لم نسم الصدفة باسمها، إلا لجهلنا بسرها، الذى نكتشفه بعد حين، ونعجب من مغزاها، الذى ربما يغير مسار حياتنا، ويرفع حجبا ثقيلة لا نحس بوطأتها إلا بعد إزاحتها، ومن الصدف، التى ليست صدفة، ولكنها وعد ربانى جميل، أن التقيت بالفنانة (مديحة يسرى) ولن ألقبها بالكبيرة أو الأصيلة أو الجليلة، فهى أكثر من ذلك، وعندما تعجز الكلمات عن الوصف، فنكتفى بالأصل، ونترك لكل شخص حرية المخيلة، لإضفاء ما يجود عليه حدسه وإدراكه من توصيف يليق بذوقها. صدفة اللقاء بالفنانة الجميلة دائما وأبدا، جاءت على غير ترتيب وإعداد لا منها ولا منى فرأيتها من سنوات على حقيقتها، عندما جاءت إلى الأهرام لتقضى بعض شئون الجمعية الخيرية، التى تتولى إدارتها لرعاية كبار السن من الفنانين، ممن لا يجدون عائلا لهم، إلا أصحاب القلوب العامرة بالخير من أمثال فنانتنا، أخذتنى من أول وهلة لتأمل شخصيتها ومعالمها الإنسانية الفياضة، لا لرؤية سمراء النيل شكلا، بل رؤية درة النيل موضوعا! طاقة الحب داخلها غمرتني، فألزمتنى الصمت، إلا بكلمات قليلة تسأل عن غوامض تكشفها لى نورانيتها الجزلة، عن الفن ورسالته الإلهية، لكشف الحقائق الإلهية للبشر فى كل حين، وعن حياتها المجاهدة لفعل الخير، استفدت من ميزتى الوحيدة فى حسن الإنصات، لأسمع ما تقوله، وماوراء ما تقوله هذه الفنانة النادرة، التى وصلنى منها ما وصلنى من معان سامية وراقية تشكلت عبر تاريخ طويل عاشته فى هذا البلد، فجسدت أعظم ما فيه من حضارة إنسانية وإيمان بقيمة الحب فى بناء الفرد والمجتمع، فما لمسته فيها من عناوين الحب الإلهي، أهمها التواضع الجميل، فمع كل ما لها من تاريخ حافل، إلا أنها كللته بالتواضع السامى الطاهر الذى وصفه الرسول الكريم ([) بأن الشرف التواضع، والمتواضعون فى الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة، وإذا تواضع عبد رفعه الله إلى السماء السابعة. التواضع الرفيع الذى تتمتع به من فصيلة تواضع أولياء الله الصالحين الخالى من الادعاء الذى قال عنه (ابن عطاء السكندرى) فى حكمة بقوله: من أثبت لنفسه تواضعا، فهو المتكبر حقا، إذ ليس التواضع إلا عن رفعة، فمتى أثبت لنفسك رفعة فأنت المتكبر حقا. فهو يرى أن من خطر بباله إنه متواضع، فقد أثبت لنفسه رفعة تنازل عنها بتواضعه! وذلك عين التكبر! لأنك جعلت لنفسك قدرا زائدا عن خلق الله، هذا النوع من الخصال النورانية هو ما تخلقت به فنانتنا وهو سر بقائها عبر أجيال عدة سابقة، وربما أجيال عديدة لاحقة مؤثرة فيها لأن سيرتها الفنية والشخصية خالية من «العجب» ووهم الكمال، والقبض على الحقيقة المطلقة، فى ادعاء معرفة الحق والباطل أو الخير والشر أو الصح والخطأ أو الحلال والحرام وهو المرض الأيديولوجى، الذى أصاب مجتمعنا عبر أجيال، فظهرت نماذج عجيبة معجبة بنفسها إلى حد المرض، وتفشى هذا المرض بانتشار الفضائيات، التى نشرت مثل هذه التشوهات الفكرية عن جهل أو غرض, فصدق رسول الله ([) عندما قال: لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك.. العجب فليت الجميع يدرك أن ليس بعد الغرور ذنب وهو سبب كل بلاوينا..! لا أعتقد أن صفاء نفس فنانتنا يرجع لزواجها من شيخ مشايخ الحامدية الشاذلية الصوفية الشيخ (إبراهيم سلامة الراضى)، وإن كان بلا شك له تأثير عليها، فقد عزز ثقتها فى طريقها فى الحياة، فلم يعترض على فنها، ولم يفرض عليها زيا أو قيودا خارجة عن إرادتها، فاشتركا فى طريق السالكين لطريق الكمال، فتلمسا طريق المحبة الإلهية وعشق الجمال مظهرا وباطنا، فمظاهر الجمال كلها تجليات لله سبحانه وتعالي،أصل الحب والجمال، فكان زواجهما لقاء لطرق مختلفة التقت على الحب الإلهي، فشرب كلاهما من نفس الكأس للوصول لأرقى المعانى، التى تحكم حياتنا لتذوق الحب الإلهى من مدامة العشاق. حيث خمر الحب الإلهى لعشاق وجه الله! مدامة العشاق تمتد فى التاريخ المصرى الروحى عبر أجيال بعيدة عرفت العشق الإلهى بطرق دينية وفكرية مختلفة، ولكنها تذوقته، ومن ذاق عرف ومن يمثله كثيرون لا نعرفهم، وقليلون نعرفهم بالصدفة، ولكن لحكمة من الله، لنشاهد بالعين الحاملين للمنحة الإلهية، بالكشف لهم عن النور الربانى، الذى ينفر من الزيف والتضليل والقبح والغرور، ويسعى إلى النور والحقيقة الإلهية، فيجتهد بالإحسان وتصفية النفس والإخلاص للقيم النبيلة، بلا ادعاء أو فخر أو تعال، ولا يكفون عن شرب مدام المحبة الأزلية، وهو المدام الذى أخرج (مديحة يسرى) وأقرانها من نخبة الزمن الجميل ليساندوا الشعب المصرى فى ثورة (30 يونيو)، كثورة على الكره والبغض والغرور والإرهاب، وكل ما يغضب الله، لنكون قوما يحبهم الله ويحبونه. مدامة العشاق أنقذت مصر من وهدة الإرهاب، فخرج عشاق الحب الإلهى من ذاقوا المعانى النورانية، فعرفوا، فشكروا، وشرح الله صدورهم لما يحب ويرضى، فهتكت (فاتن حمامة) أستار العزلة الاختيارية لتعطينا قبلة الحياة وتزرع فسيلة الحب والأمل، وكانت تتصور كما قالت لى فى لقاء بالصدفة أيضا، فى آخر احتفال بالأوبرا بعيد ميلاد الراحل (محمد عبد الوهاب)، فقالت: أن جيلنا كبر ولم يعد لديه ما يعطيه، فتوجهوا إلى الشباب من الأجيال الجديدة. ولكن عطاءها لا يذبل ولا ينتهى فهى وجيلها مازالوا يرشدوننا إلى طريق الذوق.. وهو لو تعلمون عظيم. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم.. إن التشبه بالكرام فلاح، بالفهم والتواضع قد ننجح حتى لا يخرج الذوق من مصر!! لمزيد من مقالات وفاء محمود