في عصر ازدهار الحضارة العربية, ترجمت كتب الفلسفة اليونانية إلي اللغة العربية, وانفتح العقل العربي علي الثقافة العالمية, لدرجة أننا كنا نبادل الكتب بالأسري, ونزن ترجمتها بالذهب! مع ملاحظة أن هذه الكتب الأجنبية تحمل عقائد وتصورات وأفكار تخالف ما يؤمن به العرب من أصحاب الديانات الثلاث, فكيف تعامل العقل العربي مع أطروحات هذه الفلسفات الوافدة؟ من المؤكد أن عقول البشر تتفاوت في قدرتها علي استيعاب الخلاف والاختلاف, ومن ثم استطاع البعض أن يستوعب علوم الرياضيات والفلك والمنطق, ويهضم مختلف مدارس الفلسفة اليونانية, بل ويتجاوزها, وهكذا ظهر' علم الكلام' للرد علي مقولات فلاسفة الأغريق, وغيرهم من أصحاب العقائد المخالفة للرؤية الإسلامية للوجود والخالق ومخلوقاته. وقد استفاد فلاسفة المشرق العربي, من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا, وكذلك فلاسفة المغرب العربي كابن باجة وابن طفيل وابن رشد, من أطروحات الفلسفة اليونانية, ومن ثم كان لكل منهم فلسفته الخاصة, والتي تتفق أحيانا, مع فلاسفة الأغريق, وتختلف معهم في أحيانا أخري. أما أبو حامد الغزالي فقد درس الفلسفة اليونانية دراسة متأنية للغاية, ثم أصدر كتابه' مقاصد الفلاسفة', حيث شرح بدقة وموضوعية أطروحات الفلاسفة القدماء, كما ألف كتاب' معيار العلم', الذي بين فيه قواعد علم المنطق. وبعد ذلك كتب الغزالي كتابه الشهير' تهافت الفلاسفة', ليرد علي مقولات الفلاسفة في موضوع الإلهيات, وبخاصة حين تصطدم أفكارهم مع أصل من أصول الدين. أما ما يقولونه في باقي الموضوعات الأخري فلا ينازعهم فيها, بل يقدرها كعلم من العلوم الدقيقة, كما في العلوم الطبيعية, والهندسية, والرياضيات, والمنطق, وغيرها. وتتجلي أمامنا عظمة الفلسفة في قدرتها علي احتواء الأضاد معا! لدرجة أن أعداءها, أو من يحاولون أن يدحضوا أفكارها, تضمهم إليها, طالما يستندون في ذلك إلي قواعد المنطق وحجج العقل. والغزالي كفيلسوف يتمتع بالنزاهة العقلية, عرض بدقة وأمانة ما قاله فلاسفة اليونان, ثم أعتمد علي حسن فهمه لقواعد المنطق لدحض الحجج العقلية التي بني عليها الفلاسفة نسقهم الفكري في مجال الإلهيات. وفي ذلك يقول الغزالي:' إن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق, وما شرطوه في صورته في كتاب القياس, وما وضعوه من الأوضاع في( إيساغوجي) و(قاطيغورياس) التي هي من أجزاء المنطق ومقدماته, لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية'. وما يذكره الغزالي فيما أري صحيحا تماما فمقولات فلاسفة اليونان في ما يخص الميتافيزيقا أو الإلهيات, ما هي في الحقيقة سوي تصورات ذهنية, دون دليل عقلي عليها, وبلا أي برهان منطقي, ولا حجة قاطعة, ومن ثم استطاع الغزالي أن يظهر تناقض أطروحتهم في عشرين مسألة. الأولي: إبطال مذهبهم في قدم العالم. والثانية: إبطال قولهم في أبدية العالم, فالعالم عندهم كما أنه أزلي لا بداية لوجوده, فهو أبدي لا نهاية لآخره, إذ لا يتصور فساده ولا فناؤه! والثالثة: بيان تلبيسهم في قولهم إن الله فاعل العالم وصانعه, إذ إن الله عندهم ليس مريدا, بل لا صفة له أصلا, وما يصدر عنه فيلزم منه لزوما ضروريا. والرابعة: في بيان عجزهم عن الاستدلال علي وجود الصانع للعالم. والخامسة: في بيان عجزهم عن إقامة الدليل علي أن الله واحد. والسادسة: إبطال مذهبهم في نفي الصفات, إذ اتفقوا علي استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة للمبدأ الأول! والسابعة: في إبطال قولهم إن ذات الأول( الصانع) لا تنقسم بالجنس والفصل. والثامنة: في إبطال قولهم إن الأول موجود بسيط بلا ماهية. والتاسعة: في عجزهم عن بيان أن الأول ليس بجسم. والعاشرة: في بيان أن القول بالدهر ونفي الصانع لازم لهم. والحادية عشر: في تعجيزهم عن القول بأن الأول يعلم غيره. والثانية عشر: في تعجيزهم عن القول بأنه يعلم ذاته. والثالثة عشر: في إبطال قولهم إن الأول( الله) لا يعلم الجزئيات. والرابعة عشر: في تعجيزهم عن إقامة الدليل علي أن السماء حيوان مطيع لله بحركته الدورية. والخامسة عشر: في إبطال ما ذكروه من الغرض المحرك للسماء. والسادسة عشر: في إبطال قولهم إن نفوس السموات تعلم جميع الجزئيات! والسابعة عشر: في إبطال قولهم باستحالة خرق العادات. والثامنة عشر: في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي علي أن النفس الإنسانية جوهر روحاني قائم بنفسه, أي ليس بجسم ولا عرض. والتاسعة عشر: في إبطال قولهم إن النفوس الإنسانية, يستحيل عليها العدم بعد وجودها, أي أنها سرمدية لا يتصور فناؤها. والعشرون: في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد, مع التلذذ والتألم في الجنة والنار, باللذات والآلام الجسمانية. وبعدما دحض الغزالي حججهم, كتب:' ونحن لم نلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم, والتغيير في وجوه أدلتهم بما يبين تهافتهم, ولم نتطرق للذب عن مذهب معين.. وأما إثبات المذهب الحق فسنصنف فيه كتابا بعد الفراغ من هذا'. وفعلا كتب الغزالي بعد ذلك كتاب' قواعد العقائد', والذي أعتني فيه بالإثبات, بعدما قام بالهدم في كتابه' تهافت الفلاسفة'. وكثيرون من دارسي الفلسفة وأساتذتها, ينسبون إلي الغزالي تهمة القضاء علي الفلسفة في عالمنا العربي والإسلامي! وهذه تهمة في غاية الغرابة! لأن ابن رشد, والذي يعد من أهم فلاسفة المسلمين, قد ولد بعد رحيل الغزالي بنحو خمسة عشر عاما, ثم كتب كتابه المهم' تهافت التهافت', لكي يرد بالحجج المنطقية علي كل ما قدمه الغزالي من براهين علي تهافت الفلاسفة, وهكذا كانت كلمة ابن رشد, هي الكلمة الأخيرة( تاريخيا), فماذا كتب آخر الفلاسفة المسلمين في رده علي الغزالي؟( هذا ما قد نناقشه في مقال قادم). لمزيد من مقالات د. زكى سالم