بعد اسابيع من تولى د.غالى منصبه فى يناير 1992اندلعت الازمة الاولى بطرد اسرائيل لاكثر من 400 فلسطينى واخراجهم من ارضهم قصراً، فكانت انتفاضة فلسطينية ورد فعل عربى ودولى غاضب، وكلف مجلس الامن الامين العام بايفاد مبعوث للتباحث مع الحكومة الاسرائيلية بهدف إعادة المبعدين، وتقديم تقرير للمجلس بالنتائج. وبالفعل تم إيفاد وكيل الامين العام للشئون السياسية، الا ان مهمته فشلت إزاء رفض اسرائيل التراجع عن قرارها. فقرر د.غالى إيفاد مبعوثا ثانيا كان مستشاره لشئون مجلس الامن فلم يكن افضل حظا من سابقه بسبب صلف تل ابيب وتحديها المتكرر للمجتمع الدولي. وفى اجتماع عقده د.غالى مع كبار مساعديه، وبحضور المبعوثين، لمناقشة التقرير الذى سيرفعه الى المجلس طلب د.غالى اضافة توصية تحث المجلس على الاضطلاع بمهامه فى الحفاظ على الامن والسلم الدوليين، واتخاذ الاجراءات الضرورية فى هذا الصدد ، فاذا بالحاضرين الذين اصابهم الذهول يراجعونه موضحين ان لمثل هذه التوصية تبعات خطيرة. فتسأل د.غالى أليست اسرائيل دولة عضو فى الاممالمتحدة، وعليها التزامات وفقا للميثاق كأى دولة اخري؟ وكان سبب ذهول الحضور مما طلبه د.غالي. ان العبارة التى طلب تضمينها تعنى فى مفردات قرارات مجلس الامن تطبيق الفصل السابع من الميثاق بجواز استخدام القوة. وكان لسان حال الحضور هو من هذا القادم الجديد الذى يجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة؟!! وانطلقت الضغوط من كل صوب، واصر د.غالى على رأيه، وارسل بالفعل خطابه الى رئيس مجلس الامن متضمناً توصيته غير المسبوقة فى تاريخ مجلس الامن لاتخاذ ما يلزم. فقامت الدنيا ولم تقعد، ودارت آلة الضغوط الصهيونية والامريكية على رئاسة المجلس فماذا كانت النتيجة؟ اختفى خطاب الامين العام وتقريره ولم يعرضا على المجلس الى يومنا هذا! ولم يتخذ اى اجراء ضد اسرائيل مثلما يحدث الآن. أما الازمة الاخرى الكاشفة فكانت عام 1996 أى في مرحلة قاربت فيها فترة السنوات الخمس للأمين العام على الانتهاء، واستعداده للترشح لفترة ثانية كمن سبقوه فى المنصب. ففى بداية صيف 1996 شنت إسرائيل عدواناً وحشياً على جنوبلبنان وتحديداً على مخيم «قانا»، والذى عرف فيما بعد بمذبحة قانا الأولي. وكان د.غالى قد كلف مستشاره العسكرى الهولندى بإعداد تقرير عن العدوان الذى شهد قصفاً اسرائيلياً لمقر وحدة «فيجي» التابعة لقوة الأممالمتحدة لحفظ السلام فى لبنان (اليونيفيل)، ومخيم قانا للاجئين من المدنيين الذين احتموا بها، مما أسفر عن مقتل 106 مدنيين معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. ولا تزال مشاهد أشلاء الأطفال الرضع الذين تطايرت رؤوسهم وأجسادهم ماثلة فى أذهان وذاكرة كل من عاصروا تلك الفترة الحزينة، فماذا حدث وقتها؟ أعد المستشار العسكرى وفريقه تقريره بناءً على التحقيق الميداني، والتحليق والتصوير الجوي، وشهادات الضحايا من المصابين وشهود العيان، وخلص التقرير إلى إدانة الحكومة الإسرائيلية بإصدارها التعليمات إلي جيشها بقصف المخيم، وانه لا يمكن الإدعاء بأن القصف وقع بطريق الخطأ. وفى مثل هذه الحالات يرفع فريق التحقيق التقرير إلى الأمين العام ليقوم بدوره بإحالته إلى مجلس الأمن مع ما يقترحه من إجراءات وتوصيات. ومن المعتاد عقد اجتماع مع الطاقم المختص بالموضوع فى السكرتارية، وكان بين المشاركين فى الاجتماع الذى دعا إليه د.غالي، مساعده لشئون حفظ السلام، والمستشار العسكرى الذى رأس فريق التحقيق، ونائبه الكندي ومدير مكتب الأمين العام ومستشاره السياسي. وكنت المسئولة عن توثيق ما دار فى الاجتماع. طلب د.غالى من المستشار العسكرى عرض نتائج التقرير، ثم سأله إن كانت لديه شكوك فى النتائج التى توصلوا إليها، فكان رده بالنفى مؤكداً مسئوليةإسرائيل عن العدوان وضحاياه، فضلاً عن قصفها المباشر لقوة تابعة للأمم المتحدة، وما يعنيه ذلك من خرق صريح للقانون الدولى والقانون الدولى الإنساني. وعندما جاء دور مساعدى د.غالى لإبداء الرأى كان الاتجاه هو أن التقرير بما يتضمن من خلاصة سوف يسبب أزمة مع أطراف عديدة، فى إشارة إلى واشنطن وتل ابيب، وأنه فى ذلك التوقيت فإنه يفضل تجنب مثل هذه المواجهة، فى إشارة الى قرب تقدم د.غالى بإعادة الترشح وكان الاقتراح بإعداد صياغة مختلفة للجزء الخاص بالاستخلاصات ونتائج التقرير وتوصياته لا تتضمن إدانة لإسرائيل أومسئوليتها عن مذبحة قانا . وهنا إتضحت للأمين العام رسالة التهديد والإملاءات الواردة من واشنطن وتل ابيب، وتواطأ بعض موظفى الاممالمتحدة الذين زرعوا فى معظم اداراتها ومكاتبها ليكونوا عيونا تنقل كل ما يتعلق باسرائيل حتى قبل ان يصل او يخرج من مكتب الامين العام ذاته. وللتاريخ أقول أننى لن أنسى رد فعل دغالي وبانفعال بالغ وحسم قاطع، يرفض رفضاً باتاً، ومهما كانت التبعات، تغيير حرف واحد فى تقرير فريق التحقيق، مضيفاً أن للأمم المتحدة مصداقية يتحتم الحفاظ عليها، وأنه اقسم على ذلك ، وإذا كان مساعدوه ليست لديهم الشجاعة الكافية لتحمل المسئولية معه، فإنه يتحملها وحده، وأصدر تعليماته بأن يتم فوراً إعداد خطاب إحالة تقرير فريق التحقيق الى مجلس الأمن، كما ورد إليه دون تغيير حرف واحد، وسط ذهول وعدم تصديق الحضور بأن دغالي وهو يتقدم لولاية ثانية، يقرر اتخاذ موقف يدخله فى مواجهة تصادمية عنيفة مع واشنطن القادرة من خلال حق الفيتو أن تمنع انتخابه لفترة ثانية، وهو ما حدث بالفعل عقاباً له على تجرئه بمخالفة تعليمات السفيرة «مادلين أولبرايت» حيث تم نشر التقرير كاملاً كوثيقة تاريخية رسمية من وثائق الأممالمتحدة. وكان هذا الموقف هو ما وصل بسنوات خمس من التوتر فى العلاقة بين امين عام يسعى للحفاظ على مصداقية المنظمة، وبين دولة عضو اصبحت مع بداية الالفية الثانية القوة المهيمنة الوحيدة فى العالم تريد الاممالمتحدة امتدادا لوزارة خارجيتها، وامينها العام موظفاً عليه تنفيذ التعليمات. ويومها كان القرار الأمريكى بأن د.غالى لن يحصل على فترة ثانية، وسخرت واشنطن كل إمكانايتها الدبلوماسية لذلك، حتى بعد أن فشلت إغراءاتها فى منع تأييد القادة الأفارقة له ليكون مرشح القارة لولاية ثانية أسوة بالسوابق، عندما اجمعت قمة ياوندى فى الكاميرون يونيو 1996 علي ترشيح د.غالي، وهو ما مثل صدمة كبيرة للجهود الامريكية التى كانت تهدف الى ان يتم ابعاده بقرار افريقي. واستمرت الضغوط والمساومات والاغراءات من كل نوع، ومع ذلك كانت كافة المعلومات تشير الى ان جميع اعضاء مجلس الامن باستثناء الولاياتالمتحدة يؤيدون التجديد، واصبح معروفاً ان واشنطن ستلجأ الى استخدام الڤيتو. وأذكر أن السفيرة «أولبرايت» راهنت على نجاحها فى إقصاء د.غالي، وأعلنت انها سوف تحتفل بمغادرته المنصب، بأدائها رقصة الماكارينا الشهيرة داخل قاعة مجلس الأمن، وهو ما قامت به بالفعل يوم 14 نوفمبر 1996 عندما تم التصويت على إعادة انتخاب د.غالى فحصل على 14 صوتاً لصالحه، من إجمالى 15 صوتاً هم أعضاء المجلس، وكان الصوت المعترض باستخدام حق الفيتو هى الولاياتالمتحدة. غادر د.غالى مبنى الأممالمتحدة، وغادرت معه-برغم عرض مغر لى بالاستمرار مع الطاقم الجديد- مرفوعى الرأس. وكنت دائماً أقول له، ومازلت، أن له أن يفخر، ومعه كل من ينتمون إلى العالم النامي، بأنه وصل إلى المنصب بتأييد 11 دولة من أعضاء مجلس الأمن، وخرج و14 دولة تؤيد بقاؤه لفترة ثانية، وهو أكبر دليل على نجاحه، وان واشنطن باستخدامها الفيتو قد قلدته أكبر وسام يشهد بمصداقيته، وحفاظه على استقلالية المنصب، والمنظمة الأممية بالقدر الذى تتيحه صلاحياته، وليسجل التاريخ حرفيته ومهنيته وقدراته السياسية والفكرية والأكاديمية التى شهد لها من عاصروه، بأن المصرى بطرس غالى كان من أفضل من تولوا منصب الأمين العام إن لم يكن أفضلهم، فالانسان موقف والسياسة مسئولية. وهذه شهادة حق وحقيقة للتاريخ ليست دفاعاً عن د.غالي وانما احقاقاً لحقه وحقنا جميعا،وحرصا على دور فاعل وضرورى للامم المتحدة ولكى لا تطمس الحقائق، ولنرفع الصوت عالياً بانه آن الاوان فى عالم لا يحترم الا القوى ان نكون أقوياء بناءين فى اوطاننا بعزة وعزيمة وكرامة محافظين على استقلالنا الوطني. كما آن الاوان لاعادة النظر جذرياً فى المنظومة الدولية التى تعانى كافة مكوناتها من تدهور وتآكل فى فاعليتها ومصداقيتها لدى شعوب العالم. فالنظام الدولى الذى فرضه المنتصرون عام 1945 لم يعد مناسباً لعالم اليوم، ولا استثنى من ذلك منظماتنا الاقليمية، ولمصر المحروسة دوماً ان شاء الله، هذا الوطن الأغلى بقيادته الوطنية المخلصة والواعية، دور مهم فى بلورة غد افضل للجميع أثق كل الثقة انها مؤهلة له كما كانت على مدى تاريخها العريق . واخيرا ما اروع ان يكون الامين امينا. لمزيد من مقالات د. فايزة أبو النجا