لا أحد ينكر أن الأستاذ فريد الديب محام قدير، ولديه الكثير من الحيل القانونية البارعة، التى لم تمنع على الإطلاق خسارته خلال السنوات الماضية قضايا جنائية مهمة. لكن المرافعة البليغة التى قدمها أخيرا أمام المحكمة دفاعا عن مبارك فى قضية «القرن»، لا تؤكد فقط افتقاده أدلة قوية لتبرئة ساحة موكله، بل أيضا تحمل أهدافا سياسية مقصودة، تتجاوز مسألة توظيفها بصورة قانونية لصالح مبارك شخصيا، إلى نظام بأكمله. البداية كانت من تقديم مجموعة شواهد مجتزأة من سياقها الطبيعى، لتأكيد أن ما حدث فى يناير 2011 «مؤامرة» مكتملة الأركان وليس ثورة ناقصة. ففى الوقت الذى قدم فيه شهادات مسئولين كبار للتدليل على كلامه السابق، تجاهل عمدا أن مبارك نفسه، قبل اضطراره للتنحى، استجاب لمطالب المواطنين الذين مكثوا فى ميدان التحرير 18 يوما، أى قبل أن يختطف الإخوان الثورة، ويظهر الجزء السياسى الغاطس فيها، الأمر الذى ظهرت معالمه فى مرحلة لاحقة. كما تغافل الديب عن خطب وتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى، قبل وبعد فوزه فى الانتخابات، بشأن تأكيده أن يناير ثورة بامتياز. والأدهى أن الدستور (أبو القوانين) ووثيقة تسليم السلطة أكدتا ذلك أيضا بوضوح. لذلك هناك من شبه فريد الديب بالمحامى ابراهيم الهلباوى الذى تحدث عن كرم وتحضر الإنجليز المحتلين و »همجية« ناسنا فى دنشواى فى المحاكمة الشهيرة. الحاصل أن التاريخ حافل بالانقسامات حول هذا النوع من التطورات. فلا تزال حتى وقتنا الحاضر توجد فئة تصف ما جرى فى 23 يوليو 1952 بأنه «إنقلاب عسكرى» لا علاقة له بالثورة من قريب أو بعيد. والموقف من هذا وذاك (الثورة والانقلاب) يتوقف غالبا على الموقف السياسى للشخص. لكن المنصفين الحقيقيين قالوا إن ما حدث فى 23 يوليو ثورة فعلا. وقد مرت فى هذا النهر مياه عكرة كثيفة، وبقيت الثورة مكانها. الآن يتكرر المشهد بشكل أشد خطورة، لأن الدور السياسى القذر للإخوان وضعف معظم الأحزاب، فضلا عن وجود تواطؤ من بعض القوى الشبابية، ساعد على الترويج لفكرة أن يناير «مؤامرة». وهو ما استغله عن عمد رموز كانوا نجوما فى زمن مبارك، وعزفوا على أوتاره، ليس لتصويب المسار الجديد، لكن لإعادة المسار القديم. للأسف وجدت مزاعم فلول مبارك رواجا لدى بعض القطاعات، بعد أن شاهد الناس حفنة منهم، يعاد توزيرهم، وتتصدر حفنة أخرى المشهد الإعلامى، عقب ثورة يناير، أى قبل أن تتم صناعة فكرة «المؤامرة»، علما أن هؤلاء وهؤلاء لهم كلام موثق، كتابة وبالصوت والصورة، اعترفوا فيه بأن يناير ثورة، وبعضهم نافق الإخوان، وأكدوا أن نظام مبارك كان قد كبر وشاخ ولحقه الكثير من الفساد، ومن الطبيعى أن يثور عليه الشعب ويتخلص منه. الصورة تغيرت، بسبب حماقات الإخوان التى كادت تضيع البلد، وتزايد حجم التدخلات والتحديات الخارجية، التى يريد أصحابها ومن يقفون خلفها استغلال الثورة كمطية لأغراض دنيئة، وحاولوا خطفها لمجرى آخر. وفشل مخطط جهنمى، ولا أحد ينكر أن يناير ثورة كانت ناقصة، وتم تصحيحها فى يونيو 2013. والصورة تغيرت أيضا، عندما بدت الساحة السياسية والاعلامية والاقتصادية فارغة، واستغل فلول الوطنى الظرف السياسى الراهن، الذى فسرت بعض مقاطعه على أنها تحمل معالم مصالحة أو مهادنة مع نظام مبارك، وبدأت جهات محسوبة على النظام القديم تسعى إلى قطع الطريق على أى وجوه جديدة، وتعمل على زيادة اللغط، لمنع التوجه لتصعيد طبقة أخرى، حتى يظل الاعتماد مستمرا على بقايا مبارك. فى المعارك الحربية يقولون إن الضعف يغرى بالعدوان، وفى المعارك السياسية لهذه القاعدة نصيب كبير. من هنا يشتم كثيرون رائحة المؤامرة فى مرافعة فريد الديب. وأولى حلقاتها ظهرت عمليا فى المحكمة، بحجة محاولة تبرئة مبارك. والمدخل كان نسف النسق القيمى والأخلاقى لثورة يناير، التى أدى قيامها لوضع مبارك فى السجن. وربما كان هدف الديب الحصول على البراءة بهذه الطريقة، ومعه كل الحق فى تبرئة موكله بالوسيلة التى يراها، لكن ما حدث لاحقا يعزز فكرة مؤامرة الديب ورجال مبارك على الثورة (المؤامرة). فالإلحاح على تكرار إذاعة لقطات استعراضية من مرافعة المحامى القدير على بعض الفضائيات، وفر تأثيرا ايجابيا لكلامه. وجاءت اللقطة الأخرى إعادة نشر مقال لفريد الديب كتبه منذ حوالى عشر سنوات انتقد فيه مبارك وتناول بعض مساوئه. الهدف من المقال أن الرجل الذى يدافع عن مبارك يقول الحق دائما، فعندما رأى اعوجاجا تحدث عنه فى عز صولجان الرئيس الأسبق. وعندما تحدث أمام المحكمة عن خصال ايجابية و«مؤامرة»، وما إلى ذلك من مفردات، يجب أن نستمع له ونصدقه. والرسالة الظاهرة أن مبارك يخطىء ويصيب، أما الرسالة الخفية هى أن رجال مبارك فيهم المخطىء والمصيب، وليس كلهم فاسدين، بل فيهم اصلاحيون. بالتالى يجب أن توكل إليهم زمام الكثير من الأمور السياسية، وهم «الأحق» بالمشاركة علانية فى الحكم. والباب الخلفى لذلك أن يناير «مؤامرة» وهؤلاء أبرياء، اعتمادا على شائعة أن ذاكرتنا ضعيفة، مع أن الفريق الذى تزعم الإصلاح خلال عهد مبارك هو الذى مهد الطريق لاندلاع ثورة يناير، بسبب نهم الاستحواذ على الثروة والسلطة، وظهور قدر وافر من السيطرة والعجرفة. أعترف بأن لدى أصدقاء نبلاء محسوبين على نظام مبارك، وأعترف بأن ثورة 30 يونيو سعت لتصحيح أخطاء ثورة يناير، لكن أتحفظ على تصدر رجال ونساء وأرامل مبارك المشهد السياسى مرة أخرى، لأن هذه اللعبة يمكن أن تحرقنا جميعا، وبدلا من أن تتحول يناير إلى «مؤامرة» تتحول يونيو إلى «مؤامرة أكبر» وتخسر مصر. وهو ما يحاول كثير من الشرفاء تجنب الوصول إليه. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل