تساعد الناقدة الاكاديمية شيرين ابو النجا قارئ كتابها (المثقف الانتقالى من الاستبداد إلى التمرد) دار روافد 2014، على فهم العديد من الظواهر التى غيرت من ملامح المشهد الثقافى طيلة ما يقرب من ربع قرن. وتركز بالاساس على علاقة المثقف بالسلطة وسوسيولوجيا العلاقات الداخلية لبنية المجال الثقافى وتحولاتها دون أن تتورط فى اطلاق احكام معيارية اخلاقية بإدانة طرف على حساب الطرف الاخر، ويبدو عملها وثيق الصلة بدراسات النقد الثقافى التى يتداخل فيها العديد من المناهج المعرفية بحيث يتم النظر إلى العديد من الظواهر كنصوص منتجة لخطاب ينبغى تحليله لفهم اللحظة الراهنة، لذلك تسود فى الكتاب مصطلحات من عينة «الحقل الاجتماعى » لان مؤلفته تؤمن بصعوبة الفصل بين ماهو سياسى وماهو ثقافي، لذلك تبدأ من لحظة الاعلان عن عقد مؤتمر المثقفين المستقل (اغسطس 2010 ) وتتوقف عندمؤتمر حقوق وحريات الفكر والابداع (يوليو 2012 ) وما بين النقطتين تتابع التحولات فى تعريف المثقف وادواره سواء ارتبط هذا التعريف بما شاع فى كتابات انطونيو جرامشى عن التفرقة بين المثقف التقليدى والمثقف العضوي، وما اشار اليه ادوار سعيد فى تفرقته بين دور المثقف ودور الخبير، وتتساءل ما اذا كان المثقف اوجد لنفسه آليات جديدة للتعامل مع مرحلة جديدة أم انه لا يزال يوظف نفس ادواته القديمة فى التعامل مع معطيات سياسية جديدة تعمل لمصلحة وضده فى آن .كما تتساءل ما اذا كان الفعل الثورى ساعد فى ظهور فعل احتجاجى جديد صاغته رؤية وآليات مختلفة أم ان التعبير الاحتجاجى ظل على صورته القديمة ؟ وتعتنى المؤلفة عناية خاصة بقراءة ما افرزته ثورة 25 يناير من تغييرات شملت بين ما شملت هزيمة لنمط» المثقف التقليدى » الذى همشته الثورة فمع سقوط مبارك سقطت جميع أشكال الوصاية الابوية بداية من الاب البيولوجى وحتى الرئيس السلطوى وما بينهما انهارت صورة النخبة القديمة وخطابها او بالاحرى «هيبتها». وتبدأ بعملية تقصٍّ لمسار تسييس الثقافة والادوار التى يلعبها المثقف سواء داخل مؤسسات السلطة او خارجها لافتة الى «مواطن التواطؤ» بين الطرفين بطريقة ادت إلى تهميش المثقف ونجاح المؤسسة فى احداث تحديث اجتماعى إلى حدما مع المساهمة فى إحداث إفقار ثقافى وهو ما أدى الى عرقلة انجاز الحداثة الحقيقية بسبب قيام المثقف بالتوقيع على «عقد السلامة» وتطرح ابو النجا سؤالا فى هذا السياق وهو لماذا لم يصل خطاب المثقف لدوائر اوسع من دوائر الجمهور الذى كان يقتات على الخطاب الديني. وسعيا لإيجاد اجابة تنتقد المؤلفة آليات الضغط التى تمارس على المثقف المحترف مع تحوله من مثقف منشغل بالعام الى مثقف ملتزم بالتخصص الضيق، وتشير اليه بتعبير «التدجين عبر التخصص» لانه كلما انغمس فى التخصص أسهم فى ترسيخ لغة متخصصة تغلق المجال المعرفى وتطرد الكثير من الافكار الابداعية الضرورية لخلخلة السكون الفكرى والركود السياسي. ويتساءل الكتاب : كيف يمكن للمثقف المحترف الواقع تحت مختلف انواع الضغوط أن يقول الحقيقة دون ان يفقد توازنه، وتقول المؤلفة بوضوح ان ما كانت المؤسسة الثقافية الرسمية تحاول فعله طوال سنوات مبارك هو تثقيف السياسة فى حين سعت الجماعة الثقافية إلى تسييس الثقافة ولا يمكن عزل السياسة عن الثقافة الا من أجل «التمييع». وتمضى ابو النجا الى متابعة علامات تحول ادوار المثقف فى العشر الاخيرة وتتوقف امام صعود نمط الكاتب المدون وهونمط تفاعل مع ما اسماه امبرتو ايكو «النصوص المفتوحة» التى تتيح قدرا من الحرية والابداع ومعها تحول الهمس وانتقاد السلطة الى علانية ضاغطة على جميع المؤسسات تراها المؤلفة لحظة «الحداثة» بامتياز حيث تقاطعت رؤى التغيير وكان الفضاء الافتراضى عبرها اول نقاط الصدام بين جيلين، ومن ناحية قدمت المجتمعات المتخيلة مجالا ثقافيا موازيا أسهم فى خلخلة السيادة المطلقة للمجال الثقافى الرسمى .وهى خلخلة وصلت لذروتها فى 25 يناير على نحو أظهر مثقفا فاعلا وقادرا على التعبير عن نفسه دون الانعزال عن الجماهير أو التعالى عليها، اذ مكنه الهامش الذى فرض عليه كموقع بديل ان يخلخل المركز ويخترقه وتحول التدوين ومواقع التواصل الاجتماعى الى آلية مقاومة أساسية، وهنا بدأ المثقف القديم يبحث عن مكان له بجانب المثقف الجديد الذى خرج من رحم المجال الافتراضي. ومن بين علامات التغيير فى صور المثقف وادواره تفرد المؤلفة صفحات كثيرة لرصد نمط المثقف التليفزيونى الذى لفت من قبل نظر عالم الاجتماع الفرنسى بيير بورديو وتعزز وجوده خلال المرحلة الانتقالية ومن خلاله تمكن التليفزيون من تمرير خطاب التخوين والعمالة وغيرهما من التهم الزائفة عبر «مفكرى الوجبات السريعة» وتحول الاعلام الى «البوق المقدس» الذى عمد الى محو ذاكرة الثورة حتى كاد يغيب مفهوم التراكم الفكرى بفضل التحولات التى رافقت التغيير فى موازين القوى داخل المجالات الثقافية والاعلامية ومن ثم السياسية. وتختار أبو النجا جملة من النماذج وتعمل على تحليلها سواء تعلق الامر بالمؤتمرات التى نظمها مثقفون وزعمت استقلالها عن المؤسسة الرسمية او مشروعات اعادة الهيكلة او خطط السياسات الثقافية الجديدة التى حققت من طموحها عملية «استعادة الشارع» فى المبادرات الثقافية مثل الفن ميدان وأشكال التعبير الفنى عن الثورة وبشكل خاص «فنون الجرافيتي» وفرق الغناء المستقل التى حولت المثقف التقليدى إلى «مراقب» وليس منخرطا وتحولت تلك الفعاليات الى ساحة لصراع بين جيلين ، جيل الثورة وجيل السلطة الابوية. وتبقى الفصول المخصصة لتحليل ظاهرة الكتاب الاكثر مبيعا واحدة من أمتع فصول الكتاب التى تبحث فى اسباب رواج الكتب الدينية وكتب الادب الساخر والروايات الخفيفة والمؤسسات التى تنتج هذه الخطابات ودلالات شيوعها وادوات صناعة نجوم الكتابة الجديدة، حيث تنشأ المؤسسة الثقافية الاقتصادية التى تتمكن من تغيير معنى القيمة الفنية لمصلحة معايير الربحية مع نقد ما تراه » تواطؤا آخر يمارسه الخطاب النقدى السائد فى وسائل الاعلام فى اطار ما تسميه خطابات منح الشرعية سواء كانت عبر النقد أو الجوائز الادبية فى الداخل والخارج. كما تتناول شيرين أبو النجا سياسات الاحتكار الثقافى الذى تمارسه بعض كبريات دور النشر فى مقابل نمو دور نشر صغيرة تسعى لمقاومة هذه السياسات. ويشير الكتاب إلى أن المثقف المصرى الان يجد نفسه امام أربعة خيارات لم تتغير بعد الثورة ، الخيار الأول البقاء فى حضن الدولة فيما تسميه المؤسسة الحاضنة. والثانى ناتج عن العولمة الاقتصادية وهو العمل مع مؤسسة احتكارية والثالث ناتج ايضا عن العولمة وهو العمل مع مؤسسات التمويل. والخيار الاخير هو العمل بفردية ضمن طليعة الشارع. وتنتهى أبو النجا إلى تأكيد مسالة رئيسية تتعلق بازمة الثقافة والمثقفين التى كشفتها ثورة يناير، اذ كشفت الثورة عن قيمة التعددية الكامنة فى المجتمع المصرى وهى قيمة ظلت غائبة ومطمورة طيلة ما يقرب من 30عاما، اذ كانت الثقافة الرسمية آنذاك تعمل تحت دعوى المشروع الثقافى المتكامل الذى يضفى الشرعية على من يتوافق معه فى التوجهات السياسية وعليه فإن أى دعوة لصياغة مشروع متكامل تعزز من احتمالية اعادة انتاج نفس السيناريو الذى كان قائما، وتلفت ابو النجا الى ان المثقف الجديد لم يعد معنيا بالمؤسسة الثقافية الرسمية لانه بدأ طريقه فى التواصل مع الشارع محذرة من مخاطر تعزيز الفاشية سواء كانت دينية او عسكرية وسواء كانت ادواتها التكفير او التخوين ولأن الطريق لا يزال طويلا فلا سبيل بحسب الكتاب الا بدمج خبرات الاقدم مع الاحدث.
الكتاب : المثقف الانتقالى من الاستبداد الى التمرد الكاتبة : شيرين ابو النجا الناشر :دار روافد / 2014- عدد الصفحات :243