«البعثة الدولية» ترصد انتخابات «النواب» ب«29 متابعًا» من 9 جنسيات    تعددت الأسماء والطريقة واحدة.. آن الرفاعي وبسمة بوسيل تواجهن الطلاق ب«البيزنس» (تقرير)    طبقًا لإرشادات الطب الصيني.. إليكِ بعض النصائح لنوم هادئ لطفلك    ستيفن صهيونى يكتب: الفضيحة التي هزت أركان الجيش الإسرائيلي    مقتل شخصين إثر تحطم طائرة إغاثة صغيرة في فلوريدا بعد دقائق من إقلاعها    موعد مباراة السعودية ضد مالي والقنوات الناقلة في كأس العالم للناشئين    انيهار جزئي في عقار بحي وسط المنيا    بصورة "باي باي" ل ترامب، البيت الأبيض يرد على فيديو إلهان عمر بشأن ترحيلها من أمريكا    «متحف تل بسطا» يحتضن الهوية الوطنية و«الحضارة المصرية القديمة»    أبرزها "الست" لمنى زكي، 82 فيلما يتنافسون في مهرجان مراكش السينمائي    ترامب: ناقشت مع الشرع جميع جوانب السلام في الشرق الأوسط    إقامة عزاء إسماعيل الليثي.. غدًا    إصدار تصريح دفن إسماعيل الليثى وبدء إجراءات تغسيل الجثمان    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    سلطنة عمان تشارك في منتدى التجارة والاستثمار المصري الخليجي    الإطار التنسيقي الشيعي يدعو العراقيين إلى المشاركة الواسعة والفاعلة في الانتخابات التشريعية    أسامة الباز.. ثعلب الدبلوماسية المصرية    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي 2025 وخطوات استخراجها مستعجل من المنزل    يمهد الطريق لتغيير نمط العلاج، اكتشاف مذهل ل فيتامين شائع يحد من خطر النوبات القلبية المتكررة    التعليم تعلن خطوات تسجيل الاستمارة الإلكترونية لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    أسعار العملات العربية والأجنبية أمام الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    استعدادًا للتشغيل.. محافظ مطروح يتابع تأهيل سوق الخضر والفاكهة بمدخل المدينة    أمطار على هذه المناطق.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    الحوت، السرطان، والعذراء.. 3 أبراج تتميز بحساسية ومشاعر عميقة    ريم سامي: الحمد لله ابني سيف بخير وشكرا على دعواتكم    وزارة الداخلية تكشف ملابسات واقعة السير عكس الاتجاه بالجيزة    انهيار جزئي لعقار قديم قرب ميدان بالاس بالمنيا دون إصابات    مع دخول فصل الشتاء.. 6 نصائح لتجهيز الأطفال لارتداء الملابس الثقيلة    أهمهما المشي وشرب الماء.. 5 عادات بسيطة تحسن صحتك النفسية يوميًا    نيسان قاشقاي.. تحتل قمة سيارات الكروس أوفر لعام 2025    التخضم يعود للصعود وسط إنفاق بذخي..تواصل الفشل الاقتصادي للسيسي و ديوان متفاقمة    بسبب خلافات الجيرة.. حبس عاطل لإطلاقه أعيرة نارية وترويع المواطنين بشبرا الخيمة    استغاثة أم مسنّة بكفر الشيخ تُحرّك الداخلية والمحافظة: «رعاية وحماية حتى آخر العمر»    النائب العام يستقبل وزير العدل بمناسبة بدء العام القضائي الجديد| صور    بعد لقاء ترامب والشرع.. واشنطن تعلق «قانون قيصر» ضد سوريا    سعر الطماطم والخيار والخضار بالأسواق اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    تقارير: ليفاندوفسكي ينوي الاعتزال في برشلونة    إصابة الشهري في معسكر منتخب السعودية    صلاة جماعية في البرازيل مع انطلاق قمة المناخ "COP30".. صور    المغرب والسنغال يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية والتحضير لاجتماع اللجنة العليا المشتركة بينهما    مشهد إنساني.. الداخلية تُخصص مأمورية لمساعدة مُسن على الإدلاء بصوته في الانتخابات| صور    زينب شبل: تنظيم دقيق وتسهيلات في انتخابات مجلس النواب 2025    المعهد الفرنسي يعلن تفاصيل الدورة الخامسة من مهرجان "بوبينات سكندرية" السينمائي    اليوم السابع يكرم صناع فيلم السادة الأفاضل.. صور    مروان عطية: جميع اللاعبين يستحقون معي جائزة «الأفضل»    بي بي سي: أخبار مطمئنة عن إصابة سيسكو    اللعنة مستمرة.. إصابة لافيا ومدة غيابه عن تشيلسي    لماذا تكثر الإصابات مع تغيير المدرب؟    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    أوكرانيا تحقق في فضيحة جديدة في شركة الطاقة النووية الوطنية    أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    رجال الشرطة يجسدون المواقف الإنسانية فى انتخابات مجلس النواب 2025 بالإسكندرية    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتح المندل
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 03 - 2010

عندما كانت تحدث السرقات في القرية قديما وربما إلي اليوم تكون الحكومة هي آخر من يفكر المسروق في إبلاغه عما سرق منه‏,‏ اللهم إلا أن يكون الحادث كبيرا‏,‏ كأن تتعرض زريبة بأكملها للسرقة‏,‏ أو دكان مانيفاتورة كبير‏,‏ أو حتي دكان بقالة‏. أما سرقات البيوت‏,‏ فإن المسروق يتوجه في الحال إلي أحد المعروفين قبل أن يهتم بإبلاغ العمدة‏.‏ وحتي المنكوبين بسرقات كبري يهرعون إلي الحكومة ويهرعون في نفس الآن إلي العراف‏.‏
ذلك أن اعتقاد المصريين في قدرة العراف ثقافة شعبية متوارثة منذ آلاف السنين مما يشي بمصداقية واضحة لم تزعزعها اختلافات العصور المتواترة ولا ما دخل البلاد من ثقافات حديثة وافدة أو مكتسبة‏!.‏
والعرافون درجات‏,‏ أو طبقات‏,‏ تتحدد طبقة الواحد منهم بمدي قدرته علي النفاذ إلي تفاصيل حالة السرقة واستكناه المعلومات وتحليلها للعثور علي مفاتيح يتوصل بها إلي السارق‏,‏ سواء كان من محيط العائلة أو من خارجها‏;‏ وكذلك بمدي نفوذه علي طائفة الجن الذين سيستخدمهم في فك طلاسم القضية‏.‏
احد أبناء عمومتي كان واحدا من أولئك العرافين‏.‏ وكنت في طفولتي منجذبا إلي قعدته ذات الطقوس الاحتفالية المبهجة‏,‏ المرعبة أحيانا‏,‏ الحافلة بمفاجآت مثيرة‏,‏ وخيمة من دخان البخور الطيب الرائحة‏,‏ ورقي وتعاويذ يلقيها العراف في مشهد مسرحي بكل معني الكلمة أين منه لورنس أوليفييه في دور هاملت شيكسبير‏,‏ وجه يتلون بانفعالات حادة‏,‏ وجسم ينتفض‏,‏ لايني يلقي بالبخور في متقد النار هاتفا يستنهض خدمه من الجن يناديهم بأسمائهم في أمر مبطن بحميمية غاضبة‏.‏ والناس من حواليه في القاعة صامتون يترقبون‏;‏ قلوبهم تخفق في وجوههم في رهبة تقارب الشعور بالذنب‏,‏ وفي فضول يقارب الشعور بالتحدي اللذيذ في محاولة اختراق حجب الغيب علي يدي بشري مثلهم ولكن عبر وسيط من الجن‏.‏ ولم تكن قعدة قريبي العراف هي وحدها المثيرة لخيالي‏,‏ إنما كتبه الصفراء العتيقة تفوح صفحاتها برائحة مياه الوضوء ممزوجة بزخم البخور وبصمات الأصابع الملطوشة بدسم الطعام‏;‏ لهفي علي كتاب شمس المعارف الكبري وما يحتويه من وصفات سحرية لجميع أغراض الحياة بجميع أنواعها خيرا وشرا علي السواء‏.‏
ولكن كيف سيعرف العراف من هو السارق أو القاتل أو صاحب الفتنة فيما نشب من عراك دموي في البلد؟ لسوف يفتح المندل‏..‏
وكلمة الصندل علي وزن كلمة المندب‏,‏ وكلمة المنبع وربما كانت هذه الكلمة الأخيرة هي الأقرب لتفسير معني كلمة‏:‏ المندل‏;‏ ذلك أن المندل تعني إجراءا طقسيا تنبع منه الدلائل التي يمكن أن ترشدنا إلي الفاعل‏,‏ أو الجاني‏.‏
وهناك أشكال متعددة لهذا الإجراء الطقسي السحري المسمي بالمندل‏.‏ كل شكل يمثل طريقة استدلال‏.‏ وكل جريمة سرقة أو قتل أو حرق أو تقليع زرع أو خطف رهائن لها ما يناسبها من هذه الطرائق‏.‏ فهناك مندل الفنجان‏,‏ و مندل طبق الكريات الطينية‏,‏ و مندل القلة الفخارية المتحركة‏.‏
وقد أتيح لي في طفولتي المبكرة أن أشهد كل هذه الطرائق‏,‏ وأن أكون وسيطا طفوليا في بعضها‏.‏ فانطبع في وجداني هذا العالم السحري باعتباره عالما فنيا محضا‏,‏ بالدرجة الأولي والأخيرة‏.‏ ذلك أن كل طقس من الطقوس بشكل عام هو فن بصورة أو بأخري منذ عصور ما قبل التاريخ حينما كان الإنسان البدائي يقيم الشعائر والطقوس لاسترضاء القوي الكونية المتحكمة في حياته وفي مصيره‏.‏
وحينما تجلت العقائد الدينية في حياة الإنسان وثقفت وجدانه نضجت هذه الحركات الطقسية وتحددت معانيها في صلوات وعبادات‏,‏ ثم في فنون التمثيل والرقص والغناء والموسيقي‏;‏ فاكتسبت قدسية ومهابة وجلالا‏;‏ فاستفاد من ذلك العرافون والسحرة‏,‏ اعتمدوا علي غريزة حب الناس وإجلالهم لكل ما هو طقسي‏;‏ اعتمدوا كذلك علي خصوبة خيالهم في توصيف الوصفات السحرية بحيث تبدو كل وصفة كأنها عمل فني منسوج من صور سوريالية حوثية‏.‏
أكاد أجزم أن العرافين أو السحرة أنفسهم علي قناعة بأن أعمالهم السحرية هذه ليست بقادرة علي اختراق الغيب لمعرفة الفاعل أو الجاني الخفي‏,‏ وأن استخدامهم للجن أمر بالغ الاستحالة‏,‏ إنما هم علي قناعة داخلية بأن المسرحية في حد ذاتها‏,‏ اللعبة الطقسية بإجراءاتها الكثيرة هي في الواقع صاحبة السر الباتع في الكشف عن الجناة‏.‏ ولهذا يبالغون في ردها وتشخيصها بجدية وبأكبر قدر لديهم من ملكة التفنن إن هدفهم الحقيقي هو إتقان اللعبة‏,.‏ فبهذا الإتقان وحده يحدث الضغط النفسي علي نفسيات الجناة فيتوترون وتضطرب سلوكاتهم وتتعطل أذهانهم وترتبك أحوالهم فتقع منهم كلمات أو تصدر عنهم أفعال تشي بتورطهم‏.‏ وكلما كان العراف حسن السمعة قادرا علي إثارة الرهبة شكل ضغطا علي نفوس الجناة الذين ربما كانوا من بين الحضور في قعدة العراف فيسرع الجناة بالتخلص من أثر الجريمة فيكشف أمرهم‏.‏
إذا كانت السريقة ماشية أو محاصيل‏,‏ من الزريبة أو من مخزن خارج الدار‏,‏ يكون مندل الفنجان هو الأنسب‏.‏ وبادئ ذي بدء ليس من المستحب وجود أكثر من عراف في نفس الجلسة كما يحدث أحيانا لدي الأسر الميسورة حيث تستدعي أكثر من عراف من أكثر من بلد إضافة إلي عراف البلد‏;‏ مع أنهم يعتقدون ما يعتقده الناس من أن وجود أكثر من عراف في جلسة واحدة يشوشر عليهم جميعا‏;‏ فكل عراف سيترصد شغل الآخر ويقرأ في سره من التعاويذ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يبطل به سحر منافسه‏.‏
في ليلة من ليالي الفنجان في بلدتنا تسللت بين الأطفال إلي مندرة العائلة التي سرقت مواشيها لكي تنفرج علي ما يحدث أمامنا من أعمال سحرية‏.‏ لم يكن قريبي هو عراف تلك الليلة ولم يكن حاضرا‏,‏ وحينما تفجرت حبات البخور علي نار المنقد وعبأ الدخان ذو اللون التركوازي فراغ المندرة فبدأ الحضور جميعا كأنهم كائنات مائية غريبة متربعة في قاع بحر‏,‏ تصدر عنها حركات مبهمة وزفرات ووشوشة ودمدمة وأسماء جن تسبح في موجات الدخان من قبيل‏:‏ حركوشن بركوشن ماركوشن يا خدام هذا المكان أقسمت عليكم باسم الرحمن وببركة نبيه الشفيع الحنان أن تظهروا الآن‏..‏ الآن‏..‏ العجل العجل‏..‏ الوحي الوحي الساعة الساعة ثم جئ بالفنجان وقد غطي قاعه بنقطتين من الزيت‏.‏ راح العراف يمرره بكفه فوق نافورة دخان البخور سبع مرات وهو يتمتم بتعزيمات تحفل بكلمات لا تعرف إن كانت عربية أو سريانية أو فارسية أو فرعونية المهم ان الانفعال الجاد علي وجه العراف وخلف خيوط لحيته الكثيفة المنسقة ثم إنه وضع الفنجان علي الأرض‏,‏ وطلب أن يتبقي من هؤلاء الأطفال طفل ذو مواصفات معينة‏:‏ أن يكون ذا جبهة هلالية‏;‏ أن تكون أسنانه مفلوجة من الأمام‏;‏ أن تكون خطوط كفيه علي شكل رقم‏17,‏ أو رقم واحد وسبعين‏.‏ أحاط بنا صاحب الدار بطرفي عباءته ثم دفع بنا إلي الحصير حيث يتربع العراف ومن خلفه مسند تفحصنا العراف واحدا بعد الآخر‏,‏ ثم وضع يده علي كتفي وأعلن استياءه من أن شروطه لم تتوفر في أحد منا اللهم إلا هذا الولد يعني أنا توفر فيه شرطان اثنان‏:‏ هلالية الجبهة والسن المفلوجة أما خطوط كفي فعلي شكل رقم واحد وثمانين‏.‏ فلما بان عليهم الإحباط أعلن أنه مع ذلك سيحاول لعل البركة تحل في هذا الولد‏.‏ كنت في التاسعة من عمري آنذاك‏.‏ مع ذلك فطنت من نظرة العراف ولهجته أنه قد احتاط بسبب يستند عليه إذا فشل في مهمته‏.‏
ثم إنه وضع كفه العريضة الخشنة فوق جبهتي وقرأ تعزيمة ختمها بالصلاة علي سيد المرسلين‏.‏ ثم كتب علي قصاصة من الورق كلاما يتضمن مربعات مخططة في داخلها أرقام وأحرف هجائية‏;‏ سحب رأسي‏,‏ حشر الورقة بين جبهتي وحافة الطاقية التي كانت تغطي رأسي‏.‏ أمسك بيدي اليمني‏,‏ فرد كفها وملس عليه عدة مرات في كل مرة تمر يده علي دخان البخور‏.‏ قال لي‏:‏ إثبت وكن قوي الأعصاب حتي لا يتدلدق الفنجان علي يدك‏.‏ ثم وضع الفنجان بحرص وتؤدة وقال لي‏:‏ عليك أن تركز النظر في قلب الفنجان وتصف لنا ما سوف تراه‏.‏ فاقشعر بدني ورحت أقاوم الرعشة في يدي‏.‏ ولكن بما أنني فضولي بطبعي‏,‏ ولي شغف عارم لرؤية ما يقال أنني سأراه‏,‏ لذا فقد استغرقني التحديق في قلب الفنجان وأنا في قمة التحفز والتركيز واشتعال الخيال‏.‏

المزيد من مقالات خيري شلبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.