"المثقف الانتقالي من الاستبداد للتمرد" هو الكتاب الجديد الذي صدر للناقدة الدكتورة شيرين أبو النجا. وهو الكتاب الذي يكسر تابوهاً طالما كان محرماً الاقتراب منه بالنسبة للمثقفين، تابوه "المثقف"، بمعني تجنب مناقشة دور المثقف وما عليه وأداءاته. حاول المثقف الهروب دائماً من تسجيل ما يحدث داخل دائرته، انتقد المؤسسات السياسية وانتقد أحياناً المؤسسات الثقافية، لكنه لم ينتقد نفسه إلا فيما ندر. التبريرات المسبقة كانت الصيغة التي اختار المثقف أن يتبناها لإعفاء نفسه من كل ما يحدث، حتي وجد نفسه في لحظة ما منبوذاً من السلطة، منبوذاً من الشارع. لكن من هو المثقف تحديداً؟ تقول أستاذة الأدب الإنجليزي بآداب الفاهرة:"هناك اشكالية كبيرة في تعريف المثقف، حتي أن كل الكتب التي حاولت تناوله رجعت لتعريفات جرامشي وإدوارد سعيد. لذلك انطلقت من هذه التعريفات لأعيد صياغتها بما يتناسب مع الواقع المصري.تقول شيرين أبو النجا:"سعيد كتب عن المثقف المثالي الذي لا وجود له، وفي المقابل كتب جرامشي عن المثقف العضوي والمثقف التقليدي، والحقيقة أن العالم تغير والحالة المصرية صارت مختلفة، فلم تعد تنطبق هذه التعريفات. من هنا كان يجب أن نخرج من هذه المساحة الضيقة، أقول "نخرج" رغم أننا خرجنا رغماً عنا بسبب الحراك السياسي والاقتصادي، وهو جانب مهم جداً في تأثيراته علي المثقف، بالإضافة للحراك الثقافي إن افترضنا وجود حراك ثقافي. أبو النجا خلصت إلي أنه "كان هناك مثقف عضوي، لكن هذا المثقف كان يكرس مجهوداته للحزب الوطني، كان يمثل "جمعية المستقبل"، كان يستخدم مصطلحات أنيقة، مثقف كبير وقاريء جيد وحقيقي، لكنه قرر أن يكرس نفسه لخدمة هذه السلطة". في التسعينيات انطلقت في مصر "الحرب علي الإرهاب" وتبنت السلطة خطاباً واضحاً مثل الذي تبناه بوش في غزو العراق "من ليس معي فهو ضد" هنا وجد المثقف نفسه في حيرة بين سلطة ديكتاتورية وجماعات دينية. تقول أبو النجا: "كان أمام المثقف بدائل أخري بالطبع: أن يقف ضد الاثنين"، وتضيف:" لاحظ أن علاقة السلطة بالجماعات الإسلامية كان يغلب عليها انحياز هذه السلطة لهذه الجماعات، ولا أظن أن أحداً ينسي أزمة الروايات الثلاث ووليمة لأعشاب البحر، لا أحد ينسي موقف فاروق حسني والتنكيل بالمسؤولين عن صدور هذه الكتب" الناقدة الأدبية تري أن العلاقة بين الجماعات الدينية والسلطة كانت لعبة، السلطة استخدمت هذه الجماعات لترهب الجميع، خيرت المواطن، ومن داخله المثقف، ما بين أن تنحاز لي فاحميك وما بين أن أطلق عليك الجماعات، هذه هي اللعبة، لعبة المقايضة القديمة والمستمرة. ومنذ ذلك الحين والمثقف اختار الاختباء من الغول الواقف خارج الغرفة. البعض اختار السير جمب الحيط، والبعض اختار تبني خطاب السلطة. في كتاب "تأملات في المنفي" لإدوارد سعيد، رصد انقسام المثقفين أمام غزو العراق ما بين مناهض لصدام ومناهض لأمريكا، تقول أبو النجا "رغم أنه يمكن مناهضة الاثنين" وتضيف: "عندما تعلن الحرب علي الإرهاب، الآن وفي التسعينيات، أنت تحارب الجميع وليس الإرهابيين فقط، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فالفخ هو الحرب علي الإرهاب، لأن ذلك يتبعه الموافقة علي كل قمع، لأننا في حرب علي الإرهاب. تشير شيرين أبو النجا إلي "المثقف الإصلاحي" بكثير من الحيرة، تقول:"هناك كثير من المخلصين تبنوا موقف الإصلاح من الداخل، كانت لهم رؤية حقيقية وواضحة وحاولوا الإصلاح بالفعل، منهم مثلا نبيل عبد الفتاح، محمد السيد سعيد، ليلي سويف (وإن كانت داخل المؤسسة الجامعية)، وداخل لجنة الخمسين هناك هدي الصدي". تضيف:"وفي وزارة الثقافة كانت هناك فرصة للدخول والإصلاح من الداخل، لا يمكن أن أتهم من دخل بشيء، لكن بعدما آلت إليه وزارة الثقافة ومع تكرار نفس اللغة والآليات، دعني أضع علامات تعجب، لا علامات استفهام بل علامات تعجب". تقول أبو النجا:" إن كنت تريد ضخ دم جديد فالمسألة ليست في الأشخاص بل في رؤية وآلية، آلية تلبي رغبات جيل ثائر، لماذا نصمم أن نبقي علي هياكل! أما مسألة إلغاء وزارة الثقافة، فهذه آراء مطروحة، ربما أؤيد أو لا، لكن بما أن ذلك لن يتحدد الآن، يجب أن تكون هناك رؤية جديدة". وتضيف:"ما يجب أن يحدث هو التعاون بين الوزارة والأفراد المستقلين والمؤسسات المستقلة، وهي التي يجب أيضاً أن تتلقي تمويلاً لتستطيع القيام بأنشطتها، لكن الغريب أن الوزارة تتقاعس عن أداء هذا الدور حتي، ثم يأتي اللوم علي هذه المؤسسات لأنها تتلقي تمويلاً من جهات اجنبية". أبو النجا تنتقد وزارة الثقافة بشدة لأنها أيضاً ترفض منح أماكنها للمشروعات الثقافية الجديدة، وتضرب مثلاً بمجموعة من الشباب بسوهاج كانوا يريدون عرض عمل مسرحي في قصر الثقافة، فطلب منهم الموظفون أموالاً مقابل تأجير المسرح، تقول:"إنهم يحولون أنفسهم لكيان ربحي، وفي حال السماح لهم بتقديم المسرحية، تفرض الوزارة شروطها بمنطق أنا الثقافة والثقافة أنا، رغم أن ذلك بشكل فعلي ليس حقيقة، فهناك فرق موسيقية ومسرحية ورسم وأشكال فنية جديدة لم تتعرف عليها المؤسسة بعد مثل الجرافيتي والكوميكس. وهناك أجيال جديدة تعمل بطريقة ولغة مغايرة تختلف عن لغة السلطة والمؤسسة الثقافية". وتضيف:" لذلك أنا أقدر الفن ميدان، لأنه حقق ما لم تحققه المؤسسة في 30 عاماً. الفن ميدان بدأ بمجهودات فردية وتلقي شيكا بعد ذلك من وزارة الثقافة، ثم امتنعت الشيكات لأن المسؤولين عن الوزارة لم يهتموا بهم". تتناول شيرين أبو النجا في كتابها الجديد "المثقف الانتقالي..." صورة المثقف الجديد المغايرة لصورة المثقف القديم، ترصد هذا الفارق الهائل ما بين مثقف يتبني خطاب السلطة ومثقف خارج عليها. أسألها عن طرحها هذا، فتقول:"أنا مهتمة بشكل حقيقي بالمثقف الجديد، لأن المثقف القديم الذي تكلس تكلست معه لغته، وأصبح خطابه قديماً في مواجهة جيل شاب. هنا نتحدث عن مثقف يستخدم المدونات وفيسبوك وتويتر، مثقف ينتمي لجيل كان متهم دوماً بأنه غير فاعل، لكن الحقيقة أن الجيل الجديد تفاعل ومات، الشباب تفاعلوا حتي الموت. الجيل الجديد، الذي ينتمي إليه المثقف الجديد، صنع لغته وأفكاره علي الأرض، انتقل من العالم الافتراضي للواقعي بسلاسة، قام بما يمكن أن نسميه "تثوير للغة"، واللغة وعاء الفكر. من هنا يأتي المثقف الجديد الذي لا يؤمن بالتخصص لأنه يفهم في الأدب والسينما والموسيقي، يذهب للفن ميدان كما يذهب للمظاهرات ومن المظاهرات للسجن ومن السجن للكتابة، مثل عمر حاذق علي سبيل المثال".