جاء تعيين السفير محمد عوض القونى احد اكفأ ممثلى الدبلوماسية المصرية بديلا لنظيره المصرى الفريق عزيز باشا المصرى ترضية مناسبة لموسكو التى كانت قد أعربت عن شديد الرغبة فى تحقيق المزيد من التقارب بعد عقد أول "صفقة سلاح" بين البلدين والتى عرفت تحت اسم "صفقة السلاح التشيكية" فى عام 1955. وكان القونى قد شهد خلال فترة عمله فى موسكو التى امتدت من عام 1955 حتى 1961 اثرى فترات التقارب بين البلدين والتى شهدت وقوف الاتحاد السوفيتى الى جانب مصر حائطا منيعا دون تطاولات الخارج الاستعمارى اعتبارا من أولى لحظات ملحمة تاميم قناة السويس فى يوليو 1956 والتصدى للعدوان الثلاثى فى نهاية نفس العام وحتى حرب اكتوبر 1973. استهلت موسكو قائمة مواقفها المتميزة على طريق تأييدها ودعمها طموحات وآمال الشعب المصرى ببيان أصدرته الحكومة السوفيتية فى 9 أغسطس 1956 دفاعا عن موقفه من تأميم قناة السويس:" أن الحكومة السوفيتية لا يمكن ان تغض الطرف عن ان وضعا شديد التوتر يظهر حاليا فى منطقة الشرقين الادنى والأوسط بعد ان لجأت الحكومتان البريطانية والفرنسية إلى ممارسة ضغوط فظة لا مبرر لها على مصر واستخدام وسائل التنكيل الاقتصادى ضدها فيما أعلنتا عن رفع درجة استعداد قواتهما البحرية وتعبئة قوات الاحتياط وحشدها على مقربة من قناة السويس ...." . وأشار البيان كذلك إلى :" أن ذلك لا يمكن السكوت عليه ولا بد أن يلقى الاستنكار المشروع والردع اللازم ليس من جانب مصر وحدها بل ومن جانب كل الشعوب المناضلة من اجل سيادتها واستقلالها الوطني. كما ان محاولات استخدام القوة ضد مصر التى تتمتع بحقوق السيادة يمكن ان تلحق ضررا جسيما وبالدرجة الأولى بمصالح الدول الغربية نفسها فى منطقتى الشرقين الادنى والأوسط". وكان البيان أدان أيضا فكرة الدعوة إلى مؤتمر دولى للدول المساهمة فى شركة قناة السويس البحرية بموجب معاهدة 1888، وتضمن استنكارا لعقد مثل هذا المؤتمر دون مشاركة منظمة الأممالمتحدة إلى جانب انتقاد اختيار لندن وليس القاهرة مقرا لانعقاد المؤتمر. وخلص البيان إلى عدم الاعتراف بمشروعية عقد مثل هذا المؤتمر، فى إشارة قال فيها:"انه لا يمكن اعتباره أبدا لا من حيث قائمة المشاركين فيه ولا من حيث طابعه وأهدافه مؤتمرا دوليا يحق له اتخاذ أية قرارات بشأن قناة السويس". ومضت موسكو إلى ما هو ابعد حيث أكدت حق مصر فى تأميم قناة السويس وهو ما أوجزه وزير الخارجية السوفيتية دميترى شيبيلوف فى خطابه بتاريخ 17 أغسطس 1956 الذى ألقاه فى "مؤتمر لندن بشأن مسألة قناة السويس": لا يمكن لأحد ان ينكر أن تأميم الملكية الموجودة فى الأراضى التى تشملها صلاحية الدولة عمل مشروع من وجهة نظر القانون الدولي. ومن حق الدولة أن تؤمم الملكية بغض النظر عما اذا كان أصحاب الملكية من مواطنى هذه الدولة او من الأجانب وهو ما أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى قرارها الصادر فى عام 1952". وكان شيبيلوف حذر فى هذا الخطاب من مغبة الاستعدادات العسكرية من جانب بريطانياوفرنسا للعدوان ضد مصر فيما استبق "احتمالات العدوان العسكرى ضد مصر" بقوله:" انه ليس سرا ان أوساطا بعينها فى فرنساوبريطانيا تهدد باستخدام القوة ضد مصر سعيا وراء فرض خطة "الإدارة الدولية"لقناة السويس إذا لم تمتثل مصر لهذه الخطة.......... ان مثل هذه المخططات تعنى ضمنا تهديد السلام فى الشرقين الادنى والأوسط ، ولا بد من الإشارة إلى ان ذلك لن يقتصر على صدام جزئى فى منطقة قناة السويس ومن الممكن ان يتحول الى صدام كبير يشمل كل المنطقة بل ولربما يتعدى إطارها ". ومن اللافت ان شيبيلوف عاد فى خطاب لاحق القاه فى المؤتمر نفسه فى 21 أغسطس 1956 الى فضح ما بذلته الولاياتالمتحدة من محاولات غير مباشرة بهدف تدويل قناة السويس بما يُفقد مصر السيادة على القناة وينال من مشروعية امتلاكها وامتلاك حق السيادة عليها. قال شيبيلوف:" إن بعض الدول الغربية حاولت قبل إعلان الجمهورية المصرية (أى قبل ثورة يوليو 1952) إقناع الحكومة المصرية بمد امتياز قناة السويس من عام 1966 حتى عام 2008 الا أن مصر رفضت كل هذه الاقتراحات"، وهو ما يعنى أن موسكو كانت على علم بما كانت تضمره البلدان الغربية من مخططات استهدفت المماطلة فى تسليم القناة فى عام 1966 ما يدحض كل الاتهامات التى كالها البعض إلى عبد الناصر بحجة انه أودى بالبلاد إلى التهلكة حين أعلن تأميم القناة فى عام 1956 وكان من الممكن الانتظار عشر سنوات فقط كى تتسلم مصر القناة دون التورط فى معركة خاسرة، على حد قول بعض رفاق عبد الناصر من مجلس قيادة الثورة. ولم يكتف وزير خارجية الاتحاد السوفيتى بفضح مخططات عدم تسليم القناة والتشكيك فى حق مصر فى تأميم هذا المجرى الملاحي، بل وتحول إلى فضح ما كانت تستهدفه الولاياتالمتحدة بمشروع قرارها الذى تقدمت به إلى مؤتمر لندن والذى كان يرمى إلى حرمان مصر من حقوق السيادة وإقامة نظام استعمارى فى مصر من خلال امتياز تشكيل إدارة أجنبية لقناة السويس ستكون معها "دولة داخل الدولة". ولذا لم يكن غريبا أن يجنح الاتحاد السوفييتى إلى تأييد مشروع القرار الذى تقدمت به الهند فى مؤتمر لندن حول الحلول الأنسب لازمة تأميم قناة السويس والذى "يستند إلى مبدأ التوفيق الصائب بين مصالح مصر كدولة ذات سيادة ومصالح كل الدول المستفيدة من قناة السويس"، وهو ما يعنى عمليا الاعتراف بشرعية تأميم الحكومة المصرية لقناة السويس. وتقول وثائق الخارجية السوفيتية عن تلك الحقبة الزمنية، أن الاتحاد السوفيتى أعلن صراحة وفى أكثر من مناسبة عن رفضه لأية حلول انفرادية خارج إطار مؤتمر لندن بما فى ذلك ما سمى ب"اللجنة الخماسية"التى حاولت تمرير ما سمى أيضا ب "مشروع دالاس". الذى ينص على "تسليم قناة السويس إلى إدارة أجنبية". وكانت موسكو توقفت عند هذه المسألة فى "بيان الحكومة السوفيتية بصدد الحل السلمى لمسألة قناة السويس"، الصادر فى 15 سبتمبر 1956 والذى رصدت فيه أن حكومتى بريطانياوفرنسا جنحتا نحو الخيار العسكرى للضغط على مصر والبلدان العربية، فى نفس الوقت الذى تحاول فيه الولاياتالمتحدة فرض ذلك المشروع الذى حمل اسم وزير الخارجية الأمريكية جون فوستر دالاس. وأشار البيان إلى الحشود البحرية والجوية والبرية على مشارف قناة السويس فضلا عن إرسال وحدات إنزال جوى بريطانية إلى قبرص، إلى جانب ما جرى نقله من حشود فرنسية مماثلة إلى جيبوتى . ولعل القراءة المتأنية لهذا البيان تقودنا إلى رصد موسكو بوادر التواطؤ بين بريطانياوفرنساوالولاياتالمتحدة والذى استهدف تشكيل "رابطة المستفيدين" من القناة بهدف تنسيق الملاحة فى قناة السويس والتعاقد مع المرشدين الأجانب، وبما يكفل لها فرض رؤيتها على الحكومة المصرية، التى وفى حال إعلانها عن رفض التعاون مع هذه الرابطة فإنها تكون "انتهكت معاهدة عام 1988" حول قناة السويس وهو ما يعنى عمليا انتزاع إدارة القناة من يدى مصر وإحالتها الى إدارة أجنبية الأمر الذى لا يمكن تحقيقه الا عن طريق استخدام القوة ضد مصر"،حسب نص بيان الحكومة السوفيتية. ذلك ما خلصت إليه الحكومتان البريطانية والفرنسية برئاسة انطونى ايدن، وجى موليه، وشرعت فى تنفيذه بمساعدة مباشرة من إسرائيل!!. لكن الأخطر قد يتمثل فيما نشره ليونيد مليتشين فى كتابه "ملفات سرية" المشار إليه عاليا حول تورط المخابرات المركزية الأمريكية فى العدوان الثلاثى ضد مصر. قال مليتشين إن المخابرات المركزية كانت على علم بكل تفاصيل استعدادات إسرائيل وفرنساوبريطانيا فى ما وصفها ب"حملة سيناء"، رغم النفى الرسمى من جانب الإدارة الأمريكية واتهامات الكونجرس للمخابرات المركزية بالتقصير. على ان ذلك لم يكن وعلى حد قول مليتشين سوى تصفية حسابات داخلية قديمة منذ اتخذ الرئيس الامريكى ايزنهاور قراره بتعيين الأخوين جون فوستر دالاس والآن دالاس فى منصبى وزير الخارجية ورئيس المخابرات المركزية. أشار مليتشين إلى أن حملة سيناء أتاحت الفرصة أمام الأخوين دالاس لتوطيد علاقات الإدارة الأمريكية مع البلدان العربية المنتجة للنفط والحد من نفوذ بريطانيا فى الشرق الأوسط وهو ما استدعى التقارب مع الزعيم السوفيتى الأسبق نيكيتا خروشوف للإعلان سوية عن إدانتهما للعدوان الثلاثى ضد مصر، فى أول سابقة تقول بتعاون الولاياتالمتحدة مع الاتحاد السوفيتى ضد اثنين من أعضاء حلف الناتو- بريطانياوفرنسا. وهنا تحديدا شخص الاتحاد السوفيتى بكل قامته ليعلن عن تهديداته المتوالية لقوى العدوان والتى استهلها بخطاب شيبيلوف وزير الخارجية السوفيتية إلى رئيس مجلس الأمن الدولى الذى طالبه فيه بسرعة العمل من اجل وقف العدوان، فى الوقت نفسه الذى أعلن فيه نيكولاى بولجانين رئيس الحكومة السوفيتية عن مواقف بلاده فى رسالة قال فيها:"إننا مصممون على دحر المعتدى بالقوة، والعمل من اجل إقرار السلام فى الشرق الأوسط".وأضاف بولجانين تحذيره من خطورة احتمالات تحول الحرب فى الشرق الأوسط فى حال عدم إخمادها، إلى "حرب عالمية ثالثة". وفى رسالته إلى انطونى ايدن رئيس الحكومة البريطانية كان بولجانين أكثر حدة حيث تساءل فى لهجة لا تخلو من مغزى:" فى اى وضع يمكن أن تكون عليه بريطانيا إذا ما تعرضت لهجوم من جانب دول تفوقها قوة وقدرة؟. وماذا يمكن ان يكون عليه الحال فى حال استخدمت مثل هذه الدول أسلحتها الصاروخية على سبيل المثال؟"،. وكان بولجانين بعث برسالة مماثلة إلى كل من جى موليه رئيس الحكومة الفرنسية ودافيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل، وهو ما اعتبره الكثيرون تهديدا مباشرا باحتمالات قصف هذه البلدان بالصواريخ السوفيتية. ولم يمض من الوقت الكثير حتى أصدرت موسكو بيانها الشهير فى العاشر من نوفمبر 1956 والذى قالت فيه وكالة أنباء "تاس" إنها مخولة بان تعلن أن قيادة الاتحاد السوفيتى تؤكد انه وفى حال عدم سحب فرنساوبريطانيا وإسرائيل قواتها من الأراضى المصرية امتثالا لقرارات الأممالمتحدة حول وقف العدوان والانسحاب فان الهيئات السوفيتية المعنية لن تتردد إزاء السماح للمتطوعين من المواطنين الروس الراغبين فى السفر للقتال الى جانب الشعب المصرى فى نضاله من اجل الاستقلال".وكانت جموع المواطنين السوفيت تدفقت على مبنى السفارة السوفيتية فى قلب العاصمة موسكو تعلن استعدادها للسفر الى مصر للمشاركة فى التصدى للعدوان الثلاثي, وقد أسهم كل ذلك فضلا عن بسالة وصمود الشعب المصرى وما صدر عن الأممالمتحدة من قرارات زادتها قوة التهديدات السوفيتية التى انضمت إليها الولاياتالمتحدة فى وقت لاحق، فى اهتزاز مواقع قوى العدوان وسرعة وقف إطلاق النار وبدء انسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية لكنها كانت أيضا بداية جولة تالية لتدفق المهاجرين من بلدان أوروبا الشرقية الى إسرائيل والتى أشار مليتشين فى كتابه "ملفات سرية" إلى أن معظمهم كانوا من ذوى المؤهلات العلمية والتخصصات التى ساهمت لاحقا فى دعم القاعدة التكنولوجية والقدرات العسكرية لدولة إسرائيل، وهو ما كان استعدادا لجولة تالية للمواجهة مع مصر وما سوف نعود إليه فى معرض استكمالنا لملفات العلاقات المصرية الروسية والتى سوف نتطرق فيها الى الكثير من جوانب التقارب المصرى السوفيتى ومنها بناء السد العالى وما تلاه من ابرز مشروعات الصناعة الثقيلة فضلا عن ظهور اكبر قاعدة علمية تقنية مصرية فى العصر الحديث استنادا الى خريجى المعاهد والجامعات السوفيتية، وما أسهمت به موسكو فى مجال إعداد وتدريب الكثيرين من ابرز قيادات القوات المسلحة المصرية وإمدادها بأحدث الأسلحة التى تجاوزت بها كبوتها فى عام 1967، بما حققته من انتصارات مجيدة فى عام 1973.. ونسارع لنقول إننا لن نغفل فى الملفات التالية التوقف بالكثير من التفاصيل عند خلافات عبد الناصر مع خروشوف رغم كل ما بدا بينهما من تفاهم متبادل، فضلا عن أسرار ما وراء كواليس اتخاذ قرار طرد الخبراء السوفيت فى يونيو 1972 بإيعاز من قوى خارجية عربية وأمريكية .. وهو الجرح الذى لم يندمل بعد ..... كما تقول الوثائق ..!!!.. ويبقى أن نقول وتأكيدا لان الحقيقة لا يمكن أن تكون حكرا على رؤى أو قوى بعينها، فان ما سردناه من "وقائع وأحداث" قد لا تكون القول الفصل فى تاريخٍ وتموج أحداثه بالكثير من التقلبات والمتغيرات، ما يجعلها قابلة للجدل .. لكن وفقط فى حال ظهور الجديد من الوثائق والمخطوطات "غير القابلة للاحتراق"، حسب القول الروسى المأثور.