ما شهدته مدينة الإسماعيلية يوم الثلاثاء الماضى من إطلاق لمشروع تنمية منطقة قناة السويس ليس مجرد عملية اطلاق لمشروع عملاق ولن تكون أبداً مجرد درب من دروب الدعاية السياسية مثلما يروج بعض منتقدى السلطة الحالية فى مصر ممن لا يروق لهم أى شىء ويكرهون أن تدفع مصر عجلة التنمية فى اتجاهات جديدة غير تقليدية حتى لا يثبت النظام السياسى الجديد - وركيزته الأساسية ثورة 30 يونيو - رسالة الرئيس عبد الفتاح السيسي: أننا سنبنى وسنبنى ونشق الطريق إلى المستقبل وأن نقطة الانطلاق مشروع كبير يفتح أبواب الاستثمار الداخلى والخارجى بلا حدود ويزيد من حصة قناة السويس فى التجارة الدولية ويضع مصر فى بؤرة اهتمام المستثمرين الدوليين فى نقلة نوعية غير عادية تمثل ميلادا جديدا للقناة والمنطقة المحيطة بها. ودعونا نتحدث بصراحة عن مناخ داخلى وإقليمى وسياق عالمى ربما لا يشجع على إطلاق مبادرات كبرى فى طريق التنمية والتحديث ولكن هناك عددا من الحقائق التى يتحتم أن نقدمها للقارئ عند الحديث عما يجرى اليوم انطلاقا من حتمية الجغرافيا وتجارب التاريخ وقراءة الواقع:
◀◀ مشروع تنمية قناة السويس تأخر كثيرا عن موعده مقارنة بما جرى فى مناطق أخرى من العالم نجحت فى الاستفادة من امكانيات وميزات ما يطلق عليه «الممرات المائية» فى إحداث نقلات صناعية وتجارية واستثمارية وهناك قصص نجاح لا يمكن الاختلاف بشأنها من الشرق والغرب فى كيفية تعظيم المكاسب من تلك الممرات والقنوات الملاحية، فكان الأجدر بمصر وهى التى تتوسط خريطة العالم أن تفكر بشكل مختلف، وأن تسبق الكل فى اقامة منطقة متكاملة للتجارة والصناعة والخدمات
◀◀ تمويل تلك المشروعات ليس تحديا سهلا ولكنه يخضع لحسابات كثيرة، سواء كانت حسابات دول كبرى أو مؤسسات تمويل عالمية، وقدرة الحكومة المصرية على إدارة الوصول إلى صيغ أفضل لتمويل المشروعات الجديدة هى أحد معايير النجاح أو الفشل وبالقطع التمويل، عن طريق الاكتتاب العام وشراء المصريين للأسهم والسندات سيكون عونا كبيرا لصانع القرار والحكومة لتخفيف الضغوط الخارجية الخاصة بالتمويل وهناك من التاريخ القريب أمثلة عديدة ومنها بالقطع ما جرى قبل مائة وخمسين عاما عندما شرعت مصر فى البدء فى مشروع حفر القناة.
◀◀ مسألة استقلال القرار الوطنى تمثل حجر الزاوية فى النظام السياسى الجديد انطلاقا من مطالب وأهداف ثورة 30 يونيو وهو ما يعنى وجود تبعات، وربما عواقب، عند بعض المنحنيات التاريخية التى تدق أجراس الخطر فى عواصم كبرى خشية استكمال مصر لمشروعات كبرى تخلصها من تبعية الماضى وتجعلها أكثر استقلالية فى خياراتها للمستقبل. فى تجربة الخمسينيات خير مثال، فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يكن فى حالة عداء مع الغرب أو لديه مشكلة عميقة مع الحكومات الأوروبية أو الولاياتالمتحدة ولكنه بادر بالإعلان عن مشروعات لتنمية مصر فجاء الرد فى أكثر من اتجاه لإجهاض مشروعه السياسى الذى التف حوله المصريون بداية من العدوان الاسرائيلى على غزة عام 1955 واضطرار عبد الناصر لإبرام صفقة الأسلحة التشيكية بعد رفض الغرب مد مصر بالسلاح, وكانت ذروة تحدى عبد الناصر للمشروع الاستعمارى الغربى والصهيونية العالمية عندما اقدم على تأميم قناة السويس, ورغم وقوف واشنطنوموسكو وبكين معنا ضد العدوان الثلاثى إلا أن التربص بمشروع تحديث مصر ظل قائما حتى تمكنت القوى الخارجية من ضرب مشروع ناصر فى مقتل فى نكسة 1967 والتى كانت انتكاسة للمشروع الوطنى المصرى قبل أن تكون هزيمة على الأرض أو سيطرة إسرائيل على شبه جزيرة سيناء.
◀◀ شواهد التربص والتواطؤ على المشروع الوطنى المصرى للتحديث مازالت تحمل رائحة الماضي، وربما تكون الموجة الحالية أكثر شدة وضراوة بعد أن توحدت قوى إقليمية تملك المال الوفير مع أطراف دولية مهمة لدعم قوى ظلامية تتستر وراء الدين هدفها الرئيسى هدم الدولة القومية فى العالم العربى وتفتيت المجتمعات التى استقرت على صيغ للتعايش، بين الاقليات والأعراق، ربما كانت هشة ولكنها كانت أفضل من عمليات الهدم وسفك الدماء الدائرة اليوم من العراق إلى سوريا وليبيا واليمن والدائرة تتسع يوما بعد يوم من وراء الأموال المتدفقة من جهات لا تحمل سوى ثقافة المكايدة والانتقام لفشل مشروعها فى تمكين جماعة الإخوان المسلمين فى مصر بعد الثورة الشعبية الكبرى ضدهم قبل عام. ولعل مسألة الجيوش الجوالة «جيوش المتطرفين» التى تجوب الدول العربية اليوم وهى محملة بعتاد حديث وذخائر هائلة غربية الصنع يلقى بعلامات استفهام لا نهائية عن الخطر القائم وقد كانت نقطة التصدى للمشروع القائم فى سوريا، على سبيل المثال، هو وقف الجيش المصرى لمحاولات الرئيس الأسبق محمد مرسى جره إلى التورط فى الصراع هناك ولولا ما أقدم عليه جيشنا العظيم من مساندة للثورة الشعبية فى 30 يونيو والوقوف بحزم فى وجه الجماعة الإرهابية لكانت مصر اليوم فى ورطة كبرى ولأصبحت الجبهة الداخلية عرضة لانقسامات ومواجهات وسيطرة من متطرفين على نحو مماثل لما نراه فى دول عربية شقيقة اليوم!
◀◀ على قدر التحدى فى الظروف الراهنة .. على قدر ما يستوجب على القوى الوطنية أن تدعم الخطوات العملية للمضى فى المشروع العملاق الأول ويليه مشروعات أخرى تستكمل إطارا أوسع للتحديث والتطوير ونقلة نوعية فى بنيان أكثر رسوخا للأجيال القادمة.. فنحن أمام اختبار للقوى السياسية والأحزاب والمجتمع المدنى التى تحتاج إلى صيغ جديدة للعمل فى الشارع المصرى تترفع فيها عن مزايدات الماضي, فالقضية أكبر بكثير من أحلام اقتناص بضعة مقاعد فى البرلمان أو حتى الرغبة فى إظهار الاقتراب من دوائر صناعة القرار, فالعمل الوطنى اليوم هو التعامل بجدية مع التحديات المقبلة وكيفية تعظيم المكاسب من المشروعات الكبرى الجديدة. وربما يفهم البعض أن ما قيل فى السياق السابق هو دعوة إلى سيطرة رأى واحد على الساحة أو تعبئة إعلامية فات أوانها، ولكن ما اقصده هو أن نتوحد فى الأولويات وأن نضع أقدامنا حيث يجب أن تكون، فقد أضعنا فى السابق فرصا كثيرة لا حصر لها بسبب روح الاقتتال التى سادت الساحة المصرية وأخرها ما جرى منذ تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى 11 فبراير 2011 وحتى خروج الشعب فى 30 يونيو بعد أن فاض الكيل ولم يعد الناس قادرين على تحمل كل تلك المناورات واللعب بمقدراته وهو ما لا يريد بعض تلك القوى أيضا استيعابه حتى تلك اللحظة.
◀◀ هناك من لا يستوعب الأعباء على جيش وطنى يشارك فى مشوار التنمية والتحديث ويواجه مخططات وتدابير عظمى على حدوده وفى محيطه سواء الصراع فى ليبيا أو فى قطاع غزة أو فى اليمن والسودان وسوريا وهى صراعات تحمل بصمات المؤامرة والخيانات الكبرى للأوطان، فهو جيش ساند شعبه ولم ينقسم ولم يزايد على مصير أمة وهو حافظ وحدة تلك الأمة فى ظل منطقة تموج بالأعاصير والبراكين السياسية التى تهدد باختفاء دول بأكملها من فوق الخريطة.
◀◀ بوادر السياسة الإقليمية الناضجة لمصر تبدو جلية فى عدد من المواقف الأخيرة ومنها إدارة ملف الأوضاع المأسوية بعد العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة وعودة المفاوضين إلى القاهرة من جديد ومساهمة مصر بشكل فعال فى التوصل إلى هدنة إنسانية رغم كل محاولات تهميش الدور المصرى التى قام بها بعض الصغار ومعاونيهم. والأمر الثانى هو التحرك السريع لتأمين عودة المصريين من ليبيا وحسن إدارة الأزمة على الحدود بين ليبيا وتونس لحماية المصريين النازحين فى ظل ظروف شديدة الصعوبة. والأمر الثالث، التحرك الهادئ لإقامة علاقة شراكة جديدة مع دولة إثيوبيا تبنى على قاعدة العلاقات التاريخية بين الشعبين ولا تؤسس لتفاقم الصراع على موارد المياه فى حوض النيل. والأمر الرابع، ملف العلاقات بين مصر ودول الخليج وهو يتقدم بشكل حثيث لتحقيق تكامل فى الرؤى على قاعدة المصالح المشتركة وشراكات التنمية بصورة لم تحدث من قبل فى تاريخ العلاقات.
........................................
فى ظل المشهد السابق، نعلم أن مشروعا وطنيا عملاقا مثل مشروع تنمية منطقة قناة السويس وشق قناة جديدة لا يمكن ان يولد بمعزل عن تلك الظروف والملابسات المتشابكة والطموحات الإقليمية لدى البعض ولكن مصر بما تملكه من مقومات وشعب وجيش لا تلين عزيمته فى أوقات الشدائد والتحدى قادرة على رسم طريق مختلف لمسار التقدم والتحديث وأن تسرى روح جديدة فى أوصال مجتمعها وشبابها.. ___________________________________________________________________
روسيا ومصر: سجل ناصع على جدار الصداقة يوما بعد يوم، تثبت الدولة الروسية أنها قادرة على إدارة ملفات العلاقات مع العالم الخارجى فى ظل مبادئ راسخة تحكم توجهاتها وأهدافها وتستخدم مساحات المناورة على الساحة العالمية لتحقيق مكاسب أوسع لشعبها وليس لتأجيج الصراعات وخلق بؤر توتر وهى الرؤية الواضحة التى مكنت موسكو من بناء تصورات واضحة عن تأثير تنامى الجماعات المتطرفة فى سائر منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا ولم تلعب بأوراق تلك الظاهرة الخطرة التى تهدد اليوم مصائر دول وتمسك نيرانه بالرعاة الرئيسيين لتلك المجموعات التى انطلقت تعوى وتدمر وتقتل بلا رادع فى منطقتنا العربية وتشكل مأساة متكاملة لحالة التمزق الإقليمى الراهنة.
فى ظل تلك الأوضاع، يكون للعلاقات بين مصر وروسيا واللقاء المرتقب بين الرئيسين عبدالفتاح السيسى وفلاديمير بوتين فى تلك المرحلة أكثر من معنى ومغزى حيث توجد اليوم قاعدة صلبة يمكن البناء عليها لتعزيز التعاون مع «صديق دائم» لمصر لا يتاجر او يناور بتلك العلاقات ولكنه يضعها فى السياق الصحيح بين بلدين يملكان موروثا حضاريا وثقافيا كبيرا دورهما الجديد هو بناء تحالف ضد التطرف والتخلف.
ولقد وقفت روسيا مع مصر فى الأعوام الستين الماضية فى أكثر من محك وأزمة وتركت موسكو علامات مضيئة على جدار الصداقة بين البلدين من أيام العدوان الثلاثى على مصر ثم المساهمة الجبارة فى بناء السد العالى ثم وقوفها إلى جوارنا فى عملية تسليح الجيش المصرى بعد حرب 1967 واستمرت العلاقات بوتيرة مختلفة فى السبعينيات وحتى ثورة 30 يونيو فى مصر ولكنها لم تفقد بريقها القديم وتجلى موروث العلاقات التاريخية فى استقبال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسى قبل توليه الرئاسة استقبالا حافلا وغير تقليدى فى الكرملين فى تأكيد على العلاقة الجديدة بين البلدين.
لقد ترك الروس فى مصر صروحا شاهقة شاهدة على نموذج يحتذى فى العلاقات بين الشعوب، وهاهى العلاقات مع الصديق الدائم تتجدد فى توقيت دقيق يحتاج البلدان فيه إلى صيغة مثلى لمواجهة الأخطار التى تواجه الأمن القومى للبلدين ونقطة الانطلاق هى المشروعات الكبرى التى يمكن أن يكون للروس نصيب معتبر فيها مثلما كان الحال فى الستينيات.
واحدة من ميزات العلاقات الروسية المصرية هو ابتعادها عن «التوظيف السياسي» سواء للتعامل فى ملفات الشأن الداخلى أو الخارجى وعلى وجه الخصوص ما يخص ملف المساعدات. فنظرة على العلاقات المصرية الأمريكية، سنجد أن واشنطن قدمت مليارات الدولارات لدعم مصر فى أكثر من 30 عاما ورغم كل التقدير لتلك المساعدات التى لم تكن مجانية إلا أنها لم تسلم من التوظيف «السياسى ومحاولة» صياغة الساحة السياسية الداخلية على الهوى الأمريكى وخلق طبقة مرتبطة بالمصالح الأمريكية فى السياسة والاقتصاد وإفساد المجتمع المدنى بالأموال وهو ما خلق توترات دائمة فى علاقات البلدين ومازالت آثار التدخلات الأمريكية بعد ثورة 25 يناير فى مصر تلقى بظلالها على المشهد وتثير أسئلة كثيرة.
نحن على أعتاب مرحلة جديدة من العلاقات بين القاهرةوموسكو وهى المرحلة التى ستشهد تطورات غير عادية فى الأيام القادمة تصب فى الصالح العام وفى صالح علاقات مثمرة وصحية بين شعبين كبيرين. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام