لم تكن الخلافات بين الزعيمين ناصر وخروشوف ورغم كل ما اتسمت به من حدة وتجاوزات فى بعض جوانبها، لتحول دون اعلان كل منهما عن حرصه وتمسكه بضرورة مواصلة مسيرة التعاون والانصراف الى ما هو اجدى وانفع. وقد كشف ما اعقب ذلك من اتصالات ومداولات عن اعلاء الزعيمين للعام دون الخاص، ما عكسته الزيارات التى قام بها المشير عامر لموسكو، وما اسفرت عنه من نتائج مثمرة سجل السفير السوفيتى فى القاهرة يروفييف بعضا منها فى رسائله التى بعث بها الى قيادته فى وزارة الخارجية فى موسكو. ومن واقع ما اطلعنا عليه من وثائق فى ارشيف وزارة الخارجية الروسية يمكن القول بنجاح الجانبين فى تجاوز خلافات الامس ومواصلة مسيرة التعاون بين البلدين فى مختلف المجالات دون التقيد بالاطر الثنائية التى تجاوزاها الى ما وراء حدود الجمهورية العربية المتحدة، تاكيدا على اهمية وضرورة التنسيق المشترك بين البلدين على الصعيدين الثنائى والدولي، بما فى ذلك داخل اطار منظمة الاممالمتحدة. وبعث السفير السوفيتى يروفييف فى 16 نوفمبر 1960 برسالة الى وزارة الخارجية السوفيتية تحت رقم 493 ، حول لقائه مع المشير عامر فى الثانى من نوفمبر 1960 حول الاعداد لزيارته المرتقبة للاتحاد السوفييتي، قال فيها: " تطرق الحديث الى رأينا فى احاديث ناصر مع خروشوف ، وقلت إنها وحسب علمى اتسمت بطابع الصراحة، وان رئيس الحكومة السوفيتية وصفها الآن بانها طبيعية وعادت الى طابعها الجيد ، وان الزعيمين اتفقا على تطويرها وتعزيزها. وعرج عامر إلى تناول ما جرى خلال زيارتيه السابقتين للاتحاد السوفيتي، وكذلك لقاءاته مع خروشوف. قال انه وجد لغة مشتركة فيما يتعلق بالعلاقات السياسية والاجتماعية، لكنه لا يستطيع ان يقول ذلك بشأن العلاقات العسكرية. ثم اضاف مازحا :انه لن يعود هذه المرة الى القاهرة، اذا لم يصل الى اتفاق حول القضايا العسكرية. واضاف المشير عامر انه يريد التزام الجانب السوفيتى بما وعد به خروشوف حول شروط توريد الاسلحة والمعدات. وحين اجبته بان الاتحاد السوفيتى نفذ ما وعد به خلال الظروف الاستثنائية التى مرت بها منطقة الشرق الاوسط، وان الامور الآن قد هدأت وتتجه صوب الاحسن، قال عامر إنه وعلى العكس فإن الامور تسير نحو الاسوأ وهو ما يتطلب دعم القدرات الدفاعية للبلاد. وضرب مثالا على ذلك بما تنتهجه ج ع م من سياسات الحياد الايجابى ودعم حركات التحرر الوطنى فى افريقيا، ما يلحق الاضرار بمواقع البلدان الغربية فى القارة الافريقية، وما يجعلها تبذل الجهود من اجل ارغام ج ع م على التخلى عن هذه السياسات عن طريق: 1. الاجراءات الاقتصادية التى ستكون ضعيفة التأثير فى حال تلقى الدعم من جانب الاتحاد السوفييتي. 2. التعاون فى البلدان الافريقية مع العناصر الرجعية وهو ما يمكن تجاوزه. 3. استخدام اسرائيل كقوة مضادة ل ج ع م ، وهو ما يشكل خطرا جديا. وطلب عامر من الاتحاد السوفيتى امداده بالاسلحة لحل مشاكلهم والتصدى لهجمات اسرائيل، نظرا لانها وفى حال شنها لاى عدوان لن تكون وحدها، فضلا عن انها سوف تملك فرص استخدام القواعد الموجودة فى الاردن وقبرص، وربما فى اراض اخرى ايضا، على عكس عدوان 1956 . كما ان القوى الامبريالية سوف تساعد اسرائيل فى هذه المرة سرا. وراح عامر يستعرض ما تمنحه الدول الغربية لاسرائيل من اسلحة ومقاتلات باسعار وهمية مثل الميراج التى يقدر ثمنها بمائتى الف جنيه استرلينى ، تبيعها فرنسا لاسرائيل ب 80 الف جنيه. ومن المعروف ان اسرائيل تعاقدت على شراء 60 مقاتلة من طراز ميراج قبل دخول مثل هذه المقاتلات الخدمة فى القوات المسلحة الفرنسية. وقال إن الدول الغربية تريد السيطرة على منطقة الشرق الاوسط وتستخدم اسرائيل كورقة اخيرة للعب بها فى اللحظة الحاسمة. وتساءلت .. كيف يمكن الربط بين ما يقوله حول ان الولاياتالمتحدة تسهم فى اعداد اسرائيل من اجل مهاجمة ج ع م فى نفس الوقت الذى تقدم فيه القروض الى ج ع م التى بلغت حسبما تقول مجلة "روز اليوسف"ما يقدر ب 140 مليون دولار؟ . وراح عامر يؤكد ان ج ع م وافقت على قبول هذه القروض لانها تغطى احتياجاتها من المواد الغذائية ولاتتعلق بمجالات الانتاج ، كما ان الامريكيين كعنصر توازن، يمكن ان يساهموا فى تضليل الاوساط الاجتماعية الى جانب محاولة اقناعنا بان الامريكيين يساعدون اسرائيل والعرب على حد سواء . واشار الى انهم يدعمون بالمال والسلاح فى لبنان ايضا حزب الكتائب الفاشى الذى يتزعمه بيير الجميل. ولم تكن اسرائيل تقف بمنأى عن التقارب المصرى السوفيتى ، حيث عادت لتواصل محاولاتها رأب الصدع الذى كان اصاب علاقاتها مع العاصمة موسكو فى نفس الوقت الذى كانت تتابع فيه بالكثير من الاهتمام كل مشاهد التقارب مع مصر، بما فى ذلك ما يتعلق بالتعاون العسكرى بين البلدين. وفى الوقت الذى راحت تتصاعد فيه وتيرة الخلافات مع الحكومة الاسرائيلية، كانت موسكو تسير قُدُما على طريق الاستجابة لكل طلبات القيادة المصرية، بما فيها ما يتعلق بسياساتها خارج حدود "الجمهورية العربية المتحدة". وفى كتابه "ملفات سرية"، كشف ليونيد مليتشين عما قدمه الاتحاد السوفيتى من مساعدات عسكرية، دعما لمشاركة مصر فى حرب اليمن. وقال المؤرخ الروسى المعروف بموالاته لاسرائيل: إن عبد الناصر طلب امداد القوات المسلحة المصرية بطائرات النقل من طراز "انطونوف-12"، لنقل قواته الى اليمن لدعم الثوار الذين اطاحوا بنظام الامام احمد فى اليمن فى سبتمبر 1961. واضاف ان موسكو استجابت لهذا الطلب، بل ارسلت طيارين سوفييت لقيادة هذه الطائرات نظرا لعدم وجود طيارين مصريين مؤهلين لقيادة طائرات النقل الثقيلة" (ص385) واستطرد ليقول إن الامر لم يقتصر عند حد طلب طائرات النقل حيث سرعان ما تقدمت القاهرة بطلب الحصول على قاذفات سوفيتية. وكشف مليتشين عن ان هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى ناقشت فى 11 اكتوبر من نفس العام طلب المشير عبد الحكيم عامر وزير الحربية المصرية بشأن امداد القوات المسلحة المصرية بقاذفات"تو-16" لاستخدامها فى حرب اليمن. وقال إن خروشوف رفض فى البداية الاستجابة لهذا الطلب لكنه سرعان ما عاد عن موقفه، ليعلن عن موافقته على بيع هذه الطائرات، وارسالها الى مصر مع طيارين سوفييت، نظرا لعدم توافر الطيارين المؤهلين لقيادة هذه القاذفات، لكن دون الاعلان عن ذلك بطبيعة الحال. ونقل مليتشين عن خروشوف بعضا مما اشار اليه فى مذكراته حول علاقته مع عبد الناصر: " لقد كانت رؤية عبد الناصر للاشتراكية فريدة من نوعها . وكنا نعتقد احيانا ان عبد الناصر يضلل شعبه حين راح يدعو الى ما كان يسميه بالاشتراكية على الطريقة العربية، وهو ما كان سببا فى الفتور الذى طرأ على علاقاتنا، ولم يدم طويلا لحسن الحظ. والآن .. عن انتصارات مصر.. فاذا كان عبد الناصر وقبل خلافاتنا يعزوها الى تدخلنا فإنه راح وبعد التوتر الذى كان اصابها لبعض الوقت، يقول إن مصر انتصرت بفضل ارادة الله. وحين التقينا بعد استعادة العلاقات بيننا الى سابق عهدها الودى تساءلت على نحو اقرب الى التلميح عمن ساعده نحن ام الله ؟ ، وهو ما رد عليه بالابتسامة". (ص386). واضاف مليتشين ان غيوم الخلافات بين البلدين سرعان ما انقشعت ليعود البلدان الى سابق عهد صداقتهما السابقة والتى كانت اساسا لتوقيع اتفاقية سلاح جديدة فى يونيو 1963 تضمنت ارسال الدبابات من طراز "ت-54" ، والقاذفات المتوسطة من طراز "تو-16" المزودة بصواريخ "جو- ارض"، والمقاتلات - الاعتراضية من طراز "ميج -21". ونعود الى وثائق الخارجية التى تكشف بما لا يدع مجالا للشك عن ان الزعيمين ناصر وخروشوف انطلقا فى تعاونهما من اسس ومقتضيات الامن القومى للبلدين والتى تقول بان الامن القومى للوطن لا يتوقف عن حدوده الجغرافية، وانه يتطلب الكثير من الخطوات والاجراءات التى تكفل ضمانه وتأمينه بعيدا عن حدوده الدولية، وهو ما كشفت عنه الرسالة "السرية" التى بعث بها السفير السوفيتى فى القاهرة يروفييف الى وزارته فى 24 نوفمبر 1960 تحت رقم 526 حول لقائه مع على صبرى وزير الدولة مدير مكتب الرئيس عبد الناصر وقال فيها: التقيت على صبرى فى مكتبه بدعوة منه. قال إنه استجاب لطلب موسكو حول اطلاعنا على الاوضاع فى الكونغو. وقال إن الدول الاستعمارية تحاول بكل السبل توطيد مواقعها فى الكونغو من خلال الاعتماد على القوى الرجعية ويمثلها العقيد موبوتو وكاسافوبو وكالونجي. وقال صبرى إن هذه القوى الاستعمارية وحين وجدت ان تشومبى لا يستطيع تنفيذ اهدافهم فى الكونغو تحاول استمالة كالونجى من مديرية كاساى لتأكيد ان المناطق الاخرى فى الكونغو تبدو ذات توجهات انفصالية شأنها فى ذلك شأن كاتانجا. واضاف صبرى ان الامريكيين والبلجيك والانجليز وايضا الفرنسيين يواصلون دعم موبوتو من خلال تقديم الاموال لرشوة انصاره فى الجيش فى الوقت الذى يفتقد فيه رئيس الحكومة باتريس لومومبا مصادر التمويل . كما ان الاستعماريين يحاولون سلب لومومبا كل مصادر الدخل فى البلاد وتقويض مكانته فى اوساط الشعب والجيش والبرلمان. والآن تفتقد الحكومة المركزية فى جمهورية الكونغو الميزانية والاموال. واضاف الى ذلك قوله ان الامبرياليين وبعد ان تأكدوا من ان الاعمال التخريبية ضد الجيش ايضا ليست كافية ، بدأوا فى محاولة رشوة اعضاء البرلمان فى محاولة لاستمالتهم الى جانب مواقفهم لعقد جلسة لسحب الثقة من حكومة لومومبا والاطاحة به بطريق شرعي، واستبداله بآخر موال لهم. اما عن دور الاممالمتحدة فقد قال الوزير صبرى إنه اذا حاول ممثلو المنظمة الدولية الحيلولة دون تنفيذ هذا التكتيك من جانب المستعمرين فإنهم يكونون بذلك يستهدفون رفع مكانة حكومة لومومبا. واضاف ان ممثلى الاممالمتحدة يلعبون الآن دورا مزدوجا .. فهم لا يؤيدون الحكومة المركزية ولا يسمحون للعقيد موبوتو باعتقال لومومبا من جانب، ومن جانب آخر لا يوفرون للومومبا حرية الحركة ويسلبونه فرص الاتصال بالشعب والبرلمان!. ويتلخص مثل هذا التكتيك فى اقناع لومومبا وخصومه بانهم لا يستطيعون توقع احراز النصر لاى من الجانبين وانهما يجب ان يجلسا معا حول مائدة المفاوضات للاتفاق حول تشكيل الائتلاف. وما ان بدأت الاممالمتحدة تعمل فى هذا الاتجاه حتى راح المستعمرون يحاولون اقناع موبوتو وكاسافوبو بعدم الموافقة على ذلك. وبعد ذلك اوجز صبرى موقف ج ع م تجاه مسألة الكونغو فى هذه المرحلة مع مراعاة كل القوى العاملة هناك، وهى الاستعماريون ومنظمة الاممالمتحدة والدول الافريقية المرتبطة بالغرب والبلدان الافريقية المستقلة التى تريد صادقة تاكيد الوجود الشرعى لحكومة لومومبا ، فى ظل الفرقة بين القبائل التى يؤججها الامبرياليون. وتعتقد حكومة ج ع م فى ان موبوتو لن يستطيع التحكم فى الاوضاع فى الكونغو ، كما ان الاوضاع غير المستقرة هناك ليست فى صالح لومومبا. ولذا فقد تقدمت حكومة ج ع م بمشروع قرار الى الاممالمتحدة تدعو فيه الى الاعتراف بممثلى لومومبا بانهم اصحاب الحكومة الشرعية الوحيدة فى الكونغو بما يكفل للامم المتحدة لاحقا العمل الشرعى ضد موبوتو. وخشية اسقاط هذا المشروع قدم ممثلو ج ع م والدول الافريقية الاخرى اقتراحا يقضى بارسال لجنة تمثل الدول الافريقية لتقصى الحقائق محاولة المصالحة".