منذ أشهر قليلة ، تجدد الجدل حول مصير مبنى الحزب الوطني المحترق منذ اربع سنوات ، بعد أن أصدر مجلس الوزراء قرارا بهدمه، فأيده البعض بدعوى التخلص من رمز سياسي كان عنوانا للظلم والطغيان، بينما تعالت أصوات المعماريين الرافضة ، محذرة من تكرار تجارب إهدار الثروات التاريخية والعقارية، وبعد صياح من كلا الفريقين ، انطفأت جذوة الاهتمام، وهاهو المبنى الضخم قابع في مكانه دون أي خطة للاستفادة منه أو من الارض المقام عليها.. ولأننا غالبا ما نعتمد على غير أهل التخصص ، أردنا الاشارة الى نموذج «علمي» صاغته لنا الباحثة هناء موسى من خلال دراستها التي نالت عنها مؤخرا درجة الدكتوراه من كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وخصصتها لموضوع «إعادة توظيف المباني والمنشآت ذات القيمة «، حيث ترى أن هناك مشكلة في تحقيق التوازن ما بين الحفاظ على المبانى ذات القيمة، واستفادة المجتمع منها، خاصة في ظل تجارب سابقة غير مدروسة وغير خاضعة لاشراف المتخصصين، أثرت على حالة المباني التراثية التي تمت إعادة توظيفها، مثلما حدث من تحويل عدد من الفيلات و القصور الملكية الى مقار للمؤسسات الحكومية والوزارات والمدارس، وانتهت الباحثة الى صياغة منهج يمكن الاعتماد عليه عند إعادة توظيف اي مبنى ذي قيمة. في الفصل الثالث من الدراسة وهو من أمتعها، تصحبنا الباحثة في جولة بين أهم نماذج إعادة التوظيف سواء في مصر او في دول العالم المختلفة، لنستنتج بسهولة مدى نمطية التجارب المحلية ، في حين تميزت التجارب العالمية بالابتكار والافكار غير التقليدية. نبدأ بمصر، وننتقي تجارب مثل سراى الأميرة فايقة هانم ابنة الخديو إسماعيل ، والذي اتخذته وزارة التربية والتعليم – ومن قبلها وزارة المعارف- مقرا لها منذ عام 1931 وحتى الآن ، أما وزراتا المالية والداخلية فيشغلان قصرين لاسماعيل صديق المفتش، بينما بنيت وزارة العدل على أنقاض القصر الثالث. ومن أبرز حالات اعادة التوظيف المحلية قصر الجزيرة «فندق الماريوت حاليا» الذي تم افتتاحه عام 1869بالتزامن مع افتتاح قناة السويس كمقر للخديو إسماعيل، وبعد ان آلت ملكية السراى إلى شركة الفنادق السويسرية ، حولت القصر إلى فندق الجزيرة ، وفي عام 1961، آلت ملكيته للدولة متمثلة في الشركة المصرية للفنادق والسياحة واسمته فندق عمر الخيام ،و مع اتخاذ قرار تحويله إلى فندق عالمى عام 1975، اشترته شركة ماريوت للفنادق. القصر الاشهر في حديثنا هنا هو قصر الاتحادية ،الذي كان في الاصل فندق هليوبوليس بالاس،ثم تم إعادة توظيفه كمستشفى عسكرى ومكان لتجمع ضباط الاحتلال البريطانى فى مصر حيث عاصر الحربين العالميتين ، أما بعد ثورة 1952 فكان مهجوراً ، ثم أصبح فى الستينيات مقراً لوزارات حكومية، ثم مقرا لاتحاد الجمهوريات العربية الذى ضم ( مصر-سوريا- ليبيا)، وفى عهد الرئيس مبارك أصبح مركزاً للحكم ، و مقراً للمقابلات الرسمية وتسيير شئون الدولة، وتزايدت أهميته ورمزيته بعد اندلاع ثورة 25 يناير، فكان مقصداً للمتظاهرين ، وفي فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسى وقع ما يعرف بأحداث الإتحادية، و توافد المتظاهرون إلى محيطه فى ثورة 30 يونيو. هناك ايضا قصر الأميرة سميحة كامل الذي أنشئ عام 1900 وتم تحويله لمكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك. ونتقل الى مثال بارز يتجسد في بيوت القاهرة التاريخية وإعادة توظيفها كمراكز ثقافية، مثل بيت الهراوى الذي يحتضن بيت العود العربى ،وبيت السحيمي الذي بني عام1648 واصبح الان مركز إبداع السحيمى، وهناك مجموعة الغوري ( مسجد ومدرسة وقبة ووكالة وحمام ومنزل ومقعد وسبيل وكتاب) ، وهناك ايضا قصر الأمير طاز، وقصر الأمير بشتاك او ما يسمى بعد ترميمه بيت الغناء العربى ، وهناك بيت العينى الذي اصبح مركز الإبداع الفنى للطفل، ومنزل الست وسيلة الذي أصبح مقرا لبيت الشعر ، وأخيرا منزل على لبيب الذي سيتم افتتاحه قريبا ليكون بيت المعمار المصري، اما في الاسكندرية فقد وقع اختيار وزارة الثقافة على كلوب محمد على لتحويله الى قصر ثقافة الحرية ثم إلى مركز للإبداع . لكن الامثلة السابقة المتعلقة بإعادة توظيف البيوت المملوكية في أنشطة ثقافية أثارت تساؤلات الباحثة خاصة في ضوء ضيق مساحة الحيز العمرانى الواقعة به ، كما أن المجتمع المحيط لديه الكثير من الاحتياجات المعيشية الأساسية، فتلك المباني تخدم شريحة معظمهم من غير الساكنين بالمحيط ، كما تمت إعادة توظيف هذا العدد من المبانى ليخدم نفس الوظيفة، ولهذا اقترحت الباحثة انه «فى حالة الإحتفاظ بالوظيفة الثقافية» يجب إعادة صياغتها فى اطار خطة تنموية تفيد سكان المنطقة. على جانب آخر نجد تجارب لاعادة التوظيف لكنها لم تستمر،مثل قصر السكاكينى الذي تم إعادة توظيفه أكثر من مرة، بداية من تبرع أحد الورثة بحصته لوزارة الصحة ،ثم اصبح في عام 1961 أحد مقار الاتحاد الاشتراكى ، فمتحف تثقيفى صحى، واستخدام البدروم كعيادات طبية. وقد تعرض لتلفيات كثيرة، وكان من المفترض تحويله إلى متحف لعلوم الطب عبر العصور، ولكن لم يتم ذلك وأصبحت حديقته مرتعا للقمامة. اما في دمياط فكانت هناك محاولة جيدة لاعادة توظيف كوبرى دمياط التاريخى ، والذي كان مشيدا من قبل في امبابة بالقاهرة لمرور القطارات، لكن بعد ازدياد الحركة تم بناء كوبري بديل . في عام 2003 تم بيع الكوبرى لتاجر خردة، الا أن محافظ دمياط الدكتور فتحى البرادعى نجح فى استرجاعه و إعادة تركيبه لتوظيفه ثقافياً لعرض الأعمال الفنية، وترصد الباحثة وعى الدمايطة بأهمية الكوبرى التاريخى وافتقادهم لذكرياتهم ، كفتح الكوبرى لعبور المراكب وتنظيم مسابقات للقفز والسباحة، واللهو مع الدلافين فى موسم الفيضان، لكن للاسف بعد ثورة يناير وما صاحبها من انفلات أمنى ، تم نهب محتويات الكوبرى بالكامل من أجهزة ومقاعد ، وبقى هيكله مرة أخرى مهملاً. تنقلنا الباحثة فيما بعد الى عدد كبير من النماذج العالمية في اعادة توظيف المباني ذات القيمة ، ومنها نماذج متميزة مثل تحويل مستشفى بريسيديو التاريخى بسان فرانسيسكو بالولايات الامريكية الى مبنى سكني يضم 154 شقة يعد الآن علامة مميزة بالمنطقة،وفي استراليا نموذج لتحويل محطة ضخ المياه الرئيسية فى كونونورا والمسجلة ضمن الاماكن التراثية، الى مطعم يطفو على بحيرة كونونورا ، وتم وضع طاولات الطعام بين المضخات وأضيفت بعض التجهيزات دون التأثيرعلى التصميم الأصلى للمبنى. وتطبق الباحثة منهجها المقترح على خمسة نماذج محلية، ونختار منها مبنى بلدية القاهرة المعروف بمبنى الحزب الوطنى ، فهو يرمز للسلطة السابقة وأحداث ثورة يناير والتغيير الذى نتج عنها. المبنى تم بناؤه ما بين عامى 1958 م و 1960 ليكون مقراً للاتحاد الاشتراكى، وقد برزت بعد ثورة يناير مقترحات مختلفة بإعادة توظيفه، فكانت هناك فكرة ذائعة بتحويله إلى مبنى مراقبة لحقوق الإنسان ، وسادت بين الفنانين فكرة تحويله إلى متحف قومى ، ورأى بعض الرسامين تحويله إلى متحف عن الثورة ومركز ثقافى لإقامة المعارض وورش العمل ، ومكتبات عامة ومسارح ،فى حين كانت هناك أصوات تنادى بهدم المبنى بالكامل وتحويل المكان لحديقة عامة . وترى الباحثة ان تصميم المبنى يتيح إمكانية إعادة توظيفه لوظائف مختلفة ، كأن يكون مبنى مكتبيا أو إداريا في بعض طوابقه ،بحيث يتحقق الشق الانتفاعى، وفي الوقت ذاته يمكن الاستفادة من قيمة المبنى التى تزايدت عبر تاريخه ، وإعادة توظيفه بشكل يحافظ على رمزية الأحداث التاريخية ، وبعد تحليل السياقات المرتبطة بالمبنى، ترى الباحثة ان الفكرة المتحفية مناسبة ، إلا انه فى ظل قلة الوعى المتحفى بين المصريين ، تقترح إدراج نشاطات اجتماعية محببة لثقافة المجتمع ،مع ربطه بالنطاق العمرانى الأرحب الذى يتسم بالرمزية الثورية وهو ميدان التحرير، واستغلال مجاورته للمتحف المصري. في النهاية هي دراسة بها الكثير من الافكار التي لا يتسع المجال لعرضها كلها، لكن نتمنى ان يحولها صناع القرار – هي وغيرها من الدراسات المماثلة- الى واقع ،بدلا من استقرارها فوق رفوف المكتبات!