنا أن نعرِف سر تقدّم اليابانيين، فلنلقي نظرة على تعليمهم، ومدى احترامهم للمعلّم، فقد سُئل الإمبراطور الياباني، ذات مرة، حول هذه المسألة، فقال: "إن دولتنا تقدّمت، في هذا الوقت القصير؛ لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير"، حيث يحظى المعلّم في اليابان، بدعم مادي كبير، فإلى جانب راتبه الأساسي، الذي يتراوح بين 32 و68 ألف دولار في السنة، بحسب مستوى تعليمه، ومدة خدمته، هذا بالإضافة إلى المزايا الأخرى المتعددة اجتماعيًّا وطبيًّا. وفي دولة سنغافورة نجدها تكرّس جزءًا كبيرًا من مواردها، للارتقاء بالتعليم، فهي تدرك أنه لا تقدُّم بدون تعليم متقدِّم، ومن ثم وضعت مهنة التعليم، ضمن المهن ذات الصيت العالي، وتم منح المعلم مسئولية بناء جيل جديد، وتحديد مسار مستقبل الوطن، حيث يتراوح راتب المعلّم بين 24 و47 ألف دولار في السنة، ويمنح حوافز مجزية، إضافة إلى البدلات والإعانات، كما يُصرف له نحو ألف دولار سنويًّا، لتطوير قدراته الذاتية، من خلال حضوره لدورات تدريبية، في معاهد خاصة، أو شراء مستلزمات تقنية، ذات صلة بالتعليم المتقدّم. وكذلك تعد بريطانيا، من أكثر الدول اهتمامًا بالمعلم، ماديًّا ومهنيًّا ومعنويًّا، ويقدر متوسط رواتب المعلمين بنحو 31000 جنيه إسترليني في العام، إلى جانب المكافآت والحوافز، التي ترتبط بأداء المعلم، ومدى كفاءته، فبحسب قانون حقوق المعلّم لعام 1983م، فقد كفل للمعلّم، الذي لم يرق إلى منصب أعلى، مكافأة تعادل 69% من بدء تعيينه، إلى تقاعده، بينما يمنح من يرقى إلى منصب أكبر 102%. فما أحوجنا -نحن المصريين- أن نرفع من قدر ومستوى معلمينا كي نرتقي بأمتنا نحو الأمام، ورحم الله شاعرنا الذي قال: قُمْ للمعلم وفِّهِ التبجيلا ** كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولاً لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر