الخارجية تكشف وضع الجالية المصرية في ليبيا بعد الأحداث الأخيرة    ليفاندوفسكي حاول ولكن.. برشلونة يختتم الدوري الإسباني بثلاثية في بلباو    صلاح: لم أتوقع فوز ليفربول بالدوري الإنجليزي.. وسأستمر حتى 40 عاما    إصابة نجل الفنان أحمد عز وزينة داخل ملعب كرة قدم في الشيخ زايد    موجة شديد الحرارة و ذروتها اليوم.. الأرصاد تكشف حالة الطقس    بعد إنكاره للتهم المنسوبة إليه.. تأجيل محاكمة سفاح المعمورة    تنفيذًا لحكم قضائي.. المحامي المتهم بتزوير توكيل عصام صاصا يسلم نفسه لقسم شرطة الجيزة    البترول تكشف تفاصيل حادث تسرب غاز في محطة كارجاس رمسيس    بعد تعرضه للتنمر حمو بيكا يدافع عن حسن شاكوش.. ماذا قال؟    زوجة واحدة وربع دستة عشيقات في حياة أقوى عازب في العالم.. حريم بوتين    "هآرتس": قدرة "حماس" لم تتراجع ولديهم 40 ألف مقاتل وآلاف الصواريخ والقذائف    "إعلان عسكري لافت".. جيش السيسى يكشف "مخططاً كبيراً".. فهل يمهد لحدث غير اعتيادي؟    البرلمان الألماني: تجويع سكان غزة يخالف القانون الدولي    مجلس إدارة التعليم المدمج بالأقصر يناقش استعدادات امتحانات الترم الثاني خلال اجتماعه الدوري    تراجع سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء الاثنين 26 مايو 2025    يوفنتوس يحسم التأهل لأبطال أوروبا بعد منافسة مع روما.. وهبوط فينيسيا وإمبولي    رياضة ½ الليل| صلاح يتمنى بطولة.. تأهل بطعم التتويج.. اعتذار للجماهير.. قرعة المونديال.. وذكاء كوبر    نجم الأهلي السابق: محمد صلاح ظُلِم في الكرة الذهبية.. وإبراهيم عادل يستحق الاحتراف    جدول ترتيب هدافي دوري المحترفين بعد نهاية مباريات الجولة ال 37    5 خطوات لحجز «حلاقة مرموش».. الدفع مقدمًا بال«الفيزا» والتكلفة مفاجأة    عيار 21 الآن بعد الزيادة الأخيرة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 26 مايو في الصاغة (تفاصبل)    النائب أحمد السجيني: تحفظات كثيرة على مشروع قانون الإيجار المقدم من الحكومة    التعليم تحسم الجدل: مدراء "المبادرة الرئاسية" مستمرون في مناصبهم -(مستند)    اتهام مواطن يحمل الجنسيتين الأمريكية والألمانية بمحاولة شن هجوم على السفارة الأمريكية في تل أبيب    الخارجية الروسية: سنُقدم مذكرة احتجاج إلى السويد بعد هجوم على سفارتنا    كلب شرس يطارد ابن زينة في الشيخ زايد    ممثلة شابة تتهم طليقها بمطاردتها أعلى المحور.. والشرطة تتدخل    منظمة دولية تطالب سويسرا بالتأكد من إجراءات مؤسسة "غزة الإنسانية"    لا تتمسك بما لا يخدمك.. برج الجدي اليوم 26 مايو    عمرو أديب عن إرث نوال الدجوي: «قصر واحد على النيل يعيش العيلة في نعيم مدى الحياة»    ابنة وليد مصطفى خلال حفل «كأس إنرجي للدراما»:«سنكمل وصية والدي بكل إخلاص»    حدث بالفن | أزمة هيفاء وهبي والموسيقيين والعرض الخاص لفيلم "ريستارت"    داليا البحيري ترد على منتقدي عدم ارتدائها الحجاب: "بص في ورقتك ودع الخلق للخالق"    عايدة الأيوبي: لم أسعَ إلى الشهرة وهذا سبب اعتزالي    محمد صلاح: «مكة بتحب التمثيل.. ومش عاوزها تمثل عشان بنتي»    معجزة طبية في الفيوم: استخراج فرع شجرة من جسد طفل دون إصابات خطيرة    فريق من الجامعة الأمريكية يبدأ تقييم نظم الرعاية الصحية في مصر    إنشاء كليات وجامعات جديدة.. أبرز قرارات مجلس الجامعات الخاصة مايو 2025    نماذج امتحانات البلاغة والصرف والنحو لالثانوية العامة الأزهرية 2025 بنظام البوكليت    عاجل- وزارة الكهرباء تُطمئن المواطنين: لا تخفيف للأحمال في صيف 2025    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الإثنين 26 مايو 2025    صلاح: كنت سأنتقل إلى الدوري السعودي إذا لم أجدد عقدي مع ليفربول    فى ختام التعاملات.. أسعار الذهب فى مصر اليوم    وكيل صحة بالمنوفية يتفقد أعمال التدريب بالمركز الصحي بأشمون    كيف أطاحت نكتة بوزير ياباني من منصبه؟    تنفيذ أضخم مشروع جينوم بالشرق الأوسط وتسليم عينات جينوم الرياضيين    أحكام الحج (1).. علي جمعة يوضح ما هو الحج وحكمه وفضل أدائه    ما حكم سيلفي الكعبة المشرفة؟ عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى تجيب    هل السجود على العمامة يبطل الصلاة؟.. الإفتاء توضح الأفضل شرعًا    المفتي: يوضح حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع    دليلك لاختيار الأضحية في عيد الأضحى 2025 بطريقة صحيحة    «الإسماعيلية الأزهرية» تفوز بلقب «الأفضل» في مسابقة تحدي القراءة العربي    "عاشور ": يشهد إطلاق المرحلة التنفيذية لأضخم مشروع جينوم في الشرق الأوسط    جدول مواعيد الصلاة في محافظات مصر غداً الاثنين 26 مايو 2025    النواب يوافق نهائيا على مشروع تعديل قانون مجلس الشيوخ    نائب رئيس الوزراء: زيادة موازنة الصحة ل406 مليارات جنيه من 34 مليار فقط    لخفض البطالة.. كلية الاقتصاد جامعة القاهرة تنظم ملتقى التوظيف 2025    إعلام: عطل في اتصالات مروحية عسكرية يعطل هبوط الطائرات في واشنطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السويس.. رايح جاى
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 08 - 2014

فى الحفل البريطانى الكبير المقام بقصر باكينجهام بتاريخ 26 يوليو 1956 يلاحظ نورى السعيد رئيس وزراء العراق الجالس بمقربة من صاحب الدعوة أنتونى إيدن رئيس وزراء بريطانيا أنه بمجرد اطلاعه على محتوى ورقة صغيرة انحنى يقدمها له أحد رجاله على عجل حتى امتقع وجهه بشدة وتشبث بكلتا قبضتيه بمسندى مقعده،
فتساءل المدعوون ماذا حدث؟!! ليدلى «إيدن» إليهم بالخبر الكارثة.. عبدالناصر قام الآن بتأميم قناة السويس.. فقال له نورى: اضرب بقوة.. واضرب الآن.. ولم يكن إيدن فى حاجة لمن يسدى إليه النصيحة، فقد صرخ فى صدر الاجتماع الذى عقده على الفور بحضور رؤساء هيئة الأركان والسفير الفرنسى «إن المصرى يضع أصبعه على قصبتنا الهوائية».. ولم يكن قد مضى أكثر من شهر واحد فقط على سحب بريطانيا لآخر جنودها الثمانين ألفاً من مصر بمقتضى اتفاقية 1954، وكانت القناة التى ظلت سنوات طويلة ممراً مائياً إلى الهند قد تضاعفت أهميتها منذ عام 1945 عندما أصبحت معبرًا للبترول، الذى يضم ثلاثة أرباع البترول البريطانى إلي جانب أن ثلث مجموع السفن التى تمر بالقناة بريطانية.. وأتى إحساس فرنسا المستشاط غيظاً توءما لغضبة انجلترا، فقد خسرت حربها فى الهند الصينية، وتخسر حرب الجزائر يوماً بعد يوم بسبب الأسلحة المصرية التى تتدفق على الثوار الجزائريين، ومن هنا تلتقى انجلترا وفرنسا فى خطة اللجوء إلى القوة لتشاركهم إسرائيل التى تراها فرصة سانحة لتوجيه الضربة القاصمة للعرب.. و..يدوى صوت عبدالناصر من فوق منبر الأزهر «لن نستسلم.. سنقاتل» ويندحر العدوان الثلاثى.. وكانت كلمة السر التى اختارها ناصر كى يتحرك فريق تأميم القناة عند سماعها فى خطابه ليضعوا أيديهم على مقر شركة قناة السويس هى «ديليسبس»..
فرديناند ديليسبس ابن ماتيو ديليسبس الذى كان مبعوثاً شخصياً من بونابرت إلى مصر عام 1803 قبل الحملة بعامين لمساندة محمد على فى صراعه مع المماليك وحربه ضد الإنجليز فى حملة فريزر على مصر، ويعهد محمد على بابنه «سعيد» إلى الابن فرديناند لتثقيفه وتحفيزه على خفض وزنه، فقد كان مشهورا منذ طفولته بسمنته المفرطة وشراهته في تناول المكرونة.. وإذا ما كان محمد على قد رفض مشروع قناة السويس حرصاً على تجنيب مصر ويلات التدخل الأجنبى، فقد استطاع فرديناند أن يحوز على موافقة سعيد عندما قال له «يمكنك الاعتماد علىّ».. وكان الفرنسى يدخل فى أى وقت شاء على الباشا ليحدثه فى شئون القناة فما كان من الخديوى سعيد إلا أن قال له محذرًا: «إذا دخلت مجلسى وكنت ممسكاً بالعصا الانجليزية فلا تحدثنى فى موضوع القناة لعل هناك أحد من الحاضرين لا أود أن يعرفه، أما إذا رأيتنى أحمل العصا التى أهديتها أنت لىّ فلا تتردد فى أن تحدثنى بحرية»... وعندما استدعاه مرة من منطقة الحفر فى السويس لاطلاعه على رسالة من الباب العالى التى يخبره فيها بامتعاضه من مضيّه قُدمَا فى مشروع القناة دون الحصول على الموافقة النهائية للسلطان، فما كان من ديليسبس إلا أن نصحه بأن يحذو حذو رؤساء المجالس المحلية فى إسبانيا عندما ترد لهم أوامر ملكية يرون أنها تتعارض مع مصلحة البلدة فكانوا يقولون Se acutajero no se cumple أى «نحترمه لكن لا ننفذه» وأرضت هذه النصيحة سعيدًا، وعاد ديليسبس لمواصلة العمل ليسير على هدى نابليون بونابرت فى استمالة المصريين بالعزف على الواعز الدينى ليستشهد بكل آية تحدثت عن البرزخ أو المياه أو البحر ليثبت للمسلمين أن القرآن قد أمرهم بحفر قناة السويس «مرج البحرين يلتقيان.. بينهما برزخ لا يبغيان.. فبأى آلاء ربكما تكذبان» ولا يقتصر نشاط ديليسبس على الدعاية بأنه يبنى مسجدًا فى كل ساحة من ساحات الحفر، فقد عمق صداقته بالعَالِم الشيخ رفاعة الطهطاوى الذى امتدح مشروع القناة فى قصيدتين الأولى عام 1856 والثانية فى 1862 ليقوم اللورد بيرون بترجمتهما إلى الفرنسية..
عندما انغرست الفؤوس فى جسد مصر الذى يفصل آسيا عن أفريقيا، وتم توصيل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر زادت أهمية المكان فزادت أعباء الإنسان وجرت القناة شرياناً من دم المصريين، وتحول هذا الجهد المصرى البحت فى سوق السياسة الدولية إلى ذهب يدخل جيوب الأجانب.. و«منذ شقت قناة السويس، ومنذ حَلّ البخار محل الشراع الذى كانت تعاكسه رياح البحر الأحمر أصبحت القناة شريان المواصلات العالمية وعنق الزجاجة فى شبكة المِلاحة وتحولت إلى قِبلة كأنما الدنيا كلها على ميعاد فيها».. بتلك الكلمات يلخص جمال حمدان عالِم الجغرافيا الجليل أهمية القناة، ولئن كانت قناة السويس مصرية بحكم الميلاد الجغرافى فإنها بأكثر من ذلك مصرية بسبب ما أريق فيها من دماء وأحزان، ولقد جاء على مصر وقت كان أى تفكير فيها يجىء بعد التفكير فى قناة السويس، وبدلا من أن تحكم مصر قناة السويس انقلب الوضع وحكمت قناة السويس مصر.. وبسبب أهمية موقعها الجغرافى كانت مسرحاً للأحداث بمنطقة القناة، فقد فتح الستار وبدأت مسرحية التاريخ تلعب دورها، وكان الأبطال الرئيسيون دائمًا من الأجانب فى مشاهد مصيرية تجرى على أرض مصر اختزل فيها دور المصريين داخل نطاق الجوقة والكومبارس الذين يرددون سيمفونية الأنين عندما تنتزعهم السخرة من أحضان البيت والأم والزوجة والأبناء ويقيدون بالحبال فى أيديهم كى لا يفروا، ثم يساقون فى طوابير طويلة منذ بدايات الرحلة لنقطة التجمع فى الزقازيق ونهاية المطاف على أرض الحفر فى القناة.. وتقول الوثائق الرسمية للحكومة المصرية إن 60 ألفا كانوا يخصصون شهرياً للحفر فى وقت كان تعداد مصر فيه 4 ملايين، وقالت الوثائق أيضا إنه خلال السنوات الخمس الأولى للحفر مات من العمال تحت الانهيارات الرملية ما يزيد على المئة ألف دون دفع جزاء ولا تعويض.. ماتوا قبل يوم 17 نوفمبر 1879 يوم احتفال خديو مصر إسماعيل باشا بافتتاح قناة السويس بإطلالة الإمبراطورة أوجينى.. نفقوا ولم يشنفوا آذانهم بأوبرا عايدة للموسيقار العالمى فيردى..
جبابرة حفروا القناة، أحفاد جبابرة شيّدوا الأهرامات، آباء جبابرة بنوا السد العالى، أبناء جبابرة بنوا مصر وغنوا فوق السقالات لمضغ الوقت وتهوين التعب: هيلا هوب هيلة.. وتدق ساعة العمل من جديد ولأول مرة يعكس صوت التفجير في قلبى الزغاريد، فالساتر الترابي ينزاح من على القلب كما انزاح من قبل خط بارليف، ليشق المصريون الجبابرة قناة السويس الثانية التي تقضى على أحلام إسرائيل فى مشروع بدأته منذ 2012 لتنهيه 2017 بإنشاء خط سكك حديدية تربط بين تل أبيب على المتوسط وإيلات على البحر الأحمر، لنقل الركاب والبضائع من آسيا وأوروبا والشرق الأوسط لتغدو بديلا لقناة السويس شريان حياة المصريين التي سوف يمتلك أسهمها البالغة 500 مليون سهم فى بعثها الجديد كل من: سعيد البقال، وكريمة مُدرسة الألعاب، ومحمد التمورجى، وسلامة طالب الأزهر، والدكتورة هدى، والأستاذ مخيمر، ومريم المهندسة، ورانيا أخت الشهيد إدوارد، وإيهاب الصحفي تحت التمرين، وكارم بياع اللمبات الموفرة الخ.. الخ.. لتظل السفن العملاقة تمخر العباب بلا توقف.. رايح جاى.. فى خطة تنمية عملاقة تُحوِّل مصر إلى مركز صناعى وتجارى عالمى فى مسيرة التحدى والبناء والتوسع التى يؤمن بها السيسى فى سياسته الانفراجية نقية السريرة ثابتة الخُطى لتحيا مصر.. ربنا يوسع عليه.. ولأجل النبى لأجل النبى لأجل النبى يحفظ رئيسنا والنبى لأجل النبى..

إمام العدل
فى حلوان جاء مولده عام61 ه أيام كانت مرتعا وملعبا وجنة وهواء عليلا طيبا وينابيع شفاء.. أيام كانت حلوان عاصمة فى زمن آل مروان هروبا من طاعون البلاء.. أيام كانت شجرا وثمرا وحدائق غناء ونخيلا وأعنابا وقصرا منيفا لحاكم البلاد.. أيام كانت حلوان ملاذ الأمان لعمر بن عبدالعزيز بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف... و..تبقى حلوان من بعده قرونا جنة الرحمن التى نلحق بها فى زماننا نلهو بين ربوعها وتغمرنا ينابيعها ونبيت فيها منتجعا للصحة والجمال.. حتي.. حتى سكن الطير وتحجر الشجر وانسدت الرئات واختنقت الحديقة اليابانية وانكفأ تمثال بوذا على وجهه حزنا على ما أصاب ملجأ الخلفاء ومدينة الشفاء بعدما زحفت المصانع والمداخن والتلوث والسناج والهباب، وكانت نقطة البداية الرعناء انتقال مصانع الحرير من دمياط إلى حلوان، وبعدها أتاها نذير الموات مع الحديد والصلب والصهر والطرق وذرات كربون وغبار أسمنت معلقة فى الفضاء وأسياخ الأفران ودرن الرئات ثم غابات العشوائيات.
فى زمانه وزمان حلوان رمح الأمير الصغير فى حدائق قصر والده لتسوقه قدماه إلى حظائر الخيل فيثب بينها لاهيا يمسح على رؤوسها ويتأرجح مع أذيالها فإذا بجواد ملول يترفع عن اللعب مع الصغار يزيحه بركلة تلقيه أرضا بعدما شجت جبينه فيحمل لوالده والدم يغطى وجهه الباكى البريء، وقبل أن يغشى الأب الأسى على ابنه طافت بخاطره ذكرى ألقت على وجهه راحة كبرى ليزف لزوجته سبب البشري: أبشرى يا أم عاصم لقد تحققت نبوءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فى ابننا الحبيب بهذه الدماء.. وكانت بداية النبوءة عندما كان ابن الخطاب يطوف ليلا فى طرقات المدينة لعل هناك جائعا أو مريضا أو مقهورا فى حاجة لمعونة، وعندما أرهقه الطواف لاذ بحائط دار فقيرة فترامى لأذنيه حوار بين أم وابنتها حول اللبن الشحيح الذى جاد به ضرع عنزتهما العجفاء، وكانت الأم تدعو ابنتها لتخلط اللبن بالماء ليفى ثمنه بحاجاتهما: يا بنية امزقى اللبن بالماء.. وتجيبها الابنة: كيف أمزق وأمير المؤمنين نهى عنه!..
فتعود الأم: إن أمير المؤمنين لا يرانا الآن.. امزقي.. وتجيبها الابنة: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا.. و.. عاد أمير المؤمنين لداره ليدعو عاصم ابنه موجها نصيحته: اذهب فتزوج الابنة فما أراها إلا مباركة ولعلها تلد رجلا يسود العرب.. وتزوج عاصم الفتاة لتلد له ليلى وكنيتها أم عاصم التى تزوجت بدورها عبدالعزيز بن مروان لتلد له عمر بن عبدالعزيز، وتكتمل النبوءة عندما يرى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا نهض منها ليسأل قبل أن يأتى الحفيد بأربعين عاما: من هذا الأشج من بنى أمية؟ ومن ولد يسمى عمر يسير بسيرة عمر ويملأ الدنيا عدلا؟!!.. و.. تركل الفرس جبين الموعود فيشج ليتذكر والده نبوءة الجد فيهتف غبطة: إن تكن أشج بنى أمية، إنك إذن لسعيد!!
ابن الرفاهية والنعيم جميل الطلعة أبيض البشرة نحيل القوام مسدل الشعر، من كان إذا سار هب عبق المسك يعلن قدومه، ويطبع بخاتمه فيفوح موضعه العنبر، ويشترى الثوب الثمين ليرتديه مرة واحدة، ويمشى مشية متأنقة متبخترة يحسده عليها الطاووس سميت باسمه «المشية العمرية».. وكان ركبه فى السفر 40 جملا محملا بالمتاع وأفخر الثياب.. ركب يغادر مصر إلى المدينة ليدرس بها ويتفقه وهى يومئذ منارة للعلم ومجتمع يموج بالنبوغ الإنسانى فى فنون الشعر والعزف والغناء، ويستجيب لرغبة والده فى أن يدرس إلى واحد من كبار فقهائها صالح بن كيسان، وحدث أن تأخر عمر عن صلاة إحدى الفرائض مع المصلين بمسجد الرسول فسأله بن كيسان عن سبب تأخره فأجاب فى صدق: كانت ماشطتى تمشط شعرى.. فقال أستاذه فى عتاب: أو تقدم تصفيف شعرك على الصلاة؟!!.. ولأن الأب عبدالعزيز بن مروان حاكم مصر قد أوصى بن كيسان بالكتابة الدائمة له عن آخر أخبار ولده فأرسل إليه بهذه الواقعة ليأتى أمر عبدالعزيز للابن عمر بأن يحلق شعره جميعه!..
فى شباب عمر كشف نزوعه الفنى عن موهبة أصيلة فى الغناء والتلحين، ولو احترف عمر صاحب الصوت العذب الشجى لبذ بصوته أساطين الغناء، ولو مضى فى التلحين لنافس أقطابه، ويسبق الموهبتين لدى عمر بن عبدالعزيز ولعه بالشعر، يقبل عليه حافظا متذوقا ناقدا.. وفى الخامسة والعشرين أولاه الخليفة «الوليد بن عبدالملك» إمارة المدينة ومكة والطائف لتكون أولى حسناته عقده مجلسا للشورى من عشرة من كبار الفقهاء أصحاب العلم والمعرفة لا أصحاب المال والنسب، وبعدها لم يقطع أمراً إلا بعد مشورة العشرة، ويقبل على الإصلاح بإطلاق السجناء من أصحاب الآراء المعارضة بمنهاج: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. ويعين للقضاء العالم الورع أبا بكر بن حزم متوجا قراره بدستور يقضى بأنه لا ينبغى للمرء أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: «أن يكون عالما مستشيرا لأهل العلم، ملقيا للطمع، منصفا للخصم، مقتديا بالأئمة»....
وأدرك عمر أن أمير المؤمنين الوليد عندما استدعاه بحجة أن يكون وزيرا بجانبه فى دمشق إنما عزله ليبقيه تحت رقابته وعيون الحجاج الطاغية الذى بلغ فى سجونه بالعراق وقتها مائة ألف سجين... ويهتف أحد العلماء: ليت أهل العراق يثورون عليه ويقتلونه! فيقول عمر: «إن للحجاج عقوبة من الله، فلا تتعجلوا عقوبة الله بالسيف»... ويأتى بريد العراق بخبر موت الحجاج وإذ سمع عمر النبأ سجد لله شكرا وصلى ركعتين.. ويقبل أهل الشام يعزون الوليد فى الحجاج فتخلف عمر فسخط عليه الوليد ليلومه: مامنعك يا عمر أن تعزينى فى الحجاج كما عزانى الناس؟ ورأى عمر أن يصطنع الحيلة فى الرد على من فى وجهه نية الفتك: إنما الحجاج منا أهل بيت ونحن نعزى به ولا نعزى فاستراح الوليد قائلا: صدقت!!
وتأتيه الخلافة بكتاب سليمان أمير المؤمنين: من عبدالله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبدالعزيز، «إنى وليته الخلافة من بعدى ومن بعده يزيد بن عبدالملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم».. ويدخل عمر المسجد فإذا هو غاص بحشود الوافدين فرآها فرصة للخلاص من المنصب قبل أن يتشبث بكاهله، فصعد المنبر وخطب فى الناس: أما بعد، فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأى منى فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين، وإنى أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم.. ولم يكد يفرغ حتى اهتز المسجد بدمدمة الاعتراض: بل إياك نختار يا أمير المؤمنين.. ويكتب المؤرخون عبارة هى الخلاصة لمفهوم خلافته: بويع عمر بن عبدالعزيز فقعد للناس على الأرض.. بمعنى الخضوع المطلق لحقوق الناس الذين يلى الخليفة أمرهم ويحمل مسئولية مصائرهم فإنه بمكانه هذا يكون بين أيديهم وليسوا هم الذين بين يديه.. قعد على الأرض زاهدا فى فراش الملك إلى الحصير ليهدم كل ما للسلطة من بذخ واستعلاء ولينزلها عن عرش الصلف والكبرياء إلى أرض البساطة والرحمة..
تنازل عن كل شىء.. عن ثروته حتى ولى الخلافة وكانت أربعين ألف دينار سنويا، وأرضه التى يملكها وجواريه وقصوره وماله وثيابه حتى فص الخاتم فى يده رده إلى بيت المال قائلا عنه: أعطانيه الوليد من غير حقه... وبقيت له قطعة أرض صغيرة اشتراها بحر ماله لا تعطى أكثر من مائتى دينار فى العام لحاكم أعظم وأكبر وأغنى إمبراطوريات عصره يعيش بها هو وأسرته.. ويسرج شمعة من المال العام يقضى على نورها حوائج المسلمين فإذا فرغ أطفأها ليقضى حوائجه على سراجه... يرفض الجزية على الذين أسلموا من أهل البلاد المفتوحة ويخففها عن غير المسلمين مطلقا صيحته: «إنما بعث محمد هاديًا لا جابيًا».. يصدر أوامره الصارمة الحازمة إلى الولاة فى كل الأمصار: «لا تهدموا كنيسة، ولا تزيلوا معبدا».. يمنع التعذيب للحصول على الاعتراف قائلا: لأن ألقى الله بمعاصيهم خير من أن ألقاه بدمائهم»!.. يكتب لكل عماله فى البلاد: لابد لكل رجل من مسكن يأوى إليه، وخادم يكفيه، وفرس يجاهد عليه، وأثاث فى بيته، فإذا كان غارماً فاقضوا عنه ما عليه.. وهو الذى اشتهى التفاح فأتاه هدية فرده فلما قالوا له: النبى قبل الهدية أجاب: هى له هدية ولنا رشوة.. وهو الذى ردد قول الرسول عليه الصلاة والسلام: لا تنظروا إلى صيام أحد ولا صلاته، ولكن انظروا إلى صدق حديثه إذا حدث وأمانته إذا اؤتمن، وإلى ورعه.. وهو الذى قال: «يهدم الإسلام زلّة عالم، وجدال منافق فى القرآن، وأئمة مضلون».. وتفيض الأموال وينصلح الحال ويدور المنادون فى كل مكان فى الحضر والبادية لينادوا فى الناس: أيها الغارمون؟ أين من يريدون الزواج؟ أين المساكين؟ أين اليتامي؟ ويخرج الأغنياء بزكاتهم فلا يجدون فقيرا يأخذها، وحتى المولود له راتبه وعطاؤه بمجرد ولادته وليس بعد فطامه حتى لا تتعجل الأمهات فطام الرضع فيتعثر نموهم وتخور قواهم، وكفل عمر على حساب الدولة لكل مريض خادما ولكل أعمى من يقوده.. وحتى الخوارج جادلهم بالتى هى أحسن ليقول له رسولهم: أشهد أنك على حق وأننى بريء ممن خالفك.. و.. تشاركه زوجه فاطمة التقشف الذى فرضه على نفسه وبيته وترتعد أوصالها من الجوع والصقيع قائلة: ياليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين.. فوالله ما رأينا سرورا قد أدخلته علينا!!.. وإذا ما كانت الشهور التسعة والعشرون التى عاشها عمر بن عبدالعزيز خليفة تعتبر بالنسبة للتاريخ الإنسانى كله بمثابة لحظة فإنها اللحظة التى أعطت للإنسانية ما تستطيع الإرادة أن تحققه من عدل إذا ما جعلت الله رقيبا..
خشى بنو أمية أن يترك عمر الأمر شورى بعده فيخرج الملك من أيديهم فدسوا له السم الزعاف ليفيق من نوبات الألم يلتمس مرأى أقرب الناس إليه ليهونوا عليه، فسأل عن ابنه عبدالملك فوجده يحتضر، وعن أخيه سهل ومولاه مزاحم فعلم أنهما انتقلا إلى رحمة الله.. فمن يعينه بعدهم على ما ابتلاه الله به؟!!!.. فاضت عيناه بالدمع إشفاقا على نفسه من ثقل الأمانة التى يحملها والتى عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.. راح يسابق المنية فى إنجاز ما يستطيع إنجازه، فحياته على جناح طائر ولن يلبث بين الناس إلا قليلا وعليه أن يملأ اللحظة العابرة بجهاد أعوام ثقال.. وأرسل للأغنياء لرعاية الفقراء حتى يأتى خراج البلاد البعيدة فتثاقلوا عنه بل طالبوا لأنفسهم بمزيد من الأموال، بينما الفقراء يلحون شاكين.. وتغدو ابتهالاته: اللهم اقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط، ويرسل فى طلب عبدالله بن أبى زكريا الشيخ المستجاب الدعاء يسأله فى إلحاح أن ادعو الله أن يميتني، ويشترى قطعة أرض بدير سمعان تكون لجسده مثوى فينصحه الأصفياء إذهب إلى المدينة فإن أدركك الموت بها دفنت مع الرسول وصاحبيه فيأتى رده حاسما: ومن أنا لأكون أهلا لهذا المقام.. ويشتد المرض وتتحول ملايين أمته إلى أطفال يوشك اليتم أن يدركهم حين يفقدون الأب الراعى الحنون الذى تفوح سيرته العطرة خارج أمته كالعبير، حتى إمبراطور الروم يرسل كبير أساقفته، وكان بالطب خبيرا، راجيا منه صنع المستحيل لإنقاذ الخليفة العادل والقديس الجليل.. لكن السم كان قد سرى فى بدن ينتظر النداء بلهفة مشتاق، فنادى على زوجته الوفية وأولاده الاثنى عشر بنتا وولدا جاءوه فى ثياب خشنة وقد زايلت وجوههم الشاحبة نضرة النعيم من سنين.. جلسوا يحيطون به فيعانقهم بنظراته الحانية يغالب دموعه فتغلبه فيواريها وراء كلمات يودع بها أعز الأحباب: إن أباكم قد خير بين أمرين.. أن تستغنوا ويدخل النار أو تفتقروا ويدخل الجنة، فاختار الجنة وآثر أن يترككم بين يدى الرحمن وهو يتولى الصالحين.. وبينما هم ينصرفون من المشهد الجليل لمحوه يحرك كفيه إشارة ترحيب لاستقبال ضيوفه القادمين.. ملائكة جاءت تصحب خامس الخلفاء الراشدين: أبوبكر وعمر وعثمان وعلى و..عمر بن عبدالعزيز.. ملائكة الرحمة تواكبه فى رحلة الفردوس.. ويسمعه الذين خارج غرفته يردد الآية الكريمة «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين».. ومال رأسه فوق وسادة حشوها ليف مغمضا عينين لم تغمضا عن حق لله ولا حق للناس.. وعاد المسافر إلى داره.. عاد مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..
و..وكانت أخبار صلاحه قد ترامت للرعاة فى رؤوس الجبال البعيدة فكانوا يتساءلون منذ ولى عمر: من هذا العبد الصالح الذى قام على رأس الناس؟ فقيل لهم: وما أعلمكم به؟ قالوا: علمنا من سالف الزمان أنه إذا قام على رأس الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شياهنا.. وعادت الذئاب تشرع الأنياب وشكا الرعاة فى الوديان الفسيحة وعلى رؤوس الجبال البعيدة سطوة الافتراس بلا رحمة بعد أن ظلت نحو عامين ونصف وما من ذئب واحد يفتك بشاة واحدة.. فعلم الرعاة أن إمام العدل مات!..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.