نشر أستاذى الجليل الدكتور يحيى الجمل فى صحيفتكم الغراء مراجعة لكتابى «فى الثقافة والحريات الإعلامية» بتاريخ 02/7/4102، وحيث إننى أقضى إجازتى فى فرنسا ولم أطلع على المقال إلا أخيرا.. فاسمحوا لى أن أعلق على ما جاء فيه من آراء حكيمة: يذكر الدكتور الجمل: يتحاشى المؤلف تعبير تيار علمانى حتى لا تؤدى كلمة العلمانية إلى تنفير الدينيين، ذلك على حين لو أمعنوا النظر هذا قولى أنا لرأوا أن الإسلام دين علمانى بامتياز، فما أكثر الآيات القرآنية التى تدعو إلى إعمال العقل وإلى العلم. أود أن أطمئن أستاذى الجمل على أننى أتفق معه فيما ذهب إليه وأزيد بأن أذكر الحقائق التاريخية التالية: نقل العرب عبر بيت الحكمة الذى أسسه الخليفة المأمون علوم الإغريق والفرس والهند، وبلغ إعجاب الفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا والفارابى والكندى بأرسطو طاليس مبلغا كبيرا حتى سموه ب«المعلم الأول». تعرض هؤلاء الفلاسفة لحملات التشكيك بإيمانهم، وبأنهم بتعابير اليوم «حداثيون علمانيون»، وحمل عليهم الإمام الغزالى بكتابه »تهافت الفلاسفة«، ورد عليه الفيلسوف ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت»، وكانت هذه أولى المعارك الفكرية بين المدرستين الصوفية والفلسفية العقلانية شهدتها الساحة العربية وسرعان ما انتقل الجدل إلى الساحة الغربية أيضا. وكعادتها دارت عجلة الزمان، ونُقلت علوم العرب وفلسفتهم إلى أوروبا، وشاعت فى الأوساط العلمية بنحو خاص فلسفة ابن رشد التى وجدت جمهورا علميا يتبناها وسمى هؤلاء من جديد ب «الحداثيين والعلمانيين»، وتخبرنا كتب التاريخ الفرنسية بأن السلطات الدينية الفرنسية لاحقت اتباع مدرسة ابن رشد بلا هوادة، وأمر أسقف باريس بتحريم الحديث بعدد من القضايا التى اعتبرها «علمانية عربية» ومن بينها: القول بوحدة العقل البشرى وقدم العالم والإنسان والحرية البشرية، وألف القديس توما رسالة ضد القائلين بوحدة العقل البشرى ممن اسماهم ب «الحداثيين المستعربين». يتحدث المفكر الفرنسى أديلار دى باث إلى رجل من عامة الفرنسيين المحافظين عن أهمية العقل العربى وعلومه فيقول: تعلمت من أساتذتى العرب اتخاذ العقل هاديا ومرشدا، فى حين انك قانع بالخضوع لسلطة الكنيسة خضوع عبودية، ويضيف دى باث وهو من «الحداثيين الفرنسيين» وقتذاك أى من ناقلى ومتبنى علوم العرب: إننى أعلم المصير الذى ينتظر العلماء الحقيقيين بين السوقة من الناس، لذلك ترانى لا أدافع عن قضيتى، وإنما أدافع عن قضية العرب، لأن الفرنسيين يرفضون الحداثة العربية. لقد وظف الفلاسفة الرشديون اللاتنيون نظرية ابن رشد فى الفصل بين الدين والفلسفة التى وضعها فى كتابه «فصل المقال فىما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» فى معاركهم الفلسفية وقالوا بنظرية «الحقيقتين» أى الحقيقة الدينية والحقيقة العقلية لكى يصلوا إلى استقلال العقل عن الكنيسة، الأمر الذى مهد لفصل الدين ممثلا بالكنيسة عن الدولة، وإلى ابتداع العلمانية. والعلمانية العربية الإسلامية لا تعنى بأى حال الإلحاد كما يفهمها بعض من يجهلون حقيقتها.. العلمانية هى الاعتراف بحرية العقائد والفكر والعلم، ترمى إلى فصل السلطة العلمية والتربوية عن السلطة السياسية، وتاليا فصل الدين عن الدولة أى تحرير الدين من مغبة استغلال الدولة وبالمقابل تحرير الدولة من استغلال الطبقة الدينية. الحداثة العربية التى تبناها الأوروبيون وقتذاك هى التى بعثت الحياة فى فكرهم وعلمهم وفلسفتهم وعقائدهم الدينية، فحتى عندما كان المفكرون الأوروبيون يردون على الحداثيين الغربيين الذين يقولون بالحداثة العربية ويرددون حجج ابن رشد بعدم تعارض الدين مع الفلسفة، كان خصومهم هم أيضا يستعينون بالحجج الفلسفية العربية ويرجعون إلى كتب الغزالى وبخاصة كتابه «تهافت الفلاسفة» لكى يواجهوا حجج الرشديين منهم الذين كانوا هم بدورهم ينهلون من كتاب ابن رشد «تهافت التهافت» لدحض منطلق القائلين بحجج الغزالى.. هذا ما فعله الكثيرون، ونذكر منهم الفيلسوف الألمانى رامون لول عندما شرع فى ترجمة «مقاصد الفلاسفة» للإمام الغزالى لكى يقوم باستخدام براهينه المنطقية ضد «الفلسفة العربية»، أى فلسفة ابن رشد التى انتشرت فى أوروبا. باختصار شديد، إن أى بناء حضارى لا ترتفع أعمدته إلا بالاعتماد على ما حققه السلف الحضارى إغريقيا أكان أم عربيا، تلك هى روح الإسلام الحضارية ومقاصد شريعته، وهذا ما أكده الرسول الكريم عندما قال «اطلبوا العلم ولو فى الصين». لمزيد من مقالات السفيرد.قيس العزاوى