المصريون بالخارج يواصلون الإقبال على لجان التصويت في انتخابات النواب 2025    محمد عبد اللطيف يكلف التربية والتعليم بتولي إدارة مدرسة سيدز الدولية    الوطنية للانتخابات: استئناف التصويت لليوم الثانى ب105 مقرات انتخابية حتى الآن    جامعة القاهرة تطلق أول دليل مؤسسي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي    الرئاسة في أسبوع.. السيسي يفتتح محطات بحرية.. يشارك في مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة.. يوجه تكليفات حاسمة للحكومة والوطنية للانتخابات.. ويستقبل رئيس كوريا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : فليخسأ المتقولون !?    أسعار الخضراوات والفاكهة في سوق الجملة اليوم السبت    أسعار الحديد اليوم السبت في محافظة الغربية    الدولار يسجل 47.50 جنيه في 5 بنوك صباح اليوم السبت    سعر الدولار اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 أمام الجنية المصري    معهد بحوث الصحة الحيوانية ينفذ حملات لحماية الثروة الداجنة من أمراض الشتاء    سعر كرتونة البيض في بورصة الدواجن والأسواق اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 فى المنيا    أيمن عاشور يعقد اجتماعًا مع مجموعة خبراء تطوير التعليم العالى    رئيس الوزراء يصل إلى مقر انعقاد قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرج    أوكرانيا تدرس خطواتها في ظل ضغط ترامب للقبول بخطة السلام مع روسيا    وزير الخارجية يتلقى مع مستشار الأمن القومي البريطاني    الدفاع الروسية: تدمير 69 مسيرة أوكرانية خلال ال 24 الساعة الماضية    اليوم.. مؤتمر صحفي لأحمد عبد الرؤوف وعمر جابر قبل لقاء الزمالك وزيسكو    مواعيد مباريات اليوم السبت 22- 11- 2025 والقنوات الناقلة    سيناء تستقبل أول أفواج رحلات «شباب مصر» لتعزيز الانتماء ودعم الوعي التنموي    الأهلي وشبيبة القبائل.. مواجهة القوة والطموح بافتتاح مجموعات دوري الأبطال    ليفربول يستضيف نوتنجهام فورست في الدوري الإنجليزي    شيكو بانزا يظهر فى مران الزمالك الأخير استعدادا ل زيسكو بعد وفاة شقيقه    حركة سير هادئة وانتشار أمني لتأمين الطرق في القاهرة والجيزة    بدء محاكمة رمضان صبحي في قضية التزوير    إصابة 4 أشخاص في تصادم بين سيارة نقل أموال وملاكي بالشيخ زايد    موعد تطبيق منظومة السيارات الجديدة بديلة التوك توك فى الجيزة    إصابة 28 عاملًا وعاملة في إنقلاب سيارة ربع نقل ببني سويف    النشرة المرورية.. انتظام حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    فوز «كلب ساكن» بجائزة أفضل فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية    نقابة الموسيقيين تقرر وقف مطرب المهرجانات كابونجا عن الغناء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    الصحة: اعتماد 4 وحدات رعاية أولية جديدة وفق معايير «GAHAR»    «الصحة»: اعتماد 4 وحدات رعاية أولية جديدة وفق معايير «GAHAR»    مخاطر صحية.. 4 أسباب لعدم تأجيل تطعيمات طفلك    منظمة الصحة العالمية: أكثر من 16.5 ألف مريض بغزة في انتظار الإجلاء الطبي    «قنديل» يتفقد مستشفى الشروق المركزي ومركز طب أسرة "63 مترا" ويوجه بإجراءات عاجلة    سعر الجنيه الإسترلينى اليوم السبت فى البنوك 22-11-2025    اليوم.. محاكمة 6 متهمين بقضية "خلية مصر الجديدة"    فرنسا لمواطنيها: جهزوا الطعام والماء لحرب محتملة مع روسيا    عمرو أديب: هو إحنا مانعرفش نعمل انتخابات بما يرضى الله.. اجعلوها شريفة عفيفة    حين صدحت مصر بصوتها.. حكاية «دولة التلاوة» كما رواها الناس    الاتحاد الأوروبى يدعو طرفى القتال فى السودان لاستئناف المفاوضات    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    محمد موسى يهاجم الجولاني: سيطرتك بلا دور.. والسيادة السورية تنهار    أبرزها وظائف بالمترو براتب 8000 جنيه.. «العمل» توفر 100 فرصة للشباب    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    مفاجآت جديدة في قضية سارة خليفة: تنظيم دولي مش جريمة فردية    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الأحد في الدوري الممتاز    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    أحمد حسن يكشف أسباب عدم ضم حجازى والسعيد للمنتخب الثانى بكأس العرب    محمد أبو سعدة ل العاشرة: تجميل الطريق الدائري يرتقى بجودة حياة السكان    عالم بالأوقاف: الإمام الحسين هو النور المكتمل بين الإمامة والنبوة    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيت الحكمة في بغداد .. رمز للحوار بين الحضارات
نشر في الفجر يوم 18 - 05 - 2013

الحوار الخصب الذي دار في بيت الحكمة بين حضارات الشرق والغرب، شكَّل نموذجًا رائعًا ورمزًا حيًّا لما ينبغي أن يكون عليه حوار الحضارات في عصرنا.

كان تأسيس بيت الحكمة في بغداد على أيدي العباسيين، حدثًا ثقافيًّا بالغ الأهمية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، إذ لم يكن مجرد مكتبة ومركز للترجمة والتأليف والمناظرة والنسخ فحسب، وإنما كان أيضًا (مسرحًا) للحوار بين حضارات الشرق والغرب آنذاك، ولا سيما الحضارة العربية الإسلامية والحضارات اليونانية (الإغريقية) والفارسية والسريانية والهندية.

ويستهدف هذا المقال إلقاء بعض الضوء على ظهور بيت الحكمة، والدور الذي نهض به في الحوار بين تلك الحضارات.

بيت الحكمة
المقصود ب"بيت الحكمة" الدار أو البيت الذي استخدم لحفظ أو خزن الكتب بصفة عامة، وكتب (الحكمة) أي (الفلسفة) بصفة خاصة. وكان مصطلح (الفلسفة) يشمل -في ذلك العصر- عددًا من العلوم مثل: الرياضيات، والفلك، والفلسفة، والمنطق، والطب، والطبيعة، وغيرها.

إنشاء يبت الحكمة
يُجمع المؤرخون على أن الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 192ه/809م) هو الذي وضع النواة الأولى لبيت الحكمة في بغداد، حيث أسس ما عُرف باسم (خزانة الحكمة). كانت عبارة عن مكتبة تحتوي على بعض كتب الفلسفة اليونانية، التي كان قد جلبها الرشيد معه من بلاد الروم (البيزنطيين)، أثناء إحدى حملاته على مدن آسيا الصغرى مثل: أنقرة، وعمورية.

وقد عهد الخليفة بترجمة هذه الكتب من اليونانية إلى العربية، إلى العالم المسيحي النسطوري: يحيى (يوحنا) بن ماسويه. كما اشتملت (خزانة الحكمة) هذه على بعض كتب التراث الفارسي، والتي عهد الرشيد بترجمتها من الفارسية إلى العربية، إلى الفضل بن نوبخت.

بيت الحكمة في عهد الخليفة المأمون
ولكن لم يبلغ بيت الحكمة ذروة نشاطه العلمي إلا في أيام الخليفة العباسي المأمون (ت 218ه/833م). فمن نافلة القول أن الخليفة المأمون كان يتميز بعقل مستنير وفكر حر وثقافة واسعة؛ ولهذا ما كاد يستقر في بغداد حتى أحدث تغييرًا كبيرًا في (الإستراتيجية) الثقافية للدولة العباسية، فلقد أدرك -من خلال تنشئته ودراسته من ناحية وعلاقته الوثيقة برجال العلم والأدب من عرب ومسلمين ونساطرة وفرس وهنود وصابئة من ناحية أخرى- أن بناء الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها مرتهن بالتفاعل والحوار بينها وبين الحضارات الأخرى، والإفادة من كنوزها؛ لأن ما توصل إليه علماء تلك الحضارات من نتائج علمية هو ملك للبشرية جمعاء، بغضّ النظر عن عقائد وأجناس وألوان هؤلاء العلماء.

الترجمة في عهد المأمون
وانطلاقًا من هذه (العقيدة العلميَّة) فتح المأمون أبواب الترجمة إلى العربية على مصراعيها. حقيقة إن الترجمة من الحضارات الأخرى إلى العربية كانت قد بدأت في العصر الأموي، وذلك عندما ترجمت بعض كتب الكيمياء من اليونانية إلى العربية، بناء على طلب الأمير الأموي خالد بن يزيد، ولكن هذه الترجمات وغيرها كانت كلها بمبادرات فردية وتتسم بالعفويَّة، وتتعلق بميادين علمية محددة.

أما في عهد المأمون، فقد غدت الترجمة سياسة أو (إستراتيجية) عامة للدولة العباسية، ولا ترتبط برغبة هذا الخليفة أو ذاك الأمير، كما أنها لم تعُدْ تتعلق بميدان دون آخر، وإنما أصبحت تشمل معظم العلوم والمعارف التي ازدهرت في الحضارات القديمة.

وفي ضوء ذلك رأى المأمون أن (خزانة الحكمة) التي أسسها والده، لا يمكن لها النهوض بالمشروع الثقافي الكبير الذي يعتزم القيام به؛ ولهذا حوَّلها إلى (مؤسسة) علمية، عُرفت باسم بيت الحكمة، مهمته ليست خزن الكتب والترجمة والتأليف والنسخ فحسب، وإنما احتضان مسألة الحوار بين الحضارات وتبادل العلوم والآداب والفنون فيما بينها.

جمع المخطوطات في بيت الحكمة
لقد حصل الخليفة المأمون على مخطوطات تراث الحضارات الأخرى من داخل العالم العربي والإسلامي وخارجه. فبالنسبة إلى مخطوطات التراث اليونانية -مثلاً- فقد حصل عليها من أماكن متعددة، بعضها جلب من جزيرة قبرص، حيث أرسل المأمون إلى حاكمها البيزنطي يطلب منه كتب الفلاسفة اليونان، التي كانت -كما يقول المؤرخون- (مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد)، فلبَّى الحاكم طلب الخليفة.

كما حصل المأمون على مجموعة أخرى من المخطوطات اليونانية من عاصمة الدولة البيزنطية، وهي القسطنطينية، وذلك بعد مراسلات تمت بينه وبين الإمبراطور البيزنطي. ومن العلماء الذين بعث بهم الخليفة إلى العاصمة البيزنطية لاختيار المخطوطات ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، نذكر: يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، ويحيى بن البطريق، وغيرهم. وكان هؤلاء جميعًا من المسيحيين النساطرة، ويتقنون اللغة اليونانية.

كما وصلت إلى بيت الحكمة كميات كبيرة من المخطوطات اليونانية، من أديرة وكنائس بلاد الشام والرافدين، وذلك عن طريق العلماء العرب المسيحيين.

بيت الحكمة وجمع تراث الإنسانية
وبعد أن وصلت هذه المجموعات من التراث اليوناني إلى بيت الحكمة وتم تصنيفها وترتيبها وفقًا للأصول المرعية فيه، فتح المأمون أبواب العمل فيه لخيرة المترجمين والعلماء والأطباء والأدباء. وكان المعيار الرئيسي للعمل في هذه (المؤسسة العلمية) هو الكفاءة العلمية، وكان العلماء الأوفر حظًّا فيها -ماديًّا ومعنويًّا- هم الذين يتقنون لغة أجنبية أو أكثر، والذين ذاع صيتهم في ميدان من الميادين العلمية، والذين اشتهروا بالدقة والنزاهة العلمية.

ومن المترجمين والعلماء الذين عملوا في بيت الحكمة، نذكر: يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، وحنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وحبيش الأعسم، وقسطا بن لوقا وغيرهم. كان هؤلاء جميعًا من المسيحيين، وترجموا في بيت الحكمة من اليونانية والسريانية إلى العربية.

ومن العلماء المسلمين الفرس الذين عملوا في بيت الحكمة، وترجموا من الفارسية إلى العربية، نذكر: الفضل بن نوبخت، وسهل بن هارون. ومن العلماء الصابئة نذكر ثابت بن قرة، الذي ترجم الكثير من كتب الفلك والهندسة من اليونانية إلى العربية.

ومن العلماء العرب الذين عملوا في بيت الحكمة نذكر الفيلسوف الكبير الكندي، الذي كان عالمًا كبيرًا بالرياضيات والكيمياء والموسيقى، وقام بنشاط علمي كبير وبخاصة فيما يتعلق بوضع المصطلح العربي الملائم للأصل اليوناني، وذلك بالتعاون مع كبار المترجمين العاملين في بيت الحكمة. كما تولى عدد من العلماء والمترجمين رئاسة بيت الحكمة أمثال العالم الرياضي محمد بن موسى الخوارزمي في أيام الخليفة المأمون، وحنين بن إسحاق أيام الخليفة المتوكل (247ه/861م).

وقد أنفقت الدولة العباسية أموالاً طائلة على بيت الحكمة ونشاطاته العلمية. فقد كان عليها -مثلاً- أن تدفع مبالغ ضخمة للحصول على المخطوطات ونقلها، ومبالغ أخرى للمترجمين والعلماء والإداريين وأعمال النسخ والرصد والصيانة... إلخ. وتؤكد المصادر أن المأمون كان يعطي بعض المترجمين أمثال حنين بن إسحاق، وزن الكتاب الذي يترجمه ذهبًا.

لم يكتف المترجمون والعلماء العاملون في بيت الحكمة بترجمة الكتب من لغاتها الأصلية إلى العربية فحسب، وإنما قاموا بتفسير الكثير منها ونقدها وتصحيحها. بل إن بعض الكتب كان يترجم ويشرح ويصحح أكثر من مرة، ومن طرف أكثر من مترجم وعالم، ولا سيما إذا كانت الترجمة الأولى لا تتسم بالدقة والوضوح والفصاحة. فكتاب (أصول الهندسة) للعالم اليوناني إقليدس، وكتاب (المجسطي) أي (الكتاب الأعظم) للعالم اليوناني بطليموس، وقد تُرجما وفُسِّرا ونُقِّحا أكثر من مرة؛ توخيًا للدقة والأمانة العلمية.

البحث العلمي في بيت الحكمة
ولم يقتصر دور بيت الحكمة على الترجمة، وما يرتبط بها من نشاطات علمية، وإنما كان أيضًا مركزًا للتأليف والمناظرة والبحث العلمي، لا سيما أنه كان يضم مكتبة ضخمة أعانت العلماء على إنجاز بحوثهم ومشاريعهم العلمية.

وتشير بعض الدراسات إلى أن عدد الكتب التي اشتملت عليها هذه المكتبة في أيام الخليفة المأمون، ما بين كتب عربية وأجنبية، مؤلفة ومترجمة، بلغ نحو مليون كتاب. وتؤكد المصادر أن الخوارزمي حقق معظم إنجازاته الرياضية اعتمادًا على مكتبة بيت الحكمة. كما أن عددًا كبيرًا من علماء الفلك حققوا كشوفهم العلمية اعتمادًا على المرصد الفلكي الذي كان ملحقًا ببيت الحكمة.

لقد استمر بيت الحكمة يؤدي رسالته الحضارية، بالرغم من الظروف القاسية التي عصفت بالخلافة العباسية، حتى انتهى دوره باكتساح المغول بغداد عام (656ه/1258م) حيث غدا أثرًا بعد عين.

بيت الحكمة .. حوار للحضارات
والواقع أن أعظم ما تمّ في بيت الحكمة هو الحوار بين الحضارات، التي التقت على ساحته، وبخاصة الحضارات العربية الإسلامية واليونانية والفارسية والسريانية والهندية. وعلى الرغم من اختلاف هذه الحضارات من حيث أسسها وخصائصها ومظاهرها وسياقها التاريخي، فإنّها تفاعلت فيما بينها وتبادلت العلوم والآداب والمفاهيم والمناهج، لا سيما أنها -في نهاية المطاف- حصيلة جهود وإبداعات تراكمت عبر الزمن، وشكلت تراثًا للإنسانية جمعاء.

بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية
وسنكتفي في مقالنا هذا بالإشارة إلى الحوار الذي جرى في بيت الحكمة بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية القديمة؛ لأنّ هذه الأخيرة كانت أكثر الحضارات الأجنبية التي قُدّر لها أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية من ناحية، وكانت الأساس الرئيسي الذي قامت عليه النهضة الأوربية في العصر الحديث من ناحية أخرى.

وينبغي أن نشير بداية إلى أنه كان من الصعوبة لهذا الحوار بين الحضارات أن ينجح ويؤدي رسالته الإنسانية، لولا الحرية التي توافرت لرجال العلم والفكر في بيت الحكمة، ولولا سياسة التسامح التي انتهجتها الدولة العباسية آنذاك تجاه الآخرين وحضاراتهم وعقائدهم، بحيث لم يمنع أحد من أهل العلم -على اختلاف مللهم ونحلهم- من المناظرة في أعقد المسائل، ولم تحاول أي ثقافة احتواء الأخرى، بل لم تحاول أي قوة سياسية أن تفرض ثقافة بعينها على الثقافات الأخرى. وهذا ما جعل الحوار بين الحضارات في بيت الحكمة يتسم بالهدوء والعقلانية والموضوعية واحترام الآخر، وهذا ما ساعد الحضارات جميعًا على أن تفيد من هذا الحوار، وتتبادل العلوم والآداب، والتي شكلت -في النهاية- رصيدًا ثريًّا للحضارة الإنسانية.

أما بالنسبة إلى ما أفادته الحضارة العربية الإسلامية من حوارها مع الحضارة اليونانية القديمة، فقد تجلى في الكثير من الميادين العلمية والفلسفية؛ ففي ميدان الطب -مثلاً- أفادت من مؤلفات أبقراط وجالينوس، وفي ميدان الفلسفة أفادت من مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وفي ميدان العلوم والرياضيات والهندسة أفادت من مؤلفات: أرخميدس وإقليدس وفيثاغورس وأبولونيوس وغيرهم، وفي ميدان الفلك والجغرافيا فقد أفادت مما كتبه بطليموس.

أما في ميدان اللغة، فقد تم إغناء اللغة العربية بالمصطلح العلمي من خلال المعاناة الحقيقية للترجمة في بيت الحكمة، حيث تم البحث عن بدائله باللغة العربية؛ لأنه حتى ذلك الوقت -تقريبًا- لم تكن اللغة العربية قد كوّنت لنفسها مصطلحات علمية تكفي للتعبير عن كل التراث العلمي والفلسفي للحضارة اليونانية.

لا شك في أن الحوار بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة اليونانية كان عاملاً مهمًّا في انتقال العرب والمسلمين إلى مرحلة النبوغ والإبداع، إذ لم يثبت العلماء العرب والمسلمون قدرتهم على استيعاب التراث اليوناني فحسب، وإنما على نقده وتجاوزه من ناحية، وعلى استخدامه في تلبية حاجات مجتمعهم الفكرية منها والمادية من ناحية أخرى.

أما ما أفادته الحضارة اليونانية القديمة (وبالتالي الحضارة الأوربية الحديثة) من الحوار مع الحضارة العربية الإسلامية في بيت الحكمة، فقد تجلّى في الكثير من الميادين، وفي مقدمتها إنقاذ العرب والمسلمين للتراث اليوناني القديم من الفناء والأسر والاحتقار الذي كان يعانيه في الغرب الأوربي والعالم البيزنطي على السواء.

فمن المعروف أن الكنيسة في الغرب قد حاربت التراث اليوناني القديم حربًا شعواء، ونظرت إليه على أنه تراث ضار بالعقيدة المسيحية لارتباطه بالوثنية، وحرّمت على المسيحيين الاطلاع عليه باعتباره من عمل الشيطان، وبالتالي تعرضت مؤلفات معظم الفلاسفة والأدباء اليونان للإهمال والازدراء. كما قام الإمبراطور البيزنطي جستنيان (ت 565م) بإغلاق مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529م.

ولقد ظل هذا الموقف المعادي للتراث اليوناني قرونًا طويلة، والدليل على ذلك أنه عندما بعث الخليفة المأمون إلى إمبراطور الروم يطلب منه كتب الفلسفة اليونانية، تردَّد الإمبراطور في تلبية طلبه، فهرع الرهبان إليه يحثونه على تلبية رغبة الخليفة، وقالوا له: (إن هذه الكتب لم تدخل بلدًا أو دولة إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها...)، وعندئذٍ أسرع الإمبراطور في إرسال تلك الكتب.

ولهذا كله لا نبالغ إذا قلنا: إن جلب التراث اليوناني إلى بيت الحكمة وترجمته إلى العربية هو إنقاذ له من الفناء. والدليل على ذلك أنه عندما بدأت أوربا تتلمّس بدايات نهضتها الحديثة، والتي قامت على أساس إحياء التراث اليوناني القديم، لم تجد في حوزتها سوى الترجمة العربية لهذا التراث؛ لأن معظم أصوله اليونانية الأولى كانت قد فُقدت. ولهذا قامت بترجمته عبر صقلية والأندلس خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، من العربية إلى اللاتينية.

ولكن لم يقتصر ما أفادته الحضارة اليونانية في حوارها مع الحضارة العربية الإسلامية على مسألة إنقاذ التراث اليوناني وحمايته وترجمته فحسب، وإنما أفادت أيضًا مما قام به العلماء العرب والمسلمون من شرح ونقد لهذا التراث، والذي شكَّل بدوره إضافة معرفية حقيقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.