من الثابت تاريخياً، أن تهديد أمن مصر كان مصدره دائماً يأتى من الشرق، فمن هذا الاتجاه أتى الهكسوس والحيثيون والصليبيون وكل الغزوات التى عرفها التاريخ حتى العصر الحديث، باستثناء فترات لا تذكر كان التهديد يأتى فيها من الغرب، وكان أبرزها فترة الحرب العالمية الثانية حين كان الدوتشى «موسولينى» يحلم باستعادة الإمبراطورية الرومانية، وحشد قواته فى ليبيا كى يحتل مصر ويحرر إيطاليا من زنزانتها - كما كان يقول - فى البحر المتوسط . وقبل أن تبدأ العمليات الفعلية فى صحراء مصر الغربية، كانت مصر حريصة على التزام جانب الحياد، فهى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وكانت وجهة نظر قيادتها السياسية المتمثلة فى رئيس الوزراء محمد محمود أن إتفاقية 1936 لا تلزم مصر بدخول الحرب إلى جانب الحلفاء، وبالفعل دارت الحرب بين الحلفاء والقوات الألمانية والإيطالية على الأراضى المصرية دون أن يكون لمصر أى دور ملموس فيها . وفى عهد السادات، ونتيجة لتبنى العقيد القذافى بعض العمليات الإرهابية فى مصر، أصدر السادات أوامره للقوات المسلحة المصرية كى تقوم بعملية تأديبية ضد بعض الأهداف الليبية، حيث قامت القوات الجوية المصرية فى يوليو 1977 بمهاجمة بعض القواعد الجوية الليبية فى شرق ليبيا ومنها قاعدة طبرق وقاعدة العضم حتى أمكن وقف إطلاق النار بوساطة جزائرية . خلال الأيام الأخيرة تصاعدت وتيرة الشائعات حول قيام مصر والإمارات بتوجيه ضربات جوية فى طرابلس، وقبل ذلك تصاعد الجدل فى مصر حول إمكان القيام بعمل عسكرى ضد الميليشيات المسلحة فى ليبيا. طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة ، فإنه يجوز للدول الأعضاء أن تتخذ من الإجراءات الفردية أو الجماعية ما تراه مناسباً للدفاع عن النفس فى حالة تعرضها لهجوم عسكرى، حتى يتخذ مجلس الأمن الإجراءات الضرورية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، على أن تقوم الدول الأعضاء بإخطار مجلس الأمن فوراً بإجراءاتها . وخلال الجدل الذى دار حول الأوضاع فى سوريا منذ عدة أشهر، كان هناك اتجاه قوى لتوجيه ضربات عسكرية ضد النظام السورى ، بحجة التدخل الإنسانى ، وهى بالمناسبة نفس الحجة التى تدخل بها حلف الأطلنطى ضد نظام العقيد القذافى حتى تم إسقاطه . ومن المهم أن نوضح فى هذا الصدد ، أن ميثاق الأممالمتحدة ينص فى الفقرة الرابعة من مادته الثانية على تحريم التهديد بالقوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضى أو الاستقلال السياسى لأى دولة، وهذا التحريم - وفقاً لأغلب الفقه الدولى - يعد تحريماً شاملاً ، بل يرتقى إلى أن يكون قاعدة آمرة من قواعد النظام الدولى العام ( jus cogens )، أى لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا بقاعدة لها نفس الصفة، أو بمعنى آخر تعديل ميثاق الأممالمتحدة نفسه . بناء على ذلك، لا يجوز لأى دولة أو مجموعة من الدول أن تتفق أو تتصرف بما يخالف هذه القاعدة الآمرة ، حيث يقع الإتفاق أو التصرف فى دائرة البطلان وفقاً للفهم القانونى السليم، وهو ما تؤكده اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التى نصت فى مادتها 52 على بطلان المعاهدة التى تتضمن التهديد بالقوة أو استخدامها لانتهاكها مبادئ القانون الدولى التى تضمنها ميثاق الأممالمتحدة . إلا أن هذه القاعدة يرد عليها استثناءان لا ثالث لهما، الأول هو ما تضمنته المادة 51 فى الميثاق بشأن «حق الدفاع عن النفس»، إذا تعرضت الدولة لهجوم مسلح ، وهو ما سبق لنا تفنيده فيما يتعلق بالحالة اليوغوسلافية، أما الاستثناء الثانى فيتعلق بنظام الأمن الجماعى تحت الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وهو حق استخدام القوة بتخويل من مجلس الأمن فى حالات محددة وهى تهديد السلام او انتهاكه او الأعمال العدوانية، حيث يتخذ المجلس قراراً بالتهديد بالقوة أو استخدامها، وقد يكون التنفيذ من خلال تفويض المجلس بذلك سواء بشكل فردى أو جماعى كما حدث فى الحالة العراقية. وربما يحتج أحد بمسئولية مصر فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان فى ليبيا ، تطبيقاً لمبدأ «المسئولية فى الحماية Responsibility to Protect ، وهو المبدأ الذى راج كثيراً خلال سنوات ما بعد انتهاء الحرب الباردة، واستخدم أيضاً كحجة لعمليات الناتو فى يوغوسلافيا لحماية أهالى كوسوفو، وقد سبق لى أن كتبت منتقداً هذه الحجة، على اعتبار أن ميثاق الأممالمتحدة قد نص صراحة فى الفقرة السابعة من المادة الثانية على أنه «لا يوجد فيه ما يسمح بالتدخل فى شئون تعتبر بالضرورة ضمن الشئون الداخلية لأى دولة»، وأن «الأمن الجماعي» يتطلب قراراً من مجلس الأمن وفقاً للفصل السابع ، واعتبرت أن تدخل الناتو فى كوسوفو انتهاك صريح للفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأممالمتحدة السابقة الإشارة إليها . ويمكن ببعض التعسف أن نمد تطبيق الحق فى «المطاردة الساخنة» Hot Pursuit المطبق فى قانون البحار، بحيث يعطى لمصر الحق فى تعقب الجماعات الإرهابية خارج الحدود الإقليمية ، إلا أن ذلك - دون الدخول فى التفاصيل - يعد إحتيالا قانونيا لا تقدر عليه سوى الدول العظمى فقط ، التى تطوع القانون الدولى وفقاً لهواها ومصالحها . ختاماً ، أردت أن يكون هذا المقال عرضاً موجزاً للأبعاد القانونية للموضوع، وهى كما أوضحت لا تسبغ شرعية لأى تدخل عسكرى فى ليبيا إلا بالشروط السابق إيرادها، ولكن هناك ما هو أهم من «الفذلكة» القانونية، وأعنى الأبعاد السياسية والإنسانية والاقتصادية والتاريخية للعلاقات بين الشعبين المصرى والليبى، وهى التى تجعل تدخلاً بهذا الشكل خطأ إستراتيجياً لا ينبغى الوقوع فيه، وأتصور أن إسهام مصر سواء من خلال إطار إقليمى أو دولى لإيجاد حل سياسى يساعد الأشقاء فى ليبيا للخروج من أزمتهم هو ما يمكن القيام به فى الوقت الحالى . لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق