بأي معني يصبح المثقف انتقاليًا؟ أعتقد بأنه سيكون تبسيطا شديدا إذا وضعناه في فترتين زمنيتين مختلفتين قائلين : إنه بين المثقف الأبوي الذي تشكل وعيه في ظل أنظمة استبدادية قبل ثورة 25 يناير، وأخر تشكل بمعزل عن الممارسات والأليات التي تورطت فيها الحياة الثقافية المصرية علي مدار عقود من النظام السابق. ففي الكتاب الذي صدر عن دار روافد للدكتورة شيرين أبو النجا يرصد حال المثقف المصري حين صدمه الواقع المباشر للثورة بمفاهيمها وتجلياتها في تلك المرحلة الانتقالية التي نعيشها حتي الآن - المجلس العسكري ومحمد مرسي وعدلي منصور- وجعلته يحتك ويتفاعل رغما عنه في النظريات والدراسات التي يتشدق بها طوال العهود السابقة. قد يرصد الكتاب جيلا جديدا من المثقف ينهل من مرجعيات مختلفة في مواجهه المثقف التقليدي (الابن البار للمؤسسة) الذي أصبح يسعي جاهدًا إلي حماية الثقافي من السياسي، لأن هذا السياسي قد اختزل الي الديني، ثم اختزل في محاولة فرض قيود علي الفن والإبداع وبالتالي وقع هذا المثقف التقليدي في طريق مسدودة بعد الثورة. في حين أن الجيل الجديد لا تؤزمه تلك العلاقات المعقدة وينفتح علي المؤسسات الثقافية العالمية وابتكر طرق جديدة لتمويل عملة الثقافي والتحرك خارج أطر السلطة. في أولي صفحات الفصل الأول تناقش باب الثقافة في برنامج حزب الحرية والعدالة، وفي ظني أن أهمية تلك المناقشة ليست فقط لأن الإخوان جماعة يقارنها الكثيرون بالمؤسسة العسكرية تنظيميًا علي الأقل أو بأنها كيان مؤسسي فاعل في العموم، ولكن يجب مناقشة خطابه اليميني المحافظ في إطار ذكما تصفه شيرين- "موقع وتأثير أفكار الجماعة والحزب علي المجتمع آنذاك" والتي أدت بشكل ما إلي سلب عام من عمر الوطن وإن اختلفنا في أسباب ذلك. لماذا بدأت شرين أبو النجا بمناقشة خطاب يميني محافظ في الفصل الأول المعنون تسيس الثقافة؟ لأنه تمهيد صادم لما سمته بعد ذلك "عقد السلامة" بين المثقف التقليدي وبين المؤسسة الرسمية والمعروف إعلاميًا ب"الحظيرة". يفجر الكتاب أولي قنابله فيقول :"إن ينتهي بنا الأمر الي النظر الي المثقف كعنصر فعال عضوي انسحب يأسًا، وكتقليدي انضم بهدوء للمؤسسة ليس إلا اختزالاً وتشويهًا لصورة الحداثة" فترصد صورة أخري للمثقف وهو "المثقف المحترف" الذي يلعب لعبة توازنات بين مصالح السلطة والشعب. ووصفه بالمحترف أو "الماشي فوق الحبل" للقيام بلعبة التوازنات ليس انتقاصًا منه، بل رصدًا للضغوط الواقعة عليه والتي تورطه للاحتراف ولحفظ التوازن. هذا المثقف يخدم السلطة بشكل ما عبر قربه من نظام الحكم والدولة وبُعده عن مؤسساتها، وأيضًا يخدم الجمهور والشعب بشكل ما عبر انزلاقه في المجتمع ومشاكلة وبُعده (النسبي)عن فساد السلطة. الإشارة لهذا المثقف تفسر ثغرات وفجوات في العلاقة بين المثقف والسلطة في مصر، ظللنا نتساءل حولها، والاستفاضة فيها يرمم الصورة ويضعها في مسار صحيح، رغم أن الكاتبة مرت عليها سريعًا. تنتقل شيرين الي مقارنة متمهلة بين خطاب تسيس الثقافة وتثقيف السياسة متمثل في بيان مؤتمر المجلس الأعلي للثقافة ديسمبر 2009 وبيان مؤتمر المثقفين المستقلين في أغسطس 2010 (الذي كان منسقة د. علاء عبد الهادي؛ بعنوان ثقافة السلطة وسلطة الثقافة)، ولا تغفل الكاتبة أمرًا مهمًا وهو أن كلا المؤتمرين لم ينعقدا ! ولكنها تُهمل أن هذه المؤتمرات لم يكن وراءها إدارة لتحقيقها وتولي اهتمامًا ببياناتها وبرامجها وتعني فقط بمعني الإعلان عنها ودوافعها. ولكن أمر الانعقاد يصبح ذا أهمية ودلالة لو وضعنا "مؤتمر الثقافة المصرية الأول : دورة إبراهيم منصور" في مايو 2011 الذي لم ينعقد أيضًا، بعد ثورة 25 يناير (والذي كان مزمعًا إقامته بالمجلس الأعلي للثقافة) و"مؤتمر المثقفين المستقلين : ثقافة مصر في المواجهة" في المجلس الذي انعقد بعد ثورة 30 يونيو في أكتوبر 2013 في السياق، حتي لو اعتبرنا هذه "المبادرات معادل موضوعي في المجال الثقافي للحركات الاحتجاجية التي انتشرت في مصر منذ 2005" فهي باختصار محاولات مُجهضة. وإذا وضعنا، في السياق ذاته ( والذي لم يذكره الكتاب) ملتقي قصيدة النثر مارس 2009 والانشقاق الذي حدث في جبهة "ملتقي قصيدة النثر" في الدورة الثانية مارس 2010 فأصبح هناك مؤتمران، يشتركان في إقصاء الأشكال الشعرية عدا قصيدة النثر، أحدهما يقام في نقابة الصحفيين تحت اسم "الملتقي الثاني لقصيدة النثر" والآخر الذي أُقيم في اتحاد الكتاب تحت اسم "الملتقي العربي لقصيدة النثر" وفي موعد واحد قد تكتمل الصورة عندئذ. إحدي القنابل المستترة للكتاب هو رصد البيان الأول والثاني للجنة الحكماء التي أعلنت عن نفسها يوم 4 فبراير قبل تنحي مبارك من مقر دار الشروق وما يسم الدار بطابع الاحتكار الثقافي صبغ البيانات برؤية إصلاحية ولا تأخذ "الشرعية الثورية" بعين الاعتبار، والذي رفضة الميدان بقوة في مقابل بيان المثقفين من "جماعة أدباء وفنانون من أجل التغيير" من دار ميريت النابع من رأسمالها الرمزي لثوار ومثقفين احتضنتهم في ليال الميدان، وبيان "أدباء مصر وكتابها ومثقفيها: الصادر عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر المثقفين الأول الذي حمل لغة رصينة لم تف بمتطلبات الميدان. ليست القنبلة في تحليلها للخطاب، فتضع شيرين الأمور في إطار الصورة الكبيرة التي ترجح رأس المال الرمزي ورأس المال الاقتصادي في العلاقة مع المؤسسة (الدولة)، والذي اعتبرته (المؤسسة/ الدولة) شكلاً من أشكال المعارضة أو التأييد. فعلي حد تعبير أبو النجا "... وبما أن الرمزي لا يمكنه الاستمرار بدون الاقتصادي، في حين يمكن للاقتصادي الاستمرار بدون الرمزي... فقد تحول الأمر الآن فيما يتعلق بالصراع بين الاقتصادي والرمزي وكأنه شكل آخر للصراع بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية". ليست أخر القنابل التي تلقيها شيرين في وجه المثقف الانتقالي هو حال النقد الأدبي، ففي الفصل المعنون بسياسات منح الشرعية "فمحنة النقد الأدبي في أنه وقع فريسة للفصل المتخصص والاستسهال الصحفي مما يسهل انعزال المجال بأكمله" تحلل الوضع في إطار مقولات بيير بورديو وإدوارد سعيد؛ فتعترف بالحق المشروع للكل في السعي للإقرار الأدبي والسبيل الفعال لذلك هو الجوائز الأدبية، فتضع أزمة رواية فساد الأمكنة للروائي سلامي موسي عام 77 بفوزه بجائزة بيجاسوس ودفاعه (أو بالأدق تبريره) في مقاله "أنا والحصان المجنح" جنبا الي جنب بما أحدثته جائزة القذافي ومبارك من تداعيات بعد الثورة، مع الاعتبار بإقرار تداخل السياسي مع الثقافي بعد الثورة، ومحاولة مثقفي المؤسسة ادعاء الفصل بينهم قبل الثورة وهو ما أثبت كذب هذا الادعاء حين رفض صنع الله ابراهيم جائزة الرواية علي خشبة المسرح. تأتي براعة الكتاب في وضع قطع البازل جنبا إلي جنب، في إطار فهم التحديات التي يواجهها المثقف، فقد نبهني كتاب شيرين الأخير إلي أن كم التساؤلات والتحديات التي فرضها الواقع الانتقالي عليه وأن المحاولات المتعثرة للإجابة ستعمل علي صنع مثقف ناضج، فالمثقف ليس فقط من يطرح علي السلطة أسئلة مزعجة بشكل دائم، ولكنه يطرحها علي نفسه أيضًا وهو ما يثريه بإنتاج فكري متجدد عبر اشتباك جوهري مع السائد.