قال فاديم كيربيتشينكو - والد سيرجى كيربيتشينكو السفير الحالى لروسيا الاتحادية فى مصر - انه وصل الى القاهرة فى عام 1954 للعمل تحت سقف السفارة السوفيتية فى القاهرة نائبا لرئيس بعثة "كى جى بي" فى الشرق الأوسط رغم صغر سنه.فى ذلك الحين. فى كتابه "من أرشيف ضابط كى جى بي- مهام سرية" (موسكو 1993) أشار الجنرال كيربيتشينكو الى "انه جاء إلى مصر يحدوه فضول مهنى كبير حول معرفة كنه النظام الجديد فى مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وهو ما كان يجمع العام مع الخاص حيث وضع "المركز" أمامنا مهمة استيضاح ما وراء سياسات الولاياتالمتحدة وانجلترا وفرنسا تجاه مصر، ومنها أيضا الأوضاع فى العالم العربى وإفريقيا". قال انه تعرف فى إحدى حفلات الاستقبال التى أقامتها السفارة السوفيتية على ثلاثة من ضباط القوات المسلحة علم لاحقا انهم كانوا من "الضباط الأحرار"، ومن الشخصيات القريبة من عبدالناصر. ومن اللافت ان ما قاله يفجينى بريماكوف فى كتابه "الشرق الأوسط .. على المسرح وفيما وراء الكواليس" حول مسئولية الشيوعيين المصريين وممثلى البعثة الدبلوماسية السوفيتية تجاه الصورة السلبية التى تكونت لدى المسئولين السوفييت حول عبد الناصر ورفاقه فى مجلس قيادة الثورة، تناوله كيربيتشينكو أيضا لدى سرده لقصة وصول اول مبعوث سوفييتى رفيع المستوى الى القاهرة للمشاركة فى احتفالات الذكرى الثالثة لثورة يوليو فى عام 1952. وكان ذلك المسئول هو دميترى شيبيلوف سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفييتى ورئيس تحرير جريدة "البرافدا" لسان حال الحزب والذى شغل لاحقا وبعد عودته من القاهرة منصب وزير الخارجية السوفيتية. قال إن شيبيلوف وصل فى إطار مهمة رئيسية تستهدف تلمس السبل الممكنة لإقامة علاقات وثيقة مع عبد الناصر بعد ظهور معلومات تقول بتعثر علاقاته مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وانجلترا، وهو ما يمكن أن يكون مبررا للتقارب مع مصر من وراء ظهرى حلفى الناتو وبغداد فى ظروف "الحرب الباردة". وجاءت الاحتفالات بذكرى ثورة يوليو والعرض العسكرى الذى أقيم بهذه المناسبة لتكون لحظة فارقة فى تاريخ العلاقات وتغيير الصورة النمطية حول شخصية عبد الناصر الذى استند القادة السوفييت فى الحكم عليه وعلى ثورة 23 يوليو من منطلقات ماركسية جامدة. جلس المبعوث السوفييتى الذى قدموه بوصفه "رئيسا للجنة الشئون الخارجية فى مجلس القوميات فى البرلمان السوفييتي" وكان بالفعل يشغل هذا المنصب، على المنصة الرئيسية للضيوف الأجانب قريبا من عبد الناصر. وما إن اعتلى الزعيم مكانه ليخطب فى الجماهير المحتشدة لمشاهدة العرض العسكرى حتى اشرأبت الأعناق وراح الجميع يتابعونه بالكثير من الشغف والاهتمام. وجد المبعوث السوفييتى فى عبد الناصر ضالته. أدرك انه أمام زعيم من طراز نادر خاص. لفت نظر سفيره إلى عبد الناصر وكأنه يريد توبيخه على ما نقله من انطباعات خاطئة عن مثل ذلك الزعيم. وكان بريماكوف تناول أيضا هذه اللحظات التاريخية فى كتابه المشار إليه عاليه بقوله: "لمس شيبيلوف بنفسه ولأول مرة التأثير الساحر لفن الخطابة على الطريقة الشرقية. كان أكثر اهتماما بالمضمون السياسى للخطاب. كان يستمع إلى تعليقات سفيره سولود الذى لم يكن يعرف العربية، ويتابع الخطاب عن طريق مترجم، حول أن ما يقوله عبد الناصر "ديماجوجية عادية". قال :" بعدم جواز الثقة به .. عن أى استقلال يتحدث؟ أنهم يركضون صوب الأمريكيين لمجرد نيل شرف مصافحتهم وتحيتهم"!!. وأضاف بريماكوف قوله:" كان شيبيلوف اكثر اهتماما، فيما راح يصفق مع الحضور إعجابا بما يقوله عبد الناصر حول تعميق الإصلاح الزراعى وتنمية الاقتصاد الوطنى وإعداد الكوادر الخاصة وتحسين التعليم وتزويد القرى بمياه الشرب". وكشف بريماكوف عن ان شيبيلوف وما إن عاد إلى مقر السفارة السوفيتية حتى فاجأ الجميع بطلب ترتيب لقاء شخصى مع عبد الناصر. تولى كيربيتشينكو مهمة البحث عن سبيل لترتيب لقاء بين شيبيلوف مبعوث الزعيم السوفييتى نيكيتا خروشوف وعبد الناصر بعد أن تباطأت وزارة الخارجية المصرية فى الرد على طلب السفارة السوفيتية حول الإعداد لمثل هذا اللقاء وعدم حماس السفير السوفييتى دانييل سولود لبذل اى مجهود من اجل تحقيق مثل هذا الهدف. قال انه استطاع وبعد جهد جهيد ترتيب اللقاء عبر صديقه ضابط القوات المسلحة الذى سبق وتعرف عليه فى حفل استقبال السفارة السوفيتية، وهو ما أثار الكثير من اللغط حول جدوى استمرار السفير سولود فى منصبه، وما كان مقدمة لاستبداله بآخر أكثر نشاطا، هو السفير يفجينى كوزنيتسوف الذى ساهم لاحقا بقدر هائل فى تطوير العلاقات بين البلدين وافتتاح أول مركز ثقافى سوفييتى فى القاهرة ومعه الكثير من المكاتب الفنية والإعلامية، إلى جانب البحث عن موقع مناسب للسفارة السوفيتية بدلا من المبنى المتهالك القديم فى الزمالك. وعاد مبعوث خروشوف إلى موسكو بصورة وانطباعات مغايرة، سرعان ما تركت تأثيرها فى نفوس الكثيرين من أعضاء المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفييتى الذى عقد جلسة طارئة لبحث نتائج رحلة شيبيلوف الى القاهرة، وآفاق العلاقات مع مصر. نقلوا عنه قوله ان عبد الناصر استقبله مرحبا بقوله :" أخى العزيز .. لكم انتظرت هذا اللقاء طويلا!".. ناقش الجانبان الأمر بكل جوانبه وبما تستوجبه الظروف والمتغيرات الدولية من مقتضيات تقول باحتمالات تغير فى التوجهات والتقديرات تجاه بلدان طالما اعتبرتها موسكو رجعية شوفينية قومية...الخ، وبما لا بد ان ينجم عنه من توتر فى علاقات موسكو مع الولاياتالمتحدة والبلدان الأوروبية. وسرعان ما تحركت المياه الراكدة فى مجرى جديد انسابت فيه نقية رائقة تخلو من الكثير من شوائب الماضى .. اتفق الطرفان على اختيار براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا مقرا للمباحثات السرية حول هذه القضية. واختارت القيادة المصرية وفدها برئاسة حافظ إسماعيل مدير مكتب وزير الحربية عبد الحكيم عامر فى ذلك الحين. ومن منطلقات السرية والتمويه، انطلق أعضاء الوفد إلى يوغوسلافيا التى قضوا بعاصمتها يومين، سافروا بعدهما عن طريق البر إلى براغ. أما الوفد السوفييتى فقد اقتصر على عدد من المستشارين التشيك انضم إليهم نظراؤهم من موسكو أيضا فى إطار من السرية والكتمان الشديدين. وفى مقر وزارة التجارة الخارجية وعلى مدى ما يقرب من ثلاثة أسابيع تفاوض الجانبان على احتياجات مصر من الأسلحة "السوفيتية" التى تنتجها تشيكوسلوفاكيا. وحين أصر الجانب "السوفييتي" على أن يكون السداد فوريا وبالجنيه الإسترلينى لبعض البنود، مع إمكانية تقديم قرض بنسبة عالية لتمويل بقية المشتريات، رفض الجانب المصرى استنادا إلى أن الاتفاق بين عبد الناصر ومبعوث خروشوف كان على خلاف ذلك ، وهو ما خلص الجانبان إلى الاتفاق بموجبه على أن يكون السداد من خلال صفقات متكافئة يتعهد الجانب المصرى بموجبها بالسداد من خلال بضائع وسلع مصرية أهمها القطن والأرز والمنتجات الجلدية والألياف الصناعية!!. وجرى توقيع الاتفاقية التى انضمت إليها بولندا لتنفيذ بعض بنودها المتعلقة بالقوات البحرية، فى الثانى عشر من سبتمبر 1955 اى بعد اقل من شهرين من اللقاء التاريخى بين شيبيلوف والزعيم جمال عبد الناصر !!. غير أن هناك رؤية أخرى لبداية العلاقة بين عبد الناصر وموسكو أوجزها محمد حسنين هيكل فى كتابه "ملفات السويس.. حرب الثلاثين سنة" وتقول ان هذه العلاقة تعود إلى ابريل 1955 يوم التقى عبد الناصر مع شواين لاى رئيس وزراء الصين فى الهند، وكان فى طريقه لحضور مؤتمر عدم الانحياز فى باندونج. قال هيكل أن عبد الناصر كان آنذاك مهموما بالبحث عن مصادر للتسليح فى أعقاب عدد من الغارات الإسرائيلية على مواقع الجيش المصرى فى غزة، على نحو زاد من وطأته تباطؤ واشنطن فى الرد على طلباته حول إمداده بالسلاح . نقل هيكل عنه ما قاله خلال لقائه مع السفير الأمريكى الجديد فى القاهرة هنرى بايرود: "أن صوته قد بح فى طلب أسلحة للجيش المصري. وان الولاياتالمتحدة حتى الآن عطلت كل الصفقات فى حين أنها عقدت صفقات مع إسرائيل ومع العراق "(ص 341). وعاد ليقول له بلهجة تحمل نبرة التحذير النهائي:"إذا لم تكن الولاياتالمتحدة على استعداد لبيع السلاح لنا فلتقل ذلك مرة واحدة والى الأبد حتى نعرف كيف نتصرف"(342). ومضى هيكل ليسرد ما دار فى لقاء عبد عبد الناصر مع شواين لاى وتحديدا سؤاله الذى توجه به إليه صراحة :"هل يقبل الروس أن يبيعوا لمصر سلاحا؟"، وهو ما رد عليه شواين لاى بقوله:" انه لا يستطيع الرد نيابة عن الروس ولكنه سوف ينقل طلب عبد الناصر الى القيادة فى موسكو"، فيما أردف قائلا :" انه إذا جاز له أن يقدم اجتهادا شخصيا فان رأيه أن رد الروس سوف يكون بالإيجاب". أكد انه سيفاتح ماوتسى تونج وسوف يطلب منه الاتصال بخروشوف مباشرة. وتمضى الأيام ويعود عبد الناصر إلى القاهرة وتتوالى اتصالاته بحثا عن مصادر السلاح إلى أن التقى السفير السوفييتى فى القاهرة دانييل سولود فى حفل أقامته السفارة السودانية فى القاهرة. آنذاك فاجأ السفير سولود الرئيس عبد الناصر بقوله:" انه كان ومنذ نصف ساعة فقط اتصل بالرئاسة يطلب لقاءه لإبلاغه برسالة وردت على وجه السرعة من بولجانين رئيس الحكومة السوفيتية". وتحدد موعد اللقاء فى صبيحة اليوم التالى، حيث قام السفير السوفييتى بتسليم عبد الناصر رسالة بولجانين التى قال فيها باستعداد الاتحاد السوفييتى للتباحث مع مصر بشأن توريد السلاح لكن شريطة إحاطة هذه القضية بالسرية والكتمان الشديدين. وقال هيكل ان الاتصالات بدأت فى المعادى وسط أجواء تكتنفها أقصى درجات السرية بين الملحق العسكرى السوفييتى ومساعد رئيس هيئة أركان الجيش المصري.