تعقد وزارة الثقافة في شهر مايو الحالي مؤتمرا موسعا للمثقفين, تناقش فيه وضع الثقافة المصرية للتعرف علي الأفكار والرؤي التي تمكنها من انتشالها مما تعانيه من ضعف يعود بنا إلي ثقافة الماضي, قبل بداية النهضة في القرن التاسع عشر, ولا تقودنا إلي ثقافة الحاضر والمستقبل. ومن البداية علينا أن نعرف جيدا أنه ليست هناك عصا سحرية بمقدورها أن تصحح مجموعة الأخطاء التي أدت إلي انحسار الثقافة المصرية وسط ادعاءات من المنتفعين بأنها تعيش أزهي عصورها, ووصف ركودها الظاهر للعيان بأنه الحراك الذي لم تعرفه الثقافة المصرية من قبل! قد نختلف في تحديد تاريخ هذا الانحسار ومعالمه, بعد مد أو صعود الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي: هل بدايته الحقيقية1967, أم1971, أم1981, أم1988 ؟ كما أننا قد نختلف في أي ظروف استحكم أو تفاقم هذا الأنحسار؟ وما هي الشروط الموضوعية التي أفضت إليه؟ وما هي تجياته؟ ثم ما هو الثمن الذي دفع لكي ينجح هذا الانحسار وتتخلخل كل الأبنية الثقافية؟ ولكننا لن نختلف في أنه لم يظهر علي مدي أكثر من عشرين أو ثلاثين عاما أسماء تضارع نجيب محفوظ في الرواية, ويوسف إدريس في القصة, والفريد فرج في المسرح, وصلاح عبدالصبور في الشعر, ولويس عوض في النقد, وحسن عثمان في الترجمة, دون أن يكون القصد من هذه المقارنة استنساخ أحد منهم في مرحلة زمنية أخري, وسياق مختلف, لأن تغير الحال يفرض تغير المقال. وقد نختلف أيضا في بيان وجوه الضعف في ثقافتنا المعاصرة, لأنها قد تبدو في نظر المحافظين الذين يفضلون التقليد علي التجديد, واللفظ علي المعني, من علامات القوة, لا من علامات التردي. إلا أننا لن نختلف قط في أن غياب العقلانية, مثل غياب الديمقراطية والعدالة,, آفة بكل المقاييس. ولا يقل سوءا عن هذا الغياب الذي غدت فيه العلمانية مرادفة للكفر, دأب أصحاب الفتاوي الذين يخلطون الدين بالسياسة, علي تعقب الكتاب والشعراء, واقتيادهم إلي المحاكم, لنشر الخوف والقهر والإحباط في نفوسهم, وقطع الطريق علي الإبداع والمبدعين. ومما يؤسف له أن القضاء قبل هذه الرقابة من غير أهل الأختصاص. وبدلا من أن يرفض هذه الدعوي, نصر الظالم في إحكامه, وجرد المظلوم من حقه في التعبير, في مهنة كانت تعد في مصر, منذ أقدم العصور, أعظم المهن. وهذا ما يقتضي تغيير كل القوانين المتصلة بالثقافة والمثقفين التي تسمح بعدم وضع الأمور في نصابها الصحيح, علي نحو ما هي في كل البلاد المتحضرة. ذلك أنه حين يحل القانون محل الكلمة, وتقع المصادرات علي الكتب والمجلات التي تعكس ما يعتمل في حياتنا العقلية والسياسية والأجتماعية, فنحن أمام خطر وبيل يهدد المجتمع, نحتاج معه الي عقد جديد للناس والتاريخ, ويزيد الرماد الذي تكاثف من كل جانب, ويرد فيه علي الرأي بالرأي. لم يعد الحوار في الثقافة المصرية كما لم يعد في كل شئون حياتنا هو اللغة السائدة التي أصبح القول فيها يتناقض مع الفعل, والمضمون مع الشكل. علي أن محنة الثقافة المصرية التي أمتد التشريع فيها إلي ضمير الإنسان لا تتحملها السلطة وحدها بجميع مستوياتها, من الأسرة الي المدرسة إلي الإعلام إلي أمن الدولة, وإنما تتحملها قبلهم وبعدهم الحركة الثقافية التي فشلت, مثلما فشلت كل المؤسسات, في خلق المواطن الواعي الذي لا ينفصل عن قضايا بلاده, ولا يفتقد مناخ الأستنارة. وأعني بالحركة الثقافية جيل الكتاب والمثقفين الذين يؤثرون العافية, ويطمعون في ذهب السلطان. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه لم يعرفوا كيف يتعاملون مع مافيا تراثنا العربي من قيم رفيعة, وصمتوا عن نقض النصوص الخالية من هذه القيم الرفيعة. وما الأهتمام بأبن رشد وابن سينا وابن طفيل والسهروردي والحلاج وأبي العلاء المعري والمتنبي وابن خلدون والجاحظ والتوحيدي, وبالأدب اليوناني, وعصر النهضة, والفكر الأوروبي الحديث, إلا بعض ثمار ما كانت عليه الحياة الثقافية في بلادنا قبل أن تتعرض للخيبة والأنكسار. ولم يحفل أحد من هؤلاء المثقفين بالتراث الشعبي والمأثورات والسير والمواويل التي لا تقل في قيمتها عن قيمة الثقافة الرسمية. وتحت تأثير عدم احتفال مصر بتعظيم القواسم العربية المشتركة, لم تعد الدولة العربية تعبأ بغيرها, ولم تتواصل الثقافة المصرية بالقدر الكافي بشعوب وآداب الشرق والغرب, كما تواصل تراثنا العربي القديم مع أدب اليونان واللاتين والفرس والهند. وفي ظل هذه الأوضاع التي لا ينبع فيها الإبداع من الأرض, ولا ينبض بعمق الحياة, لم نجد الأعمال تمس قلوب المتلقين. كذلك لم تنشأ في الثقافة المصرية نظرية نقدية ذات معايير فنية أصيلة, تنظر في خصائص الإنتاج الأدبي والفني, وتضعه في ميزان التحليل الذي يرتبط بالعصر, ويحقق لمجتمع التنمية والتحديث. وعلي المستوي الفكري الخالص لم ينجح أحد من المفكرين في تكوين نظرية فكرية فعالة تلهم الأمة وتسدد خطاها. يحدث هذا العجز في مجال الأدب والنقد والفكر رغم أن كل الذين قادوا الحركة الثقافية في العقود الأخيرة, في كل مواقعها, كانوا من الأكاديميين. وربما كان هذا هو سبب الفشل: إدارة الحركة الثقافية بمنهج إدارة العملية التعليمية, وعدم التفريق بين الحياةالعامة ومدرجات الجامعة!. وطالما أننا نتحدث عن التنمية فإن أكبر الأخطار التي تتعرض لها الثقافة المصرية, وتهدد الهوية الوطنية في آن واحد, خطر التكنولوجيا كوسيط اتصال جعل الثقافات محورا لها, وأتاح للعولمة أن تحكم قبضتها علي العالم. ومع هذا لم ترتفع الثقافة المصرية إلي مستوي هذا الوسيط. ولم تملك في الوقت نفسه القدرة علي توقي سطوة العولمة, ولا تخطي الحدود الإقليمية أو القطرية, وذلك لضحالة هذه الثقافة, وعجزها عن محاورة العالم. وبينما تتجه كل الدول إلي فتح أسواقها للتبادل الأقتصادي والتجاري بلا قيود, فرضت القيود علي الثقافة العربية في كل تعاملاتها. ويشكل هذا كله تحديا كبيرا لامفر من التغلب عليه الأهتداء إلي خطاب ثقافي جديد, يستعيد مجد الثقافة المصرية, ويعيد إليها وجهها المتألق, وغاياتها الإنسانية.