منذ أن أعلن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى عن تدشين مشروع حفر قناة السويس الثانية، أو فرع القناة الذى يتوسطها ويسمح بالبدء فى تطوير هذا المرفق العالمي، تدور المناقشات حول المشروع وتتم المقارنات بينه وبين الحفر الأول للقناة فى عهد الحاكمين سعيد وإسماعيل ثم بين المشروع الجديد وبين السد العالي. فى الواقع أختلف بعض الشيء مع هذه المقارنات. فالمحور الذى أدور حوله دائما فى تناولى لمثل هذه المشروعات الاقتصادية هو مدى قدرة هذا المشروع على تعظيم قوى الإنتاج المصرية، بشرية كانت أو اقتصادية، بحيث تحدث فيها نقلة نوعية وكيفية تسمح لها بالإنطلاق إلى الأمام. فالفارق عندى عظيم بين مشروع صناعى أو زراعى يزيد من الإنتاج ويفتح فرص عمل ويغطى حاجة إقتصادية شعبية مثل إقامة مصنع نسيج وملابس جاهزة وبين مشروع صناعى آخر يغير من هيكل الاقتصاد وينقله إلى مرحلة أعلى مثل مجموعة وحدات العمل الهندسية والمعدنية التى تأسست ضمن الخطة الخمسية المصرية الأولى والوحيدة 60-65 .الفارق بين المثل الأول والثانى هو أن الاول مشروع جيد ومطلوب ولكن الثانى فكان نموذجا جديدا على مصر لا يلبى بشكل مباشر احتياجات بشر وإنما يفتح لهم فرص عمل ويؤسس لبناء قاعدة اقتصادية تسمح بالبناء الصناعى عليها، وبالتالى تتعاظم القدرات الإنمائية البشرية والاقتصادية للوطن وللمواطن. لذا لا أنكر أن حفر قناة السويس 59-69 من القرن التاسع عشر كان هاما، حتى ذلك التاريخ، بالنسبة للتجارة العالمية ثم لمصر، التى كانت تعيش فى قلب العالم القديم الذى كان يمر بمرحلة تصدير رأس المال الأوروبى فى الاساس. ولكنى أتصور أن المقارنة التى أراها هى بين فترة الوالى محمد على ثم بين الفترة الناصرية منذ تأميم القناة عام 1956 حتى نهاية الخطة الخمسية الأولى 1965 مع هذا المشروع الذى طرحه السيد الرئيس أمامنا بالملحقات والاستكمالات التى ذكرت والتى تحيطه. لماذا اتصور أن هذه المراحل الاقتصادية هى محل المقارنة بالرغم من وجود تحولات اقتصادية كبيرة أخرى هامة فيما بينها مثل فترة الخديوى إسماعيل وإستصلاحه لأكثر من مليون فدان وتأسيسه للقاهرة الجديدة كعاصمة حديثة. وبالرغم من فترة قيام الإقتصادى الكبير طلعت حرب بمشروعه الوطنى العظيم وتأسيسه بنك مصر وشركاته التى تخصصت فى 17 مجالا صناعيا وخدميا وفنيا؟ أتصور الفترات الثلاث المذكورة محل مقارنتي، فترة محمد على ثم الفترة الناصرية 56-65 ثم فترة المشروع الحالى بشكله المتكامل كما شرح لنا هى فى الأساس قفزات إقتصادية إجتماعية أثرت وسوف تؤثر فى هيكل إقتصاد مصر وفى بنية المواطن المصرى لأنها أخذت وسوف تأخذ مصر بمرحلة تطورها الاقتصادية والاجتماعية إلى مرحلة أرقى سواء كانت هذه النقلة إقتصادية أو بشرية بتعظيم قدرات مصر والمصريين. فالذى يربط بين المرحلتين الأولتين المذكورتين سلفا، محمد على ثم جمال عبد الناصر، هى تلك السمات المشتركة فى مشروعيهما الوطنيين بالرغم من أن الحاكم الأول لم يكن مصريا بينما كان الحاكم الثانى مصريا إلى نخاعه. فالسمة الأساسية أنهما غيرا من تركيبة وهياكل وطبيعة الاقتصاد المصرى ومن البنية الاجتماعية المصرية. وتم هذا التغيير بقيادة الدولة التى كانت فى طورالتكوين فى عصر الأول والتى باتت واقفة وقد اشتد عودها كثيرا فى عصر الثاني. أدخلا مجالات إنتاج جديدة لم تكن مصر تعرفها ولا المصريون يعرفونها. أدخلا تقنيات جديدة على الانتاج المصرى وعلى القوى العاملة المصرية. قدما فنون إنتاج جديدة تماما على المصريين. بنيا بنية تحتية اقتصادية، زراعية أساسا فى عصر الوالى وصناعية زراعية فى عصر عبد الناصر، يستطيع أى حاكم يأتى من بعدهما البناء عليها إذا إمتلك قراره السياسى الوطنى المستقل وإرادته السياسية. ولكن الفارق الهام هو أن الأول لم يتقدم بعلاقات الإنتاج المصرية فاستمر يسيد علاقات السخرة فى العمل الصناعى وبناء البنية التحتية الزراعية. أما الثانى فتقدم بعلاقات الإنتاج نحو القدر المتاح فى برنامجه ومنهاجه الفكرى من علاقات العمل التعاقدى ومع طرح فكرة العدالة الاجتماعية. أذكر هذه السمات المشتركة وهذه الاختلافات دون أن أتناول قضية الديمقراطية فى المرحلتين. فنحن نعرف أن قضية الديمقراطية والحالة السياسية كانتا مطروحتين فى العصرين مع الفارق فى التطور العام الذى كان يشهده العالم “المتقدم” حينذاك. إذا تناولنا بعض التفاصيل فسوف نذكر أن عصر الوالى انتقل بالزراعة المصرية من حالة أقرب فى معظمها إلى زراعة الإستهلاك إلى مرحلة جديدة هى زراعة السوق والتبادل. وهى خطوة هامة فى التطور الزراعى استدعت منه تأسيس بنية زراعية من تشييد قناطر وشق ترع لا تزال إلى يومنا هذا هى البنية الأساسية للاقتصاد الزراعى المصري. بنية تحتية زراعية لم يضف إليها ولكن أضيف عليها. وهو الفارق. بجانب ذلك أقام صناعات لم يكن المصريون يعرفونها، كانت بالفعل تخدم أغراضه لبناء جيش مصرى حديث ولكنها كانت صناعات متطورة تنتج إنتاجا يختلف عن ذلك الخارج من تنظيمات الطوائف الحرفية القديمة. نمت القدرات الاقتصادية والبشرية المصرية وتم تعظيمها بحيث ساعده ذلك على الخروج بالجيش إلى خارج الحدود. أما القفزة الناصرية فكانت فى زمان غير زمان محمد علي، كانت فى مرحلة التحرر الوطنية التى لحقت بنهاية الحرب الثانية. وكانت فى اطار تقدم تقنى لم ينجزه العالم سابقا. فبعد تأميم القناة وخوض معركة بورسعيد ووضع الخطة الخمسية الأولى تعرف الاقتصاد المصرى وكذلك الصانع المصرى على العمل على ما اسميناه ومازلنا نسميه بقاعدة الاقتصاد الانتاجى التي، إذا ما استكملت من صناعات هندسية ومعدنية وتعدينية، تساعد الاقتصاد المصرى على زيادة قدراته الإنتاجية بحيث يستطيع إنتاج الآلة التى تشغل المصانع وليس على انتاج السلعة ذات القيمة المضافة فحسب. فى هذه الفترة تحديدا عرف المصريون فنون إدارة مرفق هام كمرفق قناة السويس وقيادة السفن فى مجراها كما تعرفوا على بناء السفن والسدود وعملوا على محطات كهرباء كبيرة وتعرفوا على مجالات إنتاج لم يكونوا على دراية واسعة بها مثل صناعة الحديد والصلب والكوك وتجميع وإنتاج كل ما يسير على الأرض بعجلات بدءا من العجل والسيارات إلى قاطرات ركاب السكك الحديدية. وتم تقدمهم وزحفهم إلى صناعات إلكترونية دقيقة ودوائية متنوعة وإلى مراكزأبحاث. تعرف المصريون على فنون عمل حديثة وعملوا فى وحدات عمل تضم لاول مرة فى تاريخهم مئات الآلاف من العمال والعاملات. فى فترة ليست طويلة قادت الدولة عملية تعظيم قوى الإنتاج المصرية. ومن الفكاهات التى تتردد سياسيا أن ما بنى خلال هذه الخطة لم يستطع أحد هدمه كله بالخصخصة لحوالى اربعين عاما. والآن ونحن أمام مشروع كبير نطوق إلى أن يحدث القفزة الاقتصادية المصرية التى نحتاجها لتعظيم قوى الانتاج المصرية ماديا وبشريا نتوقع أمورا محددة: أولها أن القفزتين الأولتين لم تتركا حتى تستكملا. اجهضت الأولى بتوقيع الحصار على مصر فى اتفاقية 1840 التى حددت حجم الجيش وقلصت التوسع الصناعى ثم اجهضت القفزة الثانية بعدوان 1967. هنا لا أحلل الاخطاء او الظروف وإنما ارصد الأحداث. لذلك لابد من الحرص خاصة فى تلك الظروف الاقليمية العنيفة. ثانيها أن هذه القفزة المرتقبة تحتاج إلى أوسع مشاركة وتضحية شعبية. نحن الآن لا نعيش فى زمان السخرة ولا فى زمان غياب حقوق الإنسان وحكم التنظيم السياسى الواحد. لقد زحفنا إلى داخل العقد الثانى من الألفية الثالثة بكل ما فيها من تفاعلات شعبية. فالمعروف للجميع ان الذى يحمى مكتسباته هو الشعب صاحب هذه المكتسبات وصانعها. ويقال فى الكتب التى نقرأها ان القفزتين ربما لم يكن لهما أن ينتهكا بهذا الشكل إذا كان ملاكها وصناعها يمتلكون السلاح الذى يدافعون عنها به وهو “سلة الحقوق التى تصنع الديمقراطية”. هكذا يقال وهكذا يحدث دائما. سنعمل من أجل تعظيم قوى الإنتاج المصرية لاستكمال بناء دولتنا الحديثة الديمقراطية المدنية التنموية. لمزيد من مقالات أمينة شفيق