أحدث نجاح اليابان الباهر في هزيمة روسيا القيصرية في حرب الشرق الأقصي عام1905, وقبلها الانتصار علي إمبراطورية آسيوية كبيرة هي الصين عام1895 م صعقة وانبهارا كبيرين بين شعوب وأمم الشرق جميعا, وكان العرب والمسلمون علي رأسهم. إذ كيف استطاعت اليابان, وهي ذاك البلد الصغير المتخلف والمنتمي للجنس الأصفر, الانتصار علي إمبراطورية أوروبية بيضاءعظيمة وكبيرة هي روسيا, التي كانت تهدد بشكل يومي تقريبا دولة الإسلام وخلافة بني عثمان؟! لقد وجد السياسي والزعيم المصري' مصطفي كامل' الوقت الكافي, علي الرغم من مشاغله الكثيرة, لتأليف كتاب في الموضوع بعنوان'كفاح اليابان ضد روسيا واستلهم المفكر الجزائري مالك بن نبي أفكارا جريئة من تلك الحرب, فقارن بين عرب قاربوا الحضارة الأوروبية كمستهلكين ويابانيين قاربوها كطلاب علم, فهم استوردوا الأفكار ونحن اكتفينا باستيراد الأشياء. ولم يكن الاهتمام باليابان, الذي ملأ صفحات الجرائد والصحف العربية لسنوات طويلة, بعد عام1905, إلا صورة ورجع صدي للتساؤل الأساسي والعميق الذي شغل عرب النهضة حول ضعف كيانهم وقوة الأمم الأخري. وهو تساؤل كان تعبيره الأكثر شهرة في الكتاب الواسع الانتشار الذي وقعه الأمير شكيب أرسلان, في عام1939, بعنوان واضح بما فيه الكفاية: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟! لقد شهدت مصر في عهد' محمد علي' نهضة في مختلف المجالات, إذ حاول بناء دولة عصرية علي غرار الدول الأوروبية واستدعي الخبراء الايطاليين والفرنسيين لتطوير الجيش والزراعة والصناعة, ونجح بالفعل بإحداث نقلة تنموية كبيرة جعلت مصر من أقوي دول الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن التاسع عشر, حتي أن اليابان نفسها أرسلت, بعد بداية حكم الميجي عام1868, البعثات إلي مصر للوقوف علي أسباب تقدمها ونهضتها, التي فاقت الكثير من الدول الأوربية حينذاك. لكن التساؤل حول لماذا نهضت اليابان وتراجعت مصر أو انتكست نهضتها, ظل قائما, خاصة أن اليابان أيضا نكأت الجرح مرة أخري بأن أفاقت من كبوتها وهزيمتها المروعة عقب الحرب العالمية الثانية, وما برحت تقدم نموذجا حيا لطائر العنقاء الذي ينتفض حيا من بين الركام, وقدمت معجزة اقتصادية باهرة في سبعينات وثمانينات القرن العشرين. الكثيرون أجابوا عن هذا التساؤل انطلاقا من نظرية المؤامرة والاستهداف الدائم للأمة العربية والإسلامية من جانب الغرب, في حين أجاب آخرون انطلاقا من المحددات الجيو- سياسية مثل محمد حسنين هيكل في كتابه' زيارة جديدة للتاريخ', وجلال أمين في كتابه' المشرق العربي والغرب' فإن فشل مصر ونجاح اليابان في التحديث والتصنيع والتطور, مرده إلي حد كبير إلي عزلة اليابان النسبية شرقا علي أطراف العالم, من حيث الموقع الجغرافي, ورغبة' الحوت البريطاني' في مناكفة' الفيل الروسي' في الشرق الآسيوي, عبر دعم اليابان, ضمن سياسة' توازن القوي' الأوربية الشهيرة طوال القرن التاسع عشر, وهو ما كرره' الفهد الأميركي' بإعادة بعث اليابان لموازنة' الدب الروسي' ضمن توازنات الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين. في المقابل, فإن موقع مصر والعرب ومركزيتها الجغرافية في قلب العالم خاصة بعد حفر قناة السويس وظهور البترول أفقدتها أسباب المناعة في مواجهة القوي الأوروبية, القريبة والمتربصة, وليس هذا بالأمر الجديد, إذ أنه من المسلم به أن الأهمية الإستراتيجية لدولة أو منطقة ما تشكل لها, إن كانت علي غير قوة خصوصا, مصدر إضعاف لا مصدر تقوية, وذلك أن يكون لديها من الموارد أو الميزات ما يثير جشع الدول الأخري واهتمامها, ودون أن تجد المقدرة علي الاستفادة الذاتية منها أو حمايتها بصورة فاعلة. لكن هناك آخرين أجابوا عن التساؤل انطلاقا من الثقافة, وإن تباينت مرجعيتهم الفكرية والدينية, فإن الداعية المصري الراحل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه' سر تأخر العرب والمسلمين' الصادر في عام1985, أرجع تخلف العرب والمسلمين الحضاري إلي سببين: الأول ثانوي وهو تغلب طبائع البدو علي تعاليم الإسلام, فإن البدو يكرهون الحرف, ويزدرون الصنائع, ويترفعون علي الزراعة, ويرون في التجارة وضاعة ومهانة. والسبب الثاني جوهري وهو شيوع التدين المزيف, ووقوع الثقافة الدينية إجمالا بين: صوفية زاهدة تدعو إلي الكسل والتواكل, وترجو الحياة' الجيدة' في جنة الآخرة, أو سلفية جامدة تدعي تفوقا أخلاقيا وثقافيا, بل ودينيا وحضاريا, علي الطوائف والأديان, والثقافات والحضارات الأخري. وفي الفترة ذاتها تقريبا, لمس الإجابة نفسها المفكر اللبناني شارل عيساوي, ففي مقال تحت عنوان مثير' لماذا اليابان؟' كتبه عام1983, وضمنه كتابه' تأملات في التاريخ العربي', الصادر في أوائل عام1991, قدم عيساوي إجابة مفادها أن اليابان هي أفضل مثال للعصبية الخلدونية النشطة والناجحة, ولكن اليابانيين استطاعوا المحافظة علي شعور مزدوج من التفوق الأخلاقي والتأخر الثقافي إزاء الغرب, بينما جمع العرب والمسلمون بين شعور بالتفوق الأخلاقي وشعور, خاطئ, بالتفوق الثقافي أيضا. هذا الشعور الخاطئ أدي, برأي عيساوي, إلي انعدام' روح الحشرية' أو' حب الاستطلاع' عند العرب والمسلمين إزاء الثقافات الأخري, وهي روح ضرورية لاكتساب المعارف والتقنيات. وفي المرحلة الحالية, خاصة بعد' الربيع العربي', والذي يعتبره البعض' ربيعا سلفيا' بامتياز, والتي تتميز بالعودة إلي الشعارات الدينية السلفية إلي حد كبير تتضمن ابتعادا عن الدواء الذي يصفه عيساوي لا اقترابا منه, إذ إن التأكيد علي تفوق الحضارة الإسلامية الثقافي/ الديني لم يتردد في أصداء المنطقة بقدر ما يتردد اليوم و'روح الحشرية' أو' حب الاستطلاع' التي بحث عنها عيساوي عند العرب, من دون جدوي, تبدو أيديولوجيا أضعف من أي وقت مضي, فلماذا النظر إلي الآخرين والأجوبة علي مشاكلنا موجودة في كتابنا وثقافتنا؟ أليس الاهتمام بثقافات الآخرين هو بالذات سبب مصائبنا, كما يقول السلفيون؟! التواضع الأخلاقي إزاء الثقافات الأخري شرط النهضة, لأنه ضروري لاكتساب المعارف والتقنيات. أما إدعاء التفوق الأخلاقي فيفقد الأمة' حب الاستطلاع' ويقودها إلي الإنغلاق. لمزيد من مقالات احمد دياب