فى مقدمة كتابه الذى يمثل سيرته الذاتية «الأيام» يحدثنا عميد الأدب العربى الراحل الدكتور طه حسين عن الدافع الرئيس وراء خروج هذا العمل إلى النور ، كانت الأزمة التى تولدت عند صدور كتابه «فى الشعر الجاهلى» قد تفاقمت، ولهذا عمد إلى الفرار من الحاضر الأليم إلى الماضى بذكرياته والحنين إليه حتى يبدل ما نفسه من مرارة ، ويجلو ما جثم فوق صدره من ضيق تبعات المحنة. ومع الفارق فى القياس، يمكن أن تكون هذه السطور قراءة يقصد بها الهروب إلى الماضى أى «قراءة فى المعكوس»، قراءة فى ماضى الحضارة الإسلامية وتعاطيها مع أهل الكتاب ، لاسيما من المسيحيين العرب منذ فجر الإسلام، هربا من ما يطلق عليه الدولة الإسلامية فى العراق وبلاد الشام «داعش»، دولة قاطعى الرؤوس، وهادمى الحضارات ومهجرى الجماعات الدينية من أصحاب الأرض الأصليين. يعتصر المرء الألم حينما يقارن بين الفتح الإسلامى فى بداياته وما حمله معه من ظاهرة الانثقاف وبين المشاهد الدموية القاتلة للروح والنفس الإنسانية، بغض النظر عن الانتماء الدينى، أو القبلي، أو العرقى، التى باتت تأتينا اليوم من العراق ، وسوريا، وغيرها من البقاع العربية السائرة فى «درب الآلام». حين وصل المسلمون الأوائل إلى سورية، انبهروا بآثارها التذكارية وقصورها وكنائسها وأديرتها ، بتلك التقنية، وبكل العلم الذى كانت الآثار تفترضه ، فوجب عليهم أن يكتسبوا تلك المعارف ويطلبوا إلى السكان أن ينقلوا إليهم معارف الحضارات الماضية . لقد سعى المسلمون الأوائل إلى الاستفادة من عمل وعلم المسيحيين العرب لاسيما السريان على الصعيد الفكرى، ففى مرحلة أولى فى القرنين الثامن والتاسع، ظهر النقل الأول إلى العربية، تارة من اليونانية وتارة من السريانية. وكان النص المنقول تعاد قراءته ويقارن بالنص اليونانى الأصلى، للحصول على نقل أفضل، فازدادت اللغة الفلسفية دقة وأصبحت تقنية، لان الذين ينقلون ويعيدون النقل كانوا أنفسهم فلاسفة. وانتهى عمل نقل التراث الهلنستى فى الربع الثالث من القرن التاسع . ففى حقل النقل ، قام المسيحيون العرب بنقل 90% من الفكر اليونانى فى ذلك الزمان ، وقد انطلقوا من نقل المؤلفات المفيدة ، أى تلك التى تختص بالتقنية أو الطب . وهكذا نقل «حنين» ستة وتسعين مؤلفا طبيا لجالينس وبقراط، يستطيع من كانت له خبرة فى النقل أن يتصور أى عملية هذه . هل يتساءل المرء بعد لماذا تقدم العرب والمسلمون فى الأزمنة الأولى ولماذا تقهقرت بهم السبل فى حاضرات أيامنا ؟.. لم يقتل المسلمون الأوائل المسيحيين العرب ويعلقوا رؤوسهم على الأسوار كما تفعل داعش اليوم، ولم يهدموا بيعهم ولا صوامعهم ، بل تتلمذ على أيديهم من تتلمذ ، وصار إلى ما صار إليه . تذكر لنا صفحات الأيام المنيرة أن الفارابى الذى سمى فى الفلسفة العربية «المعلم الثانى» بمعنى «ارسططاليس الثانى » أو «ارسططاليس الجديد» تتلمذ لثلاثة معلمين فى الفلسفة وكانوا ثلاثتهم مسيحيين نسطوريين هم: الطبيب والفيلسوف النسطورى إبراهيم المروزى و يحيى أو يوحنا بن حيلان ، ثم أبو بشر متى بن يونس وهو فيلسوف نسطورى أيضا، وصلت إلينا شروحه لأرسطو . لم تتوقف الحضارة الإسلامية وفلاسفة الإسلام العظام عند الأخذ من المسيحيين العرب، بل فى حاضنتها تتلمذ مسيحيون عرب لاحقا، ليضحوا علامات بارزة فى التاريخ الفكرى الإسلامى . كان الفارابى ، فى مرتبة المعيد فى العالم المعاصر ، وكان بين طلابه شاب يدعى «يحى بن عدى» ( 893-974) ، مسيحى يعقوبى سريانى، اصغر منه بثلاثين سنة ، أصبح بعد ذلك فى آن واحد تلميذ أبى بشر والفارابى . وبعد وفاة الفارابى ، أصبح يحى بن عدى أستاذ الفلسفة فى العالم الإسلامى ، فكانوا يلجأون إليه من جميع الجهات لحل القضايا الفلسفية، وترك لنا إنتاجا واسعا أى نحو مئة مؤلف، منها مقالة صغيرة فى الرياضيات والهندسة ولقد لفت الشارح الانتباه الى أن يحيى كان أول من فكر فى تقسيم مساحة الأرض بطريق معينة . ولم يستعمل الغرب هذه الطريقة إلا بعد ستة قرون على يد جاليليو . هل ما يجرى فى العراق وسوريا وغيرهما من دول العالم العربى حيث الصعود غير المفهوم والمعاكس لاتجاهات العولمة وحركة التطور الطبيعى للأصوليات الفاشية الإسلامية هو ضرب من ضروب مكر التاريخ كما يذهب الى ذلك الفيلسوف الألمانى الكبير هيجل ؟ هل هى صحوة الموت لتلك الراديكاليات السلبية التى تنفر المسلمين منها قبل غيرهم والتى كان لابد للتاريخ الإسلامى المعاصر أن يتقياها حتى يخلص الجسم الإسلامى من أضرارها، ليعود ويقلب صفحة جديدة ؟. يأمل المرء أن يكون ذلك كذلك ، وإلا فالاسوأ قادم ولا شك، وخلف الباب رايات داعشية سوداء تتشوق لان تتسيد على كل التاريخ والجغرافيا العربية والإسلامية المعاصرة وعلى العيش المشترك للإسلام والمسيحية فى بلاد العرب عبر ألف وأربعمائة عام . لمزيد من مقالات إميل أمين