هذه ثنائية تسكن كل لغات العالم دون أن يكون بين طرفيها صراع ما, لكن انتشرت بين بعض المثقفين فى مصر دعوى ترى العامية هى الأصل وليست الفصيحة, ووصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة باستخدامها فى السجلات الرسمية, وتدريسها فى المراحل الدراسية المختلفة, أى جعل العامية لغة الحديث والكتابة على سواء. وليست القضية جديدة على الثقافة العربية, بل هى موغلة فى القدم بوصفها قضية اجتماعية قبل أن تكون قضية لغوية , ويمكن الرجوع إليها فى كثير من كتب التراث عند الجاحظ وأبى هلال العسكرى وابن سنان الخفاجي, لكن المسار الجديد للقضية انتهى إلى سؤال جوهري: هل من الأفضل الصعود بالعامية إلى مستوى اللغة الفصيحة, أم النزول بالفصيحة إلى مستوى العامية ؟ وهذا السؤال يفرض علينا سؤالا آخر عن المقصود بالعامية : هل المقصود عامية كل قطر من الأقطار التى تتكلم بالعربية, أم المقصود عامية كل إقليم من أقاليم الوطن الواحد؟ ذلك أن العامية تكاد ترتبط بالأوطان والأقاليم, بل ترتبط بالمدن والأحياء فى المدينة الواحدة. وهذه المغايرة فى اللغة العامية لاترتبط بالبيئة المكانية فحسب, بل ترتبط أيضا بالبيئة الزمانية, ذلك أنها سريعة التطور والتغير, حتى إننا نجد فروقا كبيرة بين عامية القرن التاسع عشر والقرن العشرين ثم الواحد والعشرين, بل إن عامية مطلع القرن العشرين تغاير عامية نهاية القرن, وقبل هذا كله وبعده : فإن العامية لا تمتلك الضوابط والقواعد النحوية والإملائية التى تعطيها صفة اللغة الكاملة, والتى تكسبها صلاحيتها للحديث والكتابة معا, وما قرأته من بعض الكتابات فى هذا الموضوع أشبه بعبث الصبيان, فأى هذه العاميات يمكن اعتمادها (لغة مشتركة) تعبر عن حقيقة الثقافة العربية الموروثة والمستحدثة ؟. واللافت أن بعض دعاة العامية يفترضون خصومة بينها وبين اللغة الفصيحة, وهى خصومة متوهمة من وجهة نظري, فالعامية نؤدى وظيفتها الاجتماعية والثقافية دون صدام مع الفصيحة, إذ تتردد على أسماعنا وأبصارنا فنون العامية المختلفة , وفى الوقت نفسه تتردد على الأسماع والأبصار فنون الفصيحة المتنوعة , والمجتمع يستقبل هذه وتلك بوصفهما أداتى اتصال مشتركة , مع مراعاة أن لكل منهما وظيفتها الحياتية والجمالية دون إحساس بمثل هذه الخصومة المتوهمة , بل إنه منح مبدعو العامية أرفع الجوائز (جائزة النيل والتقديرية والتشجيعة) . وعلينا التنبه إلى أن سيطرة العامية سيطرة مطلقة , يعنى إغلاق الذاكرة العربية بكل محتوياتها الحضارية والثقافية والتاريخية, وهو ما يعرض (الهوية) العربية للغياب لحساب هوية طارئة يمكن أن نسميها: ( هوية العولمة) تحت مصطلح طارئ هو : (العربية المصرية) دون أن نضع فى الحسبان الفوارق الجوهرية بين الهويتين فى العادات والتقاليد والأعراف والأخلاق. إن إنهاء مهمة اللغة العربية الفصيحة لحساب العامية سوف يترتب عليه ظهور جيل جديد لا صلة له بلغة الأجداد والآباء , أى أن الصلة سوف تنقطع بين هذا الجيل والتراث العربى جملة , ذلك أن اللغة ليست مجرد مفردات وتراكيب , وإنما هى ذاكرة لتجارب الحياة المتطورة عبر التاريخ, فإذا ضاعت اللغة الفصيحة من الأبناء , فكيف لهم أن يقرأوا ماتركه لهم الآباء , سواء فى ذلك الآباء القدامى الذين شاركوا فى تأسيس الحضارة والثقافة العربية فى المعارف والعلوم المختلفة والإبداع من أمثال (امرئ القيس وعنترة وزهير وجرير والفرزدق وأبى تمام والمتنبى وابى العلاء من الشعراء), وأمثال : ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة وعبد القاهر وابن الأثير من الباحثين؟ وهذا الموقف المأساوى يلاحق الآباء الجدد القريبين من زمننا من أمثال: الكواكبى والطهطاوى والبارودى وشوقى وجبران والشابى والعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح وسواهم من المبدعين والمفكرين . إن اعتماد العامية بديلا عن الفصيحة سوف يعزل الأجيال الجديدة عن تاريخها المتتابع عبر العصور, بدءا من تاريخ العرب قبل الإسلام, إلى تاريخهم بعد الإسلام, مرورا بالمراحل السياسية المتتابعة من الأموية إلى العباسية والأندلسية وصولا إلى العصر الحديث , وكلها مراحل دونتها اللغة الفصيحة, وتكاد تكون الخطورة الأعظم هي: صعوبة أن تتابع الأجيال الجديدة تراثها الدينى , لأنه مدون باللغة العربية الفصيحة, سواء فى ذلك الكتب المقدسة , أو الكتب التى دونت خدمة لهذه الكتب المقدسة, أى أننا سوف نكون مطالبين بترجمة القرآن والإنجيل والتوراة وكتب الأدب والثقافة والتاريخ إلى هذه اللغة المفترضة. لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب