حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف إدريس حب وفن وبزنسة!
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 09 - 2014

كان أكثر ما حيرنى- طفلا- فى ملامح الدكتور يوسف إدريس هو عينيه الخضراوين المشعتين شيئا خارقا ما (فيما بعد أدركت انه العبقرية). بؤبؤ تلك العين يصعب جدا تحديد إلى أين يتجه، ربما كان يعبر إلى مجال غامض خلف المرئيات التى تتحلق حولنا، فيما ليس بمقدورنا- مهما أوتينا من حدس وفراسة- الإمساك بتلابيب نظرة يوسف إدريس أو تتبعها إلى حيث ذهبت.. هناك.. هناك.. مخترقة الأفكار المستهلكة، وقيم التقليدى والعادى والممكن، عابرة الإبداعات المكرورة منتهية تاريخ الصلاحية. لن تعرف يوسف إدريس إلا إذا كنت رأيت يوسف إدريس، وتكلمت إلى يوسف إدريس، وعبرت مع يوسف إدريس الحواجز بين ركود الواقع ووحشية الخيال.
هو شخصية مبهرة قادرة على إدهاشك حتى الجنون، إذا كان لديك هذا الاستعداد للدهشة، أو تلك القابلية للجنون!!
وهو يسحبك عبر مساريب شديدة التداخل والتعقيد لدرجة البساطة المفرطة، ولتَخبَر معه عوالم بكر لم يطأها عقل من قبل.
رأيته – للمرة الأولى – فى صالون بيتنا ضيفا على أبى الرسام العملاق، ومعه الناقد الادبى العتيد الأستاذ احمد عباس صالح، والأديب الفنان الشامل الأستاذ عبد الرحمن الخميسى، وكان الجميع – بين فواصل من النقاش يتصاعد حدة ويهبط رخامة – يطلقون أسرابا مجلجلة من القهقهات التى – غالبا – يقودها أبى (وقد وصف الأستاذ إحسان عبد القدوس ضحكته بأنها كانت – تاريخيا – الأعلى صوتا فى روز اليوسف).. جيل يحب أن يضحك، ويعرف كيف يضحك، ويقدر على أن يضحك.. وكانت امى حين تستمع – فى جوف المنزل – لهدير ضحكاتهم، تبتسم متمتمة: «يا ساتر يارب.. البيت ح يتهد»!!
ظللت محتلا بذلك التأثير الطاغى لنظرة يوسف إدريس، وقد أطلت صوبى من فوق صفحات مجموعاته القصصية، أو رواياته، أو مشاهد مسرحياته وشرائطه السينمائية وأمعنت الترامق.. محدجة، تومئ أو ترنو أو تبص فى حزمة مشاعر تتباين أو تتداخل وسط «المهرسة» الإبداعية الصاخبة التى يقودها هذا العبقرى فتبتلعنا أحيانا، وتبتلعه أحايين.
كلما تقدم بى العمر، قرأت يوسف إدريس، وتلامست مع نتاجه الابداعى بنحو مزاجى مغاير يفرضه ما بلغت من إدراك، وما شارفت من قدرة على الحلم، وشعرت أن قراءة أعمال ذلك الرجل هى تحريض على التفكير بطريقته، أو فى اسر طريقته، أو هى (إبداع فى الإبداع) «ألا/ àla يوسف إدريس»!
لا بل اننى كلما عاودت مطالعة احد أعماله فى عمر مختلف، وسياق زمنى جديد، رأيت فيه أشياء لم أرها من قبل..
(بيت من لحم) فى الإعدادية غير (بيت من لحم) وأنا فى الجامعة، أو فى ايامى الحالية على مشارف الستين.. و(لغة الآى آى)، و(الحرام)، و(البيضاء)، و(أنا سلطان قانون الوجود) و(قاع المدينة) تتجدد مع تقدم سنوات العمر، واتساع الإدراك، والقدرة على التجدد.. وهكذا فى أعماله المسرحية (الفرافير) و(المهزلة الأرضية) و(البهلوان) و(الجنس الثالث)..
ولعل شغله المسرحى كان أكثر دلالة على الخاصية الأهم فى إبداعه وهى إطلاق خيال المتلقي من عقاله، وبهذا المعنى تفهمت ثورته وصدامه الشهير مع المخرج سعد اردش فى عام 1972 حول منهج الأخير فى إخراج مسرحية (الجنس الثالث) من بطولة الأستاذ عبد الرحمن أبو زهرة، إذ رأى الدكتور يوسف إدريس أن طريقة اردش فى (كسر إيهام) المتلقي أوقفته عن سلوك ذلك الطريق اللانهائي من التخيل، الذى أراد يوسف إدريس – بالأمر الابداعى المباشر – أن يندفع جمهوره إليه.. هو يرى أن الإبداع عملية تتبادل أطرافها المواقع حتى انه وصف لى – مرة – المسرح بأنه (حالة) سماها (التمسرح)، فلما ساءلته عما تعنيه، أجاب بأنها «استحضار الحاسة المسرحية عند الجمهور، واستحضار الحاسة الجماهيرية عند الممثلين».. يعنى تلك التبادلية هى التى تخلق (الحالة)، وليس تثبيت كل من (الممثل) و(المشاهد) فى موقع وإطار لا يتغير طيلة العرض!
وحين بدأت عملى فى «الأهرام» عام 1975- قبل تخرجى فى الجامعة بعام كامل – بدأت مرحلة أخرى من علاقتى بيوسف إدريس، وهى تلك المرحلة (المستقلة) التى عرفت فيها ذلك العبقرى غير مظلل بالحضور الهائل لأبى..
وقبيل ذلك الوقت من السبعينيات وقع حدث جلل فقد تعين الأستاذ يوسف السباعى وقبض على حقيبة الثقافة، واستفتح عهده بإغلاق إحدى أهم المجلات اليسارية الثقافية، وهى (الكاتب) التى رأس تحريرها الأستاذ احمد عباس صالح، وذلك بحجة أن مقال الأستاذ صلاح عيسى فى المجلة بعنوان (مستقبل الديمقراطية فى مصر) تضمن تعريضا بدور القوات المسلحة فى حرب أكتوبر.
وكنا نصدر جريدة أسبوعية معملية – كطلبة فى كلية الإعلام – اسمها: (صوت الجامعة) يرأس تحريرها أستاذ مادة التحرير الصحفى الكاتب الكبير جلال الدين الحمامصى.. وكنت فى أسبوع إغلاق (الكاتب) مسئولا عن الصفحة الثقافية، وقررت إجراء عدد من الحوارات مع رموز وأقطاب تلك الأزمة (صلاح عيسى – احمد عباس صالح – ود. يوسف إدريس – يوسف السباعى) واخترت نفس عنوان مقال صلاح عيسى (مستقبل الديمقراطية فى مصر) ليكون اسما للحملة كلها ولكن بتحوير أعاده إلى الأصل الذى أطلقه د. طه حسين على احد كتبه (مستقبل الثقافة فى مصر).
وفى حواري مع يوسف السباعى تزرزر – كعادته – مهاجما الشيوعيين معتبرا مطاردتهم هى مهمته المقدسة ورسالته فى البرية، والمدهش أن شقاوة طفولية اعترتنى وقت اجرائى الحوار، وتذكرت ما ردده امامى الدكتور يوسف إدريس عن أن السباعى لا يستطيع تمالك غضبه إذا سمع اسم (نجيب محفوظ)، وكانا من العباسية، إذ يبدو أن السباعى تصور تساوى الرءوس والمقامات إبداعيا لمجرد التلازم فى الانتماء إلى ذلك الحى!
وابتسمت فى أثناء إجراء الحوار، ووجدتنى – فجأة ودون أى مناسبة أقول ليوسف السباعى: (لابد أن يتدخل تجمع من المثقفين لحل مشكلة مجلة «الكاتب» أنا لا أرى على رأس ذلك التجمع سوى الأستاذ نجيب محفوظ)!!
وهنا وجدتنى أمام بركان مروع تندفع من فوهته شواظ من لهيب ونار ذات أوار، وراح الرجل يتعثر فى تبرير انفعاله المخيف فيتعاقل مترزنا ومدعيا – تارة – أن نجيب ليس الرجل الذى يصلح لتلك المهمة، ثم يندفع مجاوبا وساوس الغيرة والغضب فى نفسه متسائلا: «ولماذا نجيب بالذات؟.. شئ غريب.. انتم جيل تعرض لتخريب ثقافى كبير..!!».. ثم – بعد ذلك – يستشعر الحرج فيباغتنى محاولا إصلاح صورته قائلا: (على فكرة.. أنا أحب نجيب!).
وفى جميع أطوار ذلك النقاش كنت متبسما محمر الوجه، أكاد أموت من السعادة لاننى استخدمت ما اخبرني به يوسف إدريس فى إثارة كل هذا ليوسف السباعى إلى ذلك الحد.
أما حوار يوسف إدريس معى فى تلك السلسلة عن إغلاق مجلة الكاتب فقد كان عنوانه: (بين اللصوص بروتوكول زمالة.. ويوسف السباعى لم يراع بروتوكول الزمالة بين الكتاب)!!
..............
كنت انتظر حضور د. يوسف إلى الأهرام فى الواحدة ظهرا إلى مكتبه فى الطابق السادس لأصعد له وأتمتع بالاستماع إليه، وبصياغاته المبهرة لأفكاره، وأحيانا حضرت بعض حواراته مع الصحفيين أو دارسى أدبه من الأجانب، وكثيرا دعانى للغداء فى مطعم «الأهرام» بالطابق الثانى عشر وقتما كانت حالة ذلك المطعم تسمح بان نعوده، أو نخالط فيه ما يمكن وصفه: (شريحة متجانسة من محررى الصحيفة وكتابها)!
وفى مرات كان يوسف إدريس يطلب منى قراءة عمل سطره – لتوه - فأقلب أوراق «الدشت» الصغيرة التى تعود الكتابة عليها، والتقط الكلمات والجمل من وسط أثار حرق سجائره على الورق، أو بعض سائل اسُدلقت نقاطه الصغيرة على الحروف فشوهتها (عرفت – بعد ذلك – أنها دموع الدكتور يوسف إدريس الذى كان يكتب فى حال هائل من الانفعال).
واحد ما قرأت ليوسف إدريس قبل النشر كان مقالات سبع بعنوان: (البحث عن السادات) وهو ما جمعه بين دفتى كتاب، كما نشره مسلسلا فى جريدة «القبس» الكويتية، وقد اخبرنى الدكتور يوسف – فيما بعد – أن احد كبار الكتاب استوحى واستلهم فكرة ذلك الكتاب من خلال نقاش جمعهما، وضمنه كتابا باسمه عن السادات بات ذائع الصيت.
وقد جمعتنى بالدكتور يوسف إدريس سبعة حوارات كبرى، فى مجالات متنوعة، واخترت منها ثلاثة اعرض لهم اليوم، احدهم عن (الحب)، والآخر عن (الفن)، والأخير عن (البزنسة).. وكلما تصفحت نصوص تلك الحوارات أو استمعت إلى شرائطها اشعر اننى اكتشفها من جديد، وارى فيها ما لم أره من قبل، وأحس بالعينيين الخضراوين المشعتين بشئ خارق ما، ترافقانى وتحرضانى على النظر إلى ما وراء الصورة السابقة المرتسمة فى ذهنى عن سطورها، ولأبحث عن أكثر المعانى تجريدا وفلسفة وأُبدع فى إبداع ذلك العبقرى الفلتة الذى لا اخجل (رغم محبتى الكبيرة للأستاذ نجيب محفوظ) من القول بأنه الذى كان يستحق (نوبل)، ومرة أخرى قدرت واقدر أسباب غضبه حين تحصلها نجيب، وكانت عصية عليه لأسباب ازعم أنها لم تك أدبية أو بلاغية!!
......................
ربما سيكون من الصعب بعد تلك الفذلكة الفلسفية والنقدية والتاريخية أن نبدا فى عرض أفكار يوسف إدريس التى خصنى بها عن الحب والمرأة، ولكننى تعودت التمرد على الصعب، ولعل ذلك بعض ما تعلمت من يوسف إدريس عن الإبداع/ الصدمة، وضرورة هز المجتمع بعنف، وإفاقته من (الاعتياد) المفضى – قطعا – إلى البلادة، ولعلى – كذلك – أتذكر بعض كلماته التى قالها لى فى بيته بالعجوزة (وقتما كان الفنان المصور عادل مبارز يضبط كاميراته استعدادا لالتقاط أجمل بورتريهات يوسف إدريس – فى تقديرى – والتى جمعته وابنته الرائعة نسمة.. لا اعرف أين صارت الآن، وقد كان الدكتور يوسف يرى فيها أديبة خطيرة كان يمكن أن تصير لها إضافة ذات شأن لو أرادت).
قالى لى يوسف إدريس: «أن الكتابة والإبداع عمل تغييرى لا يقبل بالحل الوسط ولا يرضى بالنصف نصف».. وهكذا سمعت الكلام وقررت أن ابدأ (مخالفا ما يتوقعه قارئ السطور بعد كل التنظيرات التى امتلأت بها صفحاتى السابقة) بحواراتنا عن الحب والنساء!
.............
قلت له فى مدخل حوار عن النساء: «وأنت طبيب.. لابد انك تعرف أن جرح المرأة ينزف أكثر من جرح الرجل ولا يلتئم بسرعة.. ولكن وأنت أديب هل تعتقد أن جراح المرأة النفسية تنزف أكثر ولا تلتئم أسرع من جراح الرجال»
وكان حديث ذلك العبقرى مدهشا فى ذلك المدخل غير التقليدى إذ بادرنى قائلا: «الحقيقة.. نعم.. فإذا كان الرجل يلعب ببعض أوراقه لعبة العواطف، فالمرأة – بكل أوراقها – تلعب هذه اللعبة ذاتها.. ولذلك فحين تخسر المرأة فإنها تخسر – كما نقول فى مصر – الجلد والسقط.. المرأة إذا خسرت فإنها تخسر رأس المال كله، أما الرجل فهو لا يدخل مغامرة عاطفية إلا بجزء من رأسماله حتى لو تجاوز النصف، ولذلك فالرجل لا يمر بأزمة عاطفية حادة إلا فى النادر.. خسارة المرأة العاطفية فادحة جدا، وجرحها حقيقى جدا، مؤلم جدا.. نافذ جدا، ومعنى الحب عند الرجل غيره عند المرأة.
الحب عند المرأة متصل بالقوى الكونية الكبرى.. قوى الطبيعة.. قوى الامتداد.. قوى أن تجدد الحياة نفسها على هيئة أطفال.. هذا حب ليس هوائيا ليس طائرا!، ولكنه حب ضارب بجذوره فى التاريخ الذى جاءت منه كأنثى، وفى المستقبل الذى سيمتد منها كأم، أما الحب عند الرجل فهو وظيفة رجالية فحسب!».
وأضاف د. يوسف: «فلنبسط المسائل وننظر إلى مملكة النحل، ملكة النحل عليها أن تنتج كل أفراد الخلية، إنما لكى تنتج ما هو مطلوب منها، فهى محتاجة إلى ذكر يلقحها، وهنا يعمل قانون الحياة عمله، فتطير الملكة ويتسابق الذكور خلفها، وأقواهم فى الطيران هو الذى يصلها فيلقحها ويموت على الفور يعنى هو أدى وظيفته الذكورية وانتهت حياته، بينما وظيفة المرأة هى إنتاج الحياة، وهى وظيفة امتدادية، فتعيش وتستمر من اجل هذه الوظيفة، ولذلك ليس صدفة – ابدا - أن تعيش النساء أعمارا أطول من أعمار الرجال.. وبالطبع هناك بعض الشذوذ فى هذا، يبرز – مثلا – فى بعض أنواع النبات حين يقوم الذكر أحيانا بمهمة الأمومة، يعنى تنجب الأم ويربى الأب، وهو موجود – كذلك – فى عالم الإنسان ولكنه استثناء وليس قاعدة».
وقال: «نزيف المرأة العربية يأتى من أنها ممنوعة من أشياء كثيرة جدا، ليس بحكم اقتناعها، ولكن بحكم القوى القاهرة التى تضطهدها، وهذه مسالة كبرى ينبغى أن يراجع الرجال العرب أنفسهم فيها، فالأمر – بحكم القوة القاهرة – لا يقنع إطلاقا وإنما يدفع للعكس، والذى يلجئ الإنسان لقبول أمر القوة القاهرة هو الخوف، وليس الاقتناع.. المنع الحقيقى ينبغى أن يكون عن طريق رغبة الإنسان الحقيقية فى أن يمتنع أو ألا يفعل، هذا منع حقيقى ومشروع!!.. المرأة العربية تعانى من المنع بالقوة منذ أن تكون طفلة إلى أن تشب وتكبر.. وينتج عن قانون «المنع بالقوة» تركيبة نفسية معينة هى تركيبة «الأنثى الناقصة نضجا»، والمرأة الناقصة نضجا ليست غير القادرة على التفكير ولكنها غير القادرة على الاختيار.. مثل تلك المرأة يدور داخلها جدل كبير من نوع: (أحب زوجى أو لا أحبه).. هى لم تحل – بعد – مشكلة الاختيار، فمن ناحية لم تتح لها فرصة الاختيار، ومن ناحية أخرى إذا فكرت فى أن تزاول حقها فى الاختيار فإنها تمنع بالقوة فكأنها تعيش فى المعتقل وهى تسير حسب قوانين الاعتقال»!!
وطرحت فى وجه الدكتور يوسف إدريس حقيقة حماس المرأة الجارف فى المطالبة «بحق تقرير المصير» وصولا إلى «إزالة آثار عدوان الرجل» فاجابنى: «هى تبحث عن حق تقرير المصير متأثرة – فى الواقع – بعوامل كثيرة وأهمها نمط الحياة الغربية، وهذا النمط خطأ، وهذا النمط – أيضا خطر.. لقد عشت فى أمريكا عمرا طويلا، ولا يعجبنى نظام الزواج أو العلاقات هناك لأنه نظام فاسد وسافل، وهو نظام يخلق من الأطفال مجرمين، ومن الشباب مدمنين، ولذلك رجائى لنسائنا إلا يستلهمن أفلام وقصص الأمريكان.. مشكلة المجتمع الامريكى – الآن – ليست مشكلة اقتصادية، فهذا مجتمع حل مشكلته الاقتصادية، وأصبح كل إنسان فيه يستطيع أن يشتغل أى شغلة ويكسب ما يكفيه، ومشكلة هذا المجتمع ليست مشكلة جنسية لأنهم – بشكل أو بآخر – حلوا المشكلة الجنسية، وإنما مشكلتهم هى مشكلة مخدرات، فالمخدرات عندهم هى البديل عن البشر، إذ يفقد اى واحد منهم الصداقة أو الحب فيصادق عقارا ويحبه!، هذا المرض أساسه من أعراض الوحدة، وهو وليد اختفاء ما يسمى الروابط العاطفية غير الجنسية بين الناس، فالعاطفة ليست جنسية فقط، اختفى فى هذه المجتمعات معنى (الونسة) حيث يأتنس الإنسان بالإنسان، ويأتنس الجميع بالجميع.. الإنسان لم يُخلق فردا، وعلى عكس هذا القانون فان الحياة الأمريكية قائمة على صراع أفراد ألغى العائلة والطائفة والشلة والزمرة، وبقى الإنسان فيه لوحده أمام المجموع.. والنتيجة هى الشذوذ والانتحار والمخدرات، والأمراض النفسية التى ليس لها اى معنى، وقد نشأت طبقة من الأطباء النفسيين – هناك – كل عملهم أن يسمعوا الناس، فتذهب أى امرأة وتدفع خمسين دولارا لطبيب مقابل أن يسمعها.. ما أتعسها من حياه.. وما أقبحها من حياه».
.............
أما عن (الفن) فان احد بواباتى للحوار معه التى التجأت إليها مرة كان طرح التساؤل عن مصدر الفن فى العالم العربى، وما إذا كان وليد خيال فرد أو حركة مجتمع أو ادعاء كذوب.. وقد اجابنى حازما: «هو كل ذلك، فقد انتقلنا – فجأة – من دول محتلة أو شبه محتلة إلى دول مستقلة، وانتقلنا – فجأة – من دول فقيرة إلى دول غنية.. تلك الانتقالات المفاجئة تركت تأثيرها على العقل العربى، بحيث اتجه الإنسان العربى إلى البحث عن أسهل وسائل الإنتاج، وأسهل وسائل الكسل.. فأصبح الإنتاج الصعب يعادل الإنتاج المستحيل، ولم تعد هناك حاجة لإعمال الفكر، وبذلك أصبح منحى المجتمع كله هو معادلة: (اقل جهد بأعلى اجر) وهو أمر يساوى الكسل العقلى والذهنى والجسدى، ويساوى – أيضا – التحول من استمتاع فنى عميق إلى كسل فنى لدى المنتج والمتلقى معا، ونتيجة لهذا ساد عصر (الفن/ الهمبكة) وبحيث صارت وظيفة المتلقي أن يسعى لهذا الفن ليضحك عليه ويضحك على نفسه»!!
وقال د. يوسف: «لو قارنا ذلك بما حدث فى المجتمعات الأوروبية سنجد أن انتقالات هذه المجتمعات جاءت تدريجية وصعبة وفرضت ضرورة إعمال الفكر.. وستجد نشأة السيمفونية تجسد ذلك المعنى، فالسيمفونية ملحمة موسيقية مكونة من ثلاثة أو أربعة فصول، ونشأت لتجسد صراع الإنسان الاوروبى للخروج من قبضة التزمت والكنيسة إلى فضاء وطقس عصر النهضة (عصر الصناعة)، وقد استمر ذلك الصراع لمدة قرنين أو ثلاثة فى أوروبا، وافرز السيمفونية كشكل إبداع فنى يمجد بطولة الإنسان فى هذا الصراع، كان مبدع السيمفونية مصارعا، وكان متلقيها مستمتعا بهذا الصراع لأنه – نفسه - طرف فيه، لا يمل منه، ولا يشعر انه مفروض عليه، ولا يحس بالغربة عن العمل الفنى الذى افرزه ذلك الصراع.. أما نحن فنريد كل شئ دون جهد حتى الإبداع نفسه.. نريد أن نأخذ حضارة أوروبا دون جهد، ونستورد فرقا فنية أوروبية بدلا من الفرق المحلية، أو – حتى – نستورد ثقافة، مثل أن يراقب كتابنا ما يكتبه القلم الاوروبى ويحاكوه مقلدين (ناتالى ساروت) أو (ميشيل دى تير) أو يتظاهرون بخلق تيار وعى أو قصة حديثة.. وحتى فى الشعر ستجد معظمهم يلطش فكرة قصائده من الشاعر الايرلندى جون ييتس الذى الف قصيدة القلعة، والذى يسطو على شعره معظم شعرائنا الشبان.. يعنى بديلا عن الوجود قررنا استيراد وجود كامل!..»
وقال: «الإنسان كائن فنان بطبعه، وهناك جزء من كيانه مرتبط تماما بالإبداع الفنى، ولا يمكن أن يعيش هذا الإنسان ويتوازن دون أن يتلقى أو ينتج فنه الخاص، كأن تكون مصريا عربيا وتتعلم رقصة (التويست) وتظل ترقص تويست طوال الوقت، فهل هذا التويست سيخلق لك توازنا نفسيا؟ طبعا لا.. ستظل مغتربا مضطربا.. وفجأة تسمع دقة (على واحدة ونص) فتجد تيارا مكبوتا رهيبا يتدفق داخلك، ويريدك أن ترقص هذه الرقصة، وبعد أن ترقصها ساعة، تحس وكأن سحبا متراكمة فى نفسك انقشعت وتلاشت، وحدثت عملية التطهير والارتياح والعودة إلى التوازن النفسى، ومن هنا فإن الفن ليس هزرا أو كماليات، ومن هنا – أيضا – فإن استيراد فن لا يمكن أن يكون حلا أو مقدمة لحل».
وأضاف: «امتنا العربية لا تغنى من القلب لأنها لا تغنى.. حتى مرحلة أم كلثوم وعبد الوهاب، وحتى بدايات عبد الحليم حافظ كان كلام الاغانى غريبا على الإنسان العربى، كان كلاما متخلفا تم تركيبه على موسيقى متطورة مثل: (العزول) أو (الهجر) أو (الوصل) أو (الجفا)، وكان المطرب يردد ألفاظا من طراز (يا هاجرنى) أو (يا معذبنى)، وهذا كلام قد يصلح لعصر غزل المشربية، ففى ذلك العصر كان من الممكن حدوث هجر، وصد، وبعد، ووصال لأنه لم يك هناك اتصال مباشر بين الرجل والمرأة، وكان المطروح – فقط – هو آراء تعن للمرأة عن الرجل، أو آراء تعن للرجل عن المرأة.. كان ذلك هو كلام اغانى عصر (الشخلعة المملوكية) الذى ظل مسيطرا على الأغنية العربية حتى بدايات عصر عبد الحليم حافظ، الذى اقترن بألحان متطورة لكمال الطويل والموجى وبليغ، ولكنه لم يقترن بكلام جديد إلا عندما بدأ يغنى الشعبيات مثل (موال ادهم) و(على حسب وداد) وغيرها.. كان عبد الحليم يشعر – إذن – بحركة وجدان مجتمعه الفنية، أما حينما ظهر المطربون الجدد فلم يكونوا عارفين أو مثقفين إلى الحد الذى يسمح بإدراكهم لتلك الحقيقة، لأنهم نتاج الجزر الثقافى، فالواحد منهم يدرك أن صوته حلو أو بشع، ولكنه لا يفهم الوظيفة الخطيرة جدا للأغنية، وهى أن تصدر عن القلب، وتشرخ القلب، وتخترق القلب، وتنظم حركة إنسان فى حياته اليومية، وتثقف وجدانه لا عقله فقط، وتغير فى التكوين النفسى للبنت العربية أو الشاب العربى لكى يتقاربوا أو يتباعدوا أو يتفاهموا مشكلين حركتهم فى ساحة الحياة».
..........
وماذا – إذن - عن البزنسة؟ لقد كانت موضوعا لحوار اقتصادى طويل دار بينى ويوسف إدريس بدأه بعبارة: (الاقتصاد اخطر من أن يترك للاقتصاديين)!!
وقال د.يوسف: «حين نستخدم فكرة نزع الاقتصاد عن السياسة، لا بل وعن الثقافة والتغييرات الاجتماعية، فإننا نجافى منطق الأشياء وحدود النظريات العلمية، أو الواقع العملى.. وكانت نتيجة هذه الفكرة التى سادت الإدارة المصرية هى اختلاط أكيد فى كل الأوراق، وسيادة للأفكار التلفيقية والتوفيقية، فقد أتينا بزعماء القطاع الخاص ليديروا القطاع العام، فأداروه بمنطق، ولمصلحة القطاع الخاص.. لقد أدار أولئك القطاع العام بمنطق التخلص منه أساسا، أداروه بمنطق الاستهلاك وليس بناء على نظرية – كما حدث فى الاتحاد السوفيتى مثلا – حين كان هدف الاقتصاديين هو خدمة الاتجاه الاشتراكى والتخلص النهائى من القطاع الخاص.. وعندما جاء السادات وجد المسرح مستعدا تماما، فتخلص دون أية مقاومة تذكر من الدور الذى كان القطاع العام يقوم به، وقد تسلمه كمؤسسة إنتاجية غير متماسكة تدار لمصلحة القطاع الخاص»
وقال: «نحن – مرة أخرى – أمام الحقيقة الساطعة بأن أساتذة الجامعة لا يقدروا على إدارة بلد من الناحية الاقتصادية.. الاقتصاد كما قال كيسنجر – وكما ذكرت لك مرة – اخطر من أن يترك للاقتصاديين.. وهى ليست مسألة تنافس بين الاقتصاديين والسياسيين، ولكنها إقرار بحقيقة إن الاقتصاد أن لم يدر بمفهوم سياسى واسع جدا فانه يخطئ جدا، ويرتبك جدا ويتدهور جدا».
وأضاف د.يوسف إدريس: «مواجهة إشكاليات الاكتفاء الذاتى والصناعة الوطنية ومعدلات النمو والتصدير ممكنة بثورة رأسمالية متكاملة، وهى ليست ثورة غوغاء، أو ثورة هوجاء، أو ثورة فى شكلها الكلاسيكى، إنما هى ثورة قانونية لا تخرج على القانون.. ثورة رأسمالية على غرار ما قام به لنكولن، وهى تسعى لتحقيق الرأسمالية بكل أبعادها وبكل عدالتها.. فإذا طبقت النظام الراسمالى – كما هو بحذافيره – فهو المؤدى إلى الاشتراكية باجلى معانيها، فالاشتراكية جاءت لتصحح عيوب الأداء الراسمالى، وهى ملازمة للرأسمالية، كما كان (أوين ) ملازما (لسميث) و(ماركس) ملازما للنهضة الصناعية فى أوروبا، والرأسمالية علمت الفرد أن يتحرك داخل آلة إنتاج ضخمة اسمها (المجتمع)، ثم جاءت الاشتراكية لتدير هذه الآلة على أسس اجتماعية معينة، فلابد أن تنشأ الرأسمالية أولا لتنشا الاشتراكية بعد ذلك، أما أن نقفز من عصر الإقطاع الزراعى إلى عصر الاشتراكية دون أن نمر بالرأسمالية فهذا مرادف مطابق لمعنى (التلبيخ الفلسفى أو العقائدى).. نحن فى عالم لم ينشا صدفة ولم يحدث التطور فيه بالفهلوة الاقتصادية، فالتطور التاريخى له أسبابه، ولا نستطيع القول إن الرأسمالية كانت خلاصة خبرة تاريخية طويلة.. (دعه يعمل – دعه يمر) جاءت نتيجة لصراع طويل مع الدويلات الأوروبية الإقطاعية.. البشرية لا يمكن أن تخترع نظاما اقتصاديا أو سياسيا من فراغ، لكن هذه النظم تنشأ تلقائيا فى سياقها التاريخى المحدد»
.........
حكيت لكم فى السطور السابقة بعضا من ثلاثية (الحب) و(الفن) و(البزنسة) فى حواراتى مع المبدع الفذ د. يوسف إدريس، الذى كى تعرفه لابد أن يقر فى ضميرك أن الكتابة عمل تغييرى وانك كى تفهم ذلك العمل لابد أن تكون متسلحا بالدهشة وبالجنون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.