غياب فقه الأولويات عن حياتنا وانشغال البعض بالتشكيك والإنكار لأمور دينية ثبت صحتها بالقرآن والسنة والإجماع، أو بالطعن فيها وتجاهل أقوال العلماء السابقين، لهي أمور من شأنها أن تحدث الفرقة وعدم الاستقرار في المجتمع الواحد، وتثير البلبلة في أمور دينية مستقرة في أذهان المسلمين، في وقت المجتمع فيه أحوج ما يكون لأن يتوحد أبناؤه حول قضايا البناء والتنمية وتقديم الأهم فالمهم والأحوج فالأحوج كل ذلك مراعاة لفقه الأولويات الذي يمنح الآخذ به بصيرة وتوفيقًا، ويعطيه رؤية واضحة فيما هو عام وخاص بدلاً من إنفاق الجهد والوقت في قضايا تشتت ولا تجمع. ففي الفترة الأخيرة دأب البعض على إثارة قضايا تحدث البلبلة من خلال إنكار ثوابت العقيدة من عذاب القبر أو الحجاب أو النَّيل من بعض الصحابة أو التشكيك في علماء الحديث، وترك ما ينفع المسلمين وما هم أحوج إليه، وكل هذا بدوره يفتح بابًا عظيمًا للفتن، ويفتح بابًا لغير المتخصصين لأن يدلوا بدلائهم في القضايا العقدية والفقهية، مما يثير مشاعر العامة والخاصة في وقت البلاد تسعى للهدوء بعيدًا عن صخب المدعين.
وغياب فقه الأولويات عن هؤلاء المدعين وغير المتخصصين هو ما يوقعهم في دائرة الخلاف، ففقه الأولويات يعني: «معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق»، أو «معرفة الأسبقيات في الأحكام والأعمال وفق المعايير والموازين الشرعية»، أو «العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها»؛ بمعنى أنه يدعونا إلى تقديم الأصول على الفروع، والمقاصد على الوسائل والآليات، وفرض الكفاية والفرض على السنة، ويقدم العلم على العمل، وعمل القلب على عمل الجوارح، والدائم على المنقطع، كذلك تحديد الوقت الذي تقال فيه قضية ما وأين ولمن00وهكذا. لكن ما يلفت النظر الآن في واقعنا هو اختلال ميزان الأولويات لدى عموم الأمة، فقد تم الاهتمام بالنوافل دون الفرائض، وتقديم الفروع على الأصول، والاهتمام بالعبادات الفردية على حساب العبادات الاجتماعية، وإثارة قضايا في غير وقتها، وفي غير مكانها، ولا تقال في محافل علمية للدرس والبحث وعرض وجهات النظر، ولا تقال للعامة، إلى غير ذلك من ألوان الخلل وهذا يؤدي إلى تضييع الأوقات وتبديد الطاقات وصناعة الأزمات وتمزيق العلاقات.
إن الفهم الصحيح للدين يفرض علينا معرفة فقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت فكما يقال: «ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين»، فهذا الذي يثير القضايا وينكر من أمور الدين كعذاب القبر وخلافه كان الأولى به الانشغال بما ينفع الناس وترك الحديث عن مثل هذه القضايا لأهل التخصص، فالناس أحوج ما يكونون لمن يبين لهم أمور دينهم الصحيحة أمنًا للبس نتيجة لجهلهم وحمايتهم من الوقوع في المخالفات الشرعية التي قد توردهم المهالك، فهذا رجل سأل شيخًا وقال: إني زنيت وصارت المرأة حاملاً من الزنا فماذا أصنع؟ فقال له الشيخ: ولماذا جعلت المصيبة مصيبتين، لماذا لم تعزل؟ فقال: بلغني أن العزل مكروه، فقال له الشيخ: بلغك أن العزل مكروه ولم يبلغك أن الزنا حرام؟ وهذا ابن عمر رضي الله عنهما سأله أحد أهل العراق عن دم البعوضة: أنجس هو؟ فقال: سبحان الله، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوضة! وهؤلاء الذين كانوا يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه. لمزيد من مقالات د شوقى علام