أدخل العدوان على غزّة، الغرب فى حرج سياسى ومأزق أخلاقى كبيرين. فقد وضع العدوان، قيم الغرب الخاصة بالحرية، والسلام، وحقوق الإنسان والجماعات؛ فى اختبار حقيقى على أرض الواقع والممارسة. وظل الصمت المتواطئ واللامبالاة هما مخرج الغرب من الحرج. وجاء الموقف من اللاجئين المسيحيين العراقيين، مؤكدا تهمة ازدواجية المعايير التى يقع فيها الغرب. يذهب بنا هذا الوضع إلى أبعد من المواقف السياسية والدبلوماسية الغربية، إلى مسألة تطور الحضارة الغربية ومدى ارتكازها فعليا على القيم التى تبشر بها. خاصة وقد جاءت فكرة صراع الحضارات من مفكر غربى تنبأ بتراجع كل الحضارات الأخرى على منافسة صعود الحضارة الغربية وإمكاناتها لقيادة البشرية التى لابد أن تتبنى التصور الغربى للعالم والقيم الناتجة عنه. وأعلن مفكر غربى آخر نهاية التاريخ، ليبدأ تاريخ انتصار الليبرالية والسوق الحرة والديمقراطية الغربية. وقد كانت مجريات الأحداث مع نهاية ثمانينيات القرن الماضى، توحى بصحة هذه التوقعات. فقد تفكك الاتحاد السوفيتى، والمعسكر الاشتراكى، وانهار حائط برلين بكل رمزيته. وظهر الغرب فى حالة زهو بالانتصار الذى كان أسهل وأسرع من توقعاتهم وبلا حرب نووية. وبدأ الحديث عن عالم يسيطر عليه قطب واحد من غير منازع أو قوة على كوكب الأرض، وهو أمريكا. اثبتت التطورات العالمية الأخيرة، تهافت هذه المقولات على كل المستويات: الاستراتيجية، والسياسية، والفكرية، والحضارية. فقد كان من أهم مظاهر خيبة هذه التوقعات تراجع الدور الأمريكى، اقتصاديا واستراتيجيا. فقد تعرضت أمريكا والغرب لأزمة اقتصادية حادة، مما جعل البعض يؤرخ بعام 2008م لما يسمى الانهيار المالى الغربي. وشهدت الفترة التالية تغيرا حقيقيا فى العالم الغربى ومن أهم مظاهره تعاظم الدور الألمانى بسبب قوة اقتصادها المذهلة. أما على المستوى الاستراتيجي، فقد كانت أمريكا تفخر بدور شرطى العالم وقدرتها على ترتيب خريطة العالم السياسية حسب رغباتها ومصالحها. وقد قامت بتدخلات مفصلية على مستوى العالم بدءا من الإطاحة بمصدق فى إيران، ثم لومومبا فى الكونغو، ثم أليندى فى شيلي. وأخيرا كان العجز فى سوريا واستعصاء(الأسد). وفى حقيقة الأمر، من الواضح أن أمريكا قد قدّرت جيدا الكلفة العالية للتدخل، وهى تتجه فى هدوء نحو عزلة مجيدة واقعية تتناسب مع تراجع دورها. خفت الحماس لانتصار الليبرالية، ونهاية التاريخ، والقطب الواحد المطلق. فقد شرعت دوائر أخرى فى اجتراح تاريخ آخر مختلف تماما ومتناقض مع الرؤية الغربية بكاملها. وفى البداية، سارع الغرب باختراع الخطر الأخضر أى الإسلام؛ بديلا للخطر الأحمر أى الشيوعية. وعادت روسيا خطرا وعدوا بلا شيوعية، ولكن بما اكتسب مصطلح:البوتينية نسبة لبوتين. وهى إرهاصات لايديولوجية معادية للغرب تجد صداها فى مناطق اخرى خارج روسيا. ويعتبر الصراع حول اوكرانيا من تجليات الأيديولوجية الجديدة، ولكن كثيرا من المحللين يرون فى المجر تحت حكم فيكتور أوربان هى أفضل تجسيد للبوتينية خارج روسيا. يتميز الرئيس المجرى (أوربان) بمحاولته الصريحة التعبير عن مكونات البوتينية السياسية والفكرية. ففى خطاب له فى نهاية شهر يوليو الماضي، أعلن أن بلده مصمم على بناء نموذج سياسى جديد أطلق عليه اسم: ديمقراطية غير ليبرالية. وأضاف بأن الموضوع الأكثر شعبية فى التفكير هذه الأيام هو كيف تنتج المجتمعات بطريقتها الخاصة، نماذجها المحددة. وهى ليست بالضرورة غربية، ولا ليبرالية، ولا ديمقراطية ليبرالية، ولا حتى ديمقراطية. وفى الوقت نفسه، يؤكد تراجع القوة الأمريكية، ويهاجم القيم الليبرالية التى حملت الفساد، والجنس والعنف. (صحيفة الأندبندنت اللندنية 3 أغسطس 2014). أما العناصر المحورية فى البوتينية أو الخيار اللاليبرالى فهي: القومية، والدين، والمحافظة الاجتماعية، ورأسمالية الدولة، وسيطرة حكومية على الإعلام. وتقول الصحيفة نفسها أن (أوربان) سار على خطى (بوتين) من حيث تخريب استقلالية القضاء، والحد من الحريات الشخصية، اللغة القومية، والتضييق على الصحف بوسائل ضبط وقمع متطورة أكثر من الرقابة التقليدية. ويشتمل هذا النموذج حاليا ومستقبلا ، دولا مثل روسيا، تركيا، الصين، سنغافورة، والهند. وتتميز كلها بأنها مختلفة ومعادية للقيم الغربية خاصة تلك المتعلقة بالحريات،وتجاوز القومية. وهنا يمكن أن تندرج كثير من الجماعات والايديولوجيات الإسلامية المعاصرة، ولكن من خلال مقاربات ومنطلقة مغايرة تماما رغم الالتقاء فى رفض الغرب. على المستوى الفكرى والفلسفى مهدت أفكار مابعد الحداثة التى تسيطر الآن على الفكر الغربى نفسه، فى عملية إضعاف مرجعية الحضارة الغربية من خلال تقليلها من صرامة عقلانية عصر التنوير وإعطاء العقل سلطة مطلقة فى المعرفة. ومن ناحية أخري، صارت النسبية هى المطلق الوحيد!فهناك نسبية مفتوحة لكل الخيارات والاختيارات وحسب هذا الفهم، فكل المواقف والآراء غير خاطئة بصورة كاملة. ومن مظاهر هذه النسبية الطاغية، طريقة تعامل الدول الغربية مع الممارسة الديمقراطية فى دول العالم الثالث. فهى تتجاوز عن الانتهاكات التى تشوب عملية الانتخابات بسبب الفصل بين المعايير الدولية المطبقة فيها مقابل مراعاة ظروف تلك البلدان التى اتت حديثا للديمقراطية. ففى كثير من الأحيان، تتحدث المنظمات المراقبة للانتخابات فى تلك الدول عن خروقات كبيرة ولكن يمكن تجاوزها مراعاة لمستوى تطور ذلك البلد. ومثل هذه التنازلات تضر كثيرا بالمرجعية الحضارية التى يدعيها الغرب. لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على