كثير من الباحثين الذين قرأوا او أتيحت لهم فرصة التعرف على تجربة اليابان عن قرب اجتهدوا وقدموا العديد من الأفكار فى مقدمة هؤلاء الراحل الدكتور رءوف عباس والدكتور محمود عبد الفضيل و نجم الدين الثاقب خان سفير باكستان الأسبق فى طوكيو وكونيو كاتاكورا سفير اليابان الأسبق فى مصر وغيرهم ممن لهم إسهامات فى هذا الصدد. والحقيقة ان كل من يتعرف على إمكانيات اليابان لابد أن يصاب بالدهشة إذ كيف لدولة أن تحقق مثل هذا التقدم المبهر وليس لديها من الموارد الطبيعية إلا ما ندر وتشهد زلازل كل يوم بلا ادنى مبالغة وبراكين وعواصف هوجاء صيفا وشتاء، كما أنها بلد صغير جغرافيا حيث لا تزيد مساحتها الإجمالية على 377,930 ألف كيلومتر مربع اى نحو ثلث مساحة مصر فضلا عن أن 71% من تلك المساحة عبارة عن جبال وغابات لا تسكن ولاٌ تزرع، ويعيش اليابانيون ويزرعون نحو 29% فقط من تلك المساحة بالإضافة إلى إنها عبارة عن مجموعة من الجزر المتناثرة فى المحيط ولا يتوقف هطول الأمطار صيفا او شتاء! وبالرغم من ذلك تحدى الإنسان اليابانى تلك الطبيعة القاسية حتى أصبحت بلده قوة اقتصادية وصناعية عالمية. والواقع انه منذ خرجت اليابان مع منتصف القرن ال 19 من عزلتها عن العالم التى استمرت نحو 240 عاما وقد اختارت إستراتيجية واضحة مع إصلاحات عصر الميجى 1868 رسخت خلال ال 150 عاما الماضية وهى ان تتعلم من الغرب لا من الشرق هذه المرة وقد قرأت الكثير عن الجدل الذى دار بين المفكرين من رواد التنوير فى اليابان مع مطلع القرن ال 19 عن الطريق الأفضل الذى يتعين على اليابان ان تمضى فيه من اجل ادراك التقدم. وكان رأى الاغلبية من هؤلاء المفكرين مع توجه اليابان الى الاستفادة من تقدم الغرب إذ أن اليابان تعلمت الكثير من حضارة الصين فى الماضى ولم يعد لدى الشرق ما يفيد اليابان بل انه غارق فى سبات التخلف ، ولكن الغرب لديه الآن أسباب القوة والتقدم .. ويتمتع بتقدم صناعى لم تعرفه اليابان او آسيا بعد وإذا لم نتعلم منه ونلحق به تحولنا الى دولة محتلة مثل الدول الآسيوية الأخرى هكذا كتب يوكواتشى فوكوزاوا احد ابرز مفكرى القرن ال19 واحد صناع نهضة اليابان الحديثة. وكان رأى الاقلية وهو ما يجب علينا فى مصر ان نفكر فيه مليا- ان اليابان بلد اسيوى شرقى ينبغى ان يحافظ على نفسه ومنظومة قيمه التى يمكن ان تدمرها الثقافة الغربية او الاستعانة بوسائل الغرب فى التقدم! غير أن التيار الغالب آنذاك كان مع التعلم من الغرب واللحق به حتى ان كثيرا من أنصار هذا التيار كانوا يرفضون القول إن اليابان بلد اسيوى آو شرقي. واحد ابرز أسرار تقد م اليابان هو إدراكها كدولة إنها شحيحة الموارد الطبيعية كثيرة البشر وان الإنسان هو محور وأساس التقدم ، واعتبرت الدولة اليابانية منذ عقود طويلة أن الموارد البشرية هى سلاحها ووقودها إلى التقدم الذى تصبو اليه وان تعليم هؤلاء البشر هو المهمة الرئيسية التى للدولة ان تعول عليها. ومع إصلاحات عصر الميجى فى 1868 دشنت اليابان اكبر حملة فى التاريخ آنذاك للتعلم من الغرب إذ أرسلت عشرات البعثات التعليمية إلى دول أوروبا المختلفة المتقدمة فى هذا الوقت ومثلها إلى الولاياتالمتحدة لنقل أساليب ومناهج التعليم ونقل خبرات تلك الدول وكل ما يمكن أن تستفيد منه اليابان. وهنا أتذكر ما كتبه العظيم توفيق الحكيم فى مذكراته عن فرنسا حيث عاش عدة سنوات وقوله انه كان يسكن فى الشقة المقابلة له شخص يابانى لاحظ الحكيم انه يذهب إلى المكتبة العامة فى باريس مرة كل أسبوع حاملا كتابا ما، فلفت الأمر نظر الحكيم واستوقفه وسأله كان رد اليابانى مفاجئا ومدهشا للحكيم حيث قال له انه مهندس أرسلته الحكومة اليابانية وتحملت تكاليف إقامته فى باريس لمدة عام على أن يترجم كل أسبوع كتابا فى الهندسة والتقدم الصناعى إلى اللغة اليابانية ويرسله الى اليابان مع اى تقرير يرى انه يحمل معلومات مفيدة لتقدم اليابان. وكل مولود جديد فى اليابان يعد ابن الدولة وليس ابنا لأبيه أو أمه البيولوجيين ، فالدولة هى التى تعلمه وتربيه وتكتشف مواهبه فى السنوات المبكرة وتميزه ونبوغه فى مجال ما ويتم توجيهه إليه، ويقضى الطفل الصغير أو طالب الثانوى فى المدرسة وقتا أطول مما يقضيه فى منزله ويعد المدرس فعليا بمثابة ولى أمره ويرعاه بكل أمانة ويدون ملاحظات يومية عنه، مع متابعة من الآباء وزيارات أسبوعية على الأقل للمدرسة. والتدريب جزء مكمل للتعليم، ولكن الأمر فى اليابان جدى للغاية، فكل موظف أو عامل جديد فى شركة أو مؤسسة أو وزارة هو عبارة عن صبى يتعلم من الكبار ولابد ان يسمع كلامهم أكثر مما يناقشهم، ومن مهام الكبار تعليم هذا الصبى الجديد الذى يدخل المهنة ويوجه اللوم دائما إلى الكبار إذا اخطأ الموظف الصغير أو الجديد لأنهم لم يحسنوا تدريبه وتعليمه! وفى كل شركة أو مؤسسة ومهنة فى اليابان كتاب ارشادات، حتى المقاهى والمطاعم وليس المصانع والشركات فقط . وعلى سبيل المثال، فان العامل الجديد فى شركة للسيارات يمضى عامه الأول فى التدريب والتعلم ويحفظ كتاب التدريب الخاص بالشركة ولا يتم تكليفه باى مهام رسمية ، ثم يعلمه العمال الاقدم كل ما يحتاجه وهى احدى مسئولياتهم، ومثله العامل فى مقهى اومطعم او حتى فى وزارة الخارجية او غيرها. وفى كل مكان عمل فى اليابان خاصة تلك التى تقدم خدمات عامة للجمهور مثل مجمع التحرير لدى كل موظف كتاب مرشد يعود إليه فى حال واجهته مشكلة جديدة ثم يعود إلى رؤسائه ويتشاور مع زملائه الأقدم منه قبل أن يتخذ قرارا ما لأنه سوف يتحمل مسئولية هذا القرار ويحاسب عليه إذا كان خطأ.