السياسة هي قاطرة الثقافة. كانت السنوات التي شهدت صعود الإخوان إلى السلطة بعد ثورة يناير، وإسقاطهم في انتفاضة يونيه 2013، لحظة «تنوير» جماهيرية هائلة، تبنت فيها قطاعات واسعة من الشعب بشكل ضمني مبدأ فصل الدين عن السياسة. للمرة الأولى منذ أكثر من ستين عاما تتاح الفرصة لتجاوز الأصولية الإسلامية بعد أن كشفت عن إفلاس شامل، أخلاقي وسياسي وفكري. لم تكن لحظة «التنوير» الجماهيري هذه ممكنة طالما ظل نظام ثورة يوليو جاثما على أنفاس المجتمع والثقافة. عادة يُنسب صعود التيار الإسلامي إلى عصر السادات، لأنه تحالف مع الإخوان، بأن أفرج عنهم، ثم سخّر إمكانيات الدولة من خلال الأجهزة الأمنية لتدعيم التيار الإسلامي ككل في مواجهة خصومه من الجناح اليساري للنظام، بعد أن أطاح به من السلطة فيما أسماه «ثورة التصحيح» في مايو 1971. واقع الأمر أن علاقة التحالف/ الصدام بين قوى الحكم المصري الديكتاتورية والأصولية الإسلامية قديمة وأساسية. بصفة عامة، كانت علاقة التيار الأصولي بالقوى الديكتاتورية إشكالية دائما. منذ البداية تحالفت السراي الملكية وأحزاب الأقلية مع تنظيم الإخوان، ثم أتت لحظة الصدام: قَتَل الإخوان رئيس الوزراء النقراشي، ورد الملك بقتل حسن البنا. وبعد يوليو 1952، تحالف الإخوان مع الضباط الأحرار في فترة القضاء على الأحزاب وفرض الديكتاتورية، ثم أتى الصدام بسبب عدم الاتفاق على تقسيم كعكة السلطة. وأدّى التحالف في عهد السادات إلى اغتياله على أيدي تنظيم الجهاد المنبثق من التيار الإسلامي الذي رعاه. ومنذ أواخر التسعينيات، أخذ مبارك يواجه مشكلة صعود aالإخوان، الذين خدموا النظام لفترة في جهود المواجهة «الفكرية» للتيار الجهادي الذي كان يُكَفِّر الدولة ويواجهها بالسلاح. هذه العلاقة الإشكالية بين الأصولية الإسلامية والديكتاتورية ليست عَرَضية، ولا سطحية قائمة على مجرد تبادل المنافع، بل ترجع إلى نوع من فلسفة ديكتاتورية مشتركة جعلت التحالف ممكنا، وجعلت هذا النوع من الحكم بمثابة المناخ الملائم لازدهار الأصولية. الفكرة الأصولية الإسلامية هي بطبيعتها فكرة ديكتاتورية، تختزل الإسلام إلى مقدمة قصيرة عن العقيدة، يترتب عليها مجموعة أوامر ونواهٍ واجبة الاتباع. وتجعل الدين في الأساس نظام حكم (وفقا لسيد قطب)، يقوم على فرض الأوامر والنواهي الإلهية، أو تطبيق «الشريعة». وبناء عليه يرى كل تنظيم أصولي نفسه مسئولا عن تحقيق ذلك فعليا، بتسخير الدولة للدعوة، وفرض الطاعة على الجميع. ويكمن الفارق بين التنظيمات الأصولية المختلفة في الوسائل التي تُعتبَر ملائمة لتحقيق هذا الهدف. فبينما رأت التنظيمات الجهادية أن ذلك يتحقق بقتال «الدولة الكافرة»، رأى الإخوان أنه يتحقق ب«خلق المجتمع المسلم» بالدعوة، قبل المطالبة بالحكم. مثلما كان الإسلاميون يحلمون بالديكتاتورية لتحقيق مهمة «سامية» هي «تعبيد الناس لربهم»، كان نظام ثورة يوليو يهدف إلى تعليم الشعب «العزة والكرامة»، على حد تعبير عبد الناصر، وقيادته في «زحف مقدس» لتحقيق الأهداف الوطنية، وعزله عن التأثر ب«أعداء الشعب» المتآمرين عليه؛ الأمر الذي تطلَّب وفقا ل«فلسفة الثورة» حظر نقد النظام، بل وحظر إثارة أية قضايا تُحدِث «بلبلة» في الرأي العام؛ الأمر الذي يعني وضع خطوط حمراء مختلفة لا يجوز أن يتخطاها أحد، وتحديد النطاق المسموح به للاختلاف، وتحديد «حصة» لكل تيار من التيارات الأيديولوجية في أجهزة الإعلام وفي الثقافة. والنتيجة هي خلق جو مناسب تماما لصعود التيار الأصولي، الذي يوافق على كل هذه الإجراءات من حيث المبدأ، رافضا في نفس الوقت استعمالها في غير تحقيق أهدافه ونشر رؤاه الخاصة (الأمر الذي يؤدي إلى الصدام). بل يمكن القول بأن الديكتاتورية لا تلبث أن تضفي طابعها السلطوي على كافة التيارات الفكرية في المجتمع وتصبغها بصبغتها، لتحول صراعاتها من صراعات فكرية إلى اتهامات متبادلة بالخيانة والعمالة وبالخروج على «ثوابت الأمة» وما إلى ذلك. أدت لحظة انتصار السادات إلى زيادة تعقيد هذه العلاقة بين الديكتاتورية والأصولية. كان النظام المصطلح عليه ب«الناصري» منقسما أصلا بين تيار بيروقراطي- يساري، وتيار محافظ- إسلامي، كان ممثلا طيلة الوقت داخل النظام، بل وأنتج وثيقته الخاصة، المسماة «تقرير الميثاق»، وهي عبارة عن تعقيب رسمي على الميثاق - الوثيقة الأيديولوجية الرئيسية للنظام في الستينيات - من وجهة نظر محافظة/ إسلامية مشتركة. ولم تكن «ثورة التصحيح» سوى لحظة انتصار هذا الجناح الأخير، ليصبح التيار الإسلامي (داخل النظام وخارجه) شريكا، منذ هذه اللحظة، مع القوى المحافِظة اجتماعيا في السلطة، في إطار هيمنة الأجهزة الأمنية. في هذه الشراكة كانت الأصولية هي التي تقدم الغطاء الأيديولوجي لنظام يفتقر إلى هذا الغطاء بطبيعته. لذلك، لم يؤد الصدام بين النظام والإسلاميين في عهدي السادات ومبارك إلى تغير وجهة النظام، بل إلى تنافسه على الشرعية الإسلامية مع القوى الأصولية. في البداية، اعتمد النظام على الإخوان وعلى الأزهر في «تكفير» الجماعات الجهادية التي كفّرت النظام ونادت بإسقاطه بالقوة. وبعد هزيمة الجماعات الإرهابية، واجه النظام الإخوان بمحاولة تخليق خطاب شرعية إسلامية للنظام، فزادت الجرعة الإسلامية في الإعلام، وجرت أسلمة فجة لمناهج الدراسة، مقابل محاولة «تطهير» التعليم من الموالين مباشرة للإخوان أو لغيرهم من الجماعات التي اعتُبرت خطرا على النظام. ولم يكن أعضاء الحزب الوطني في البرلمان يختلفون في رؤيتهم الأصولية المحافظة كثيرا عن الإخوان، بل ظهرت عليهم كافة أعراض الأصولية الإسلامية، من كراهية تقديم أي حقوق للمرأة إلى المساهمة بقوة في تجريم الفكر الحر. وهكذا ظل النظام ملتزما بإطار الأصولية، غير قادر على تجاوزها. ومع ضعف شرعية النظام بشكل متزايد، أفسح النظام فعليا المجال للجماعة «المحظورة»، فأتاح لها وجودا علنيا شَمِل مقرا معروفا لمكتب الإرشاد وصولا إلى إدلاء أعضائه بالأحاديث في الصحف، ومشاركتهم في عضوية البرلمان، إلخ. في هذا السياق السياسي السلطوي- الأصولي، لم يتوافر للتنوير والإصلاح الديني إلا مجال ضيق محكوم بآليات النظام السلطوية، وبشرعيته المعرّضة لابتزاز الأصولية. لم تكن المشروعات الثقافية التي رعاها النظام لموازنة هيمنة الخطاب الأصولي قادرة على تعديل الموازين فعليا، بل كانت مقيدة بالمحظورات المختلفة التي التزم بها النظام في التعامل مع التيار الأصولي. اكتفى التنوير المدعوم حكوميا بترديد مقولات التنوير، مقلصا إطار المواجهة مع الأصولية إلى أقصى حد. فمثلا لجأ في سلسلة كتب بعنوان «المواجهة» إلى القتال بالموتى، فنشر نصوص التنويريين القدماء الذين كتبوا في النصف الأول من القرن العشرين، بل وحذف مقاطع منها لعجزه عن الدفاع عن هذا التراث. وبفعل الارتباط بالسلطة، المفلسة إيديولوجيا والمتراجعة في أدوارها الاجتماعية، اكتفى معظم النقد «التنويري» بإلقاء اللوم على البترودولار وعلى الثقافة الصحراوية وعلى المؤامرة الأمريكية، أو حتى على السادات وسياساته، وكأنها سياسة جاءت من محض مزاجه الشخصي. وباختصار انتقدوا أي شيء عدا النظام نفسه وعلاقته المعقدة بالأصولية. واقع الأمر أن أية جهود تنويرية فعالة أتت من خارج إطار النظام ومن ناقدين كبار له، مثل نصر حامد أبو زيد وخليل عبد الكريم. لا يوجد ولا يمكن أن يوجد «تنوير» سلطوي. فقط بفعل لحظة ثورة يناير- يونيو وما بثته من حيوية مجتمعية، انفتح الباب لمواجهة حقيقية للأصولية، تتخطى «الخطوط الحمراء» القديمة، وتعيد فحص المسلمات العقائدية والفقهية الأصولية. تظل السياسة هي قاطرة الثقافة. لمزيد من مقالات د. شريف يونس